22 سبتمبر 2025 / 21:15

إمارة المؤمنين نموذج متفرد في الفكر الأخلاقي الرياضي

محمد خياري

غارق في رياض التأمل، أستنشق عبير إمارة المؤمنين، تلك المؤسسة الفريدة التي تختزل في وجد المغاربة روح الولاية والسمو الروحي. وفجأة، يهتف إلي محب للنقاء الشريف، يمد يده بكأس أخرى من خمر إبداعات إمارة المؤمنين المضيئة، فتشرح النفس وتسكن الروح، كأنني أتذوق حضورا أبديا من نور الحكمة، يغني الزمان، ويحيي القلب، ويظلل التاريخ بسحره وصدق حضوره، فتتجلى معان الشموخ والصفاء في أبهى صورة وأرقى صياغة.

هل تدرك أن إمارة المؤمنين تعد أول مؤسسة على مستوى العالم – نعم، على مستوى العالم – أصدرت فتوى تحرم تعاطي المنشطات في مجال الرياضة؟ هذه الفتوى ليست مجرد قرار عابر، بل تعبير صادق عن روح الشريعة الحريصة على حماية الإنسان من كل ما يهدد صحته الجسدية، وأخلاقه السامية، وكرامته الإنسانية. فقد نظرت إمارة المؤمنين بحكمة فائقة إلى هذه المسألة، معتبرة المنشطات تهديدا فادحا لقيم الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والمال، وهي قيم جوهرية تشكل شبكة أمان تقي الإنسان من الانزلاق نحو الفساد والمفسدة.

ما يميز هذا الإبداع ليس فقط صدوره من مؤسسة دينية مغربية عريقة، بل أيضا تأثيره الفريد الذي تجاوز حدود المغرب، ليصل إلى أروقة الفاتيكان في أوروبا. ففي عهد البابا بنديكت، اجتمع كبار الكرادلة لدراسة هذه الفتوى التي أبدت الروحانية السامية، والعمق القانوني والأخلاقي في الوقت نفسه، فاندهشوا من دقتها وتبصرها. لم تكن مجرد فتوى، بل أصبحت نموذجا يحتذى به، وتوجب اتباعه، فصار الفاتيكان يتخذها منبرا ومنهجا يمنع من خلاله تعاطي المنشطات في الرياضة، ملتزما بذلك بالقيم الروحية والأخلاقية التي كانت إمارة المؤمنين سباقة للدفاع عنها.

لقد كان هذا القرار الفريد مرتكزا على حماية الإنسان باعتباره كائنا جامعا بين الجسد والروح، لا يجوز التفريط في أي من بعديه. ومن هنا، يمكن القول إن إمارة المؤمنين أرست نموذجا متفردا في الفكر الأخلاقي الرياضي، يجسد اتحاد الدين والقانون في خدمة البشرية، ويمثل علامة مضيئة في سجل المؤسسات الدينية العالمية التي تتفاعل بعمق مع تحديات العصر الحديث.

بل، قبل قرون عديدة، انطلقت من التربة المغربية أول فتوى تحرم التدخين، كنسمة عذبة لتنقية النفس، ترفعها إلى صفاء الفطرة وسمو الروح. لم تكن هذه الفتوى تحذيرا عاديا من دمار الجسد، بل مناداة صادقة إلى القلب لتجنب لهيب الإدمان، وحفظ نقاء الروح وصفاء البدن. حينها، لم تكن هناك أجهزة مسح حديثة تظهر خطر السموم، ولم تكن هناك فرصة لكتابة التحذيرات على أغلفة السجائر، فبقيت هذه الفتوى شعلة متوهجة تضيء دروب الحكمة، تذكرنا بأن الصحو الحقيقي هو سلامة القلب وقوة العقل، وأن الحياة تزدهر حين تحفظ النفس من كل أذى واضطراب.

أرجع إلى ما ذكرته في بوح سابق عن الصمت المغربي باعتباره مقاما من مقامات الولاية لا يدركه من اعتاد على التحليل، بل من ذاق طعم الرمز، وسكن في حضرة السكوت. إمارة المؤمنين، حين تصمت، لا تغيب، بل تحضر بكثافة تربك التفسير. صمتها ليس انسحابا، بل إعادة ترتيب للغة، وإشارة لمن يعرف أن الهيبة لا تفسر، بل تذاق. هي تمارس صمتها كما تمارس الذكر، وكما تمارس الإنصات للفيض، وكما تمارس الحضور في غياب الكلام.

إن فتوى إمارة المؤمنين التي حرمت المنشطات في الرياضة تحمل رمزية نادرة، تختزل في طياتها حكمة متجددة تتجاوز حدود الزمان والمكان، لتكون منارة فكرية وروحية أسبق من كثير من القرارات العالمية. هذه الفتوى ليست مجرد موقف فقهي أو قانوني، بل إشراقة نور أصيل ينبعث من عمق الروح المغربية، كأنها نبع يخترق ظلمات عالم متغير، مضطرب واعوجاجه يهدد جوهر الإنسان وقيمه الأصيلة.

في جوف هذه الرمزية صمت عسير، صمت مغربي عميق يتوارى وراءه بحر من المعاني والدروس، كنوز لا يلتقطها إلا من توغل في مدرسة إمارة المؤمنين وتلمس مقامها الروحي السامي. فهي ليست مجرد مؤسسة إدارية أو دينية، بل مقام روحاني سام، تلتقي فيه إرادة الإنسان بالله، وحيث تتجلى معاني الولاية والقدسية في سلوك يحيي النفس ويوقظ العقول. من فهم هذا المسرح الروحي يدرك أن تحريم المنشطات ليس تحريما عاديا بقدر ما هو حماية لجوهر الإنسان المقدس، حفاظا على توازن النفس والجسد والروح، تبرؤًا من كل ما يلوث العشق الرباني ويسلب الإنسان فطرته الأصيلة.

إن هذا القرار الفقهي يحمل في أعماقه ثورة روحية تنبه إلى أن القوة الحقيقية ليست في العوامل الخارجية أو المنشطات الرديئة، بل في قوة الإيمان، ونقاء القلب، وسلامة العقل، التي تثمر بها الأرواح وتتوهج في ميادين الحياة بصحة وعزة.

وهكذا، تصبح فتوى إمارة المؤمنين رمزا من رموز الحكمة التي تزهر في جوف الأصالة وتتحدى رياح الحداثة المتسارعة، ناقلة رسالة خالدة: أن الطهارة روح الرياضة الحقة، وأن النقاء هو السبيل إلى السمو والخلود في آفاق الروح البشرية.