4 سبتمبر 2025 / 16:12

إمارة المؤمنين حل لإشكالية المرجعيات في الدولة المغربية الحديثة

محمد خياري

مقدمة:

في عالم تتسارع فيه التحولات، وتتشابك فيه المرجعيات، وتتنازع فيه الرؤى حول معنى الدولة ووظيفتها، تظل العلاقة بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي ومواثيق حقوق الإنسان من أعقد القضايا التي واجهت الفكر السياسي والقانوني المعاصر. هذا التعقيد يتضاعف حين تكون الدولة ذات مرجعية إسلامية منصوص عليها في دستورها أو متجذرة في رمزيتها، كما هو الحال في المغرب، حيث لا تُفهم السياسة ولا القانون ولا الحقوق إلا في ضوء تاريخ طويل من التفاعل بين الدين والدولة، بين النص والاجتهاد، بين الهوية والانفتاح.

وإذا أضفنا إلى هذه المعادلة عنصر الخصوصية الثقافية، وعمق التراكمات التاريخية، وتنوع البنية الاجتماعية، أدركنا أن الدولة الحديثة في السياق المغربي ليست أمام مجرد معادلة تقنية، بل أمام هندسة حضارية دقيقة، تُعيد ترتيب السلطة على نحو يراعي الثوابت ويُدير المتغيرات، ويوازن بين الوفاء للأصول والانفتاح على العصر.

في هذا الأفق، يقدّم المغرب تجربة فريدة في إدارة هذا التعدد المرجعي، تجربة تتجسد في مؤسسات دينية وتشريعية وحقوقية تتفاعل فيما بينها، تحت سقف إمارة المؤمنين، التي تمثل المرجعية العليا الضامنة لوحدة الأمة في دينها ودنياها، والحارسة على أن تظل الشريعة روحًا حاضرة في التشريع، لا ذكرى بعيدة ولا شعارًا فارغًا. هذه التجربة تسعى إلى إنتاج سياسات تجسد روح الشريعة، وتراعي مقتضيات القانون، وتحتضن الحقوق الكونية، دون أن تفرط في الهوية أو تغلق أبواب الاجتهاد.

إن القول بخروج الشريعة من دائرة التشريع في المغرب قول مردود، لا ينهض أمام الواقع الدستوري ولا أمام الممارسة المؤسسية، حيث يظل النص القرآني والسنة النبوية ومقاصدهما الكبرى حاضرين في صياغة القوانين، وإن عبر آليات حديثة تراعي السياق وتستجيب لمقتضيات الدولة المعاصرة.

 

أولا: البنية المفاهيمية للسلطة الشرعية في الدولة الحديثة:

لقد قامت المنظومة الإسلامية التقليدية على تمييز دقيق بين مستويات الخطاب والسلطة: الشريعة، وهي الوحي الإلهي الثابت الذي لا يتبدل؛ الفقه، وهو اجتهاد بشري في فهم الشريعة وتنزيلها على الواقع، يتأثر بالزمان والمكان؛ الفتوى، وهي رأي فقهي يراعي حال المستفتي وظروفه؛ الحكم القضائي، وهو فصل في نزاع بعينه، يُنفذ بقوة الدولة؛ والقانون، وهو صياغة عامة مُلزمة للجماعة، تراعي العدالة الإجرائية وتضبط إيقاع الحياة العامة.

في الدولة الحديثة، لا يمكن إدارة الشأن العام بالفتاوى أو الأحكام القضائية وحدها، إذ أصبح القانون ضرورة لتنظيم العلاقات وضمان الحقوق. لكن هذا القانون، في الرؤية المغربية، ليس غريبًا عن الشريعة، بل هو امتداد لمقاصدها، وصياغة معاصرة لروحها، إذا ما استُمد من معينها واستأنس باجتهاد الفقهاء، وراعى خصوصية المجتمع وثقافته.

هنا تبرز إمارة المؤمنين كإطار جامع، يضمن أن يظل القانون في المغرب متصلاً بجذوره الشرعية، حتى وهو يتبنى الصياغات الحديثة. فهي المرجعية التي توحّد المجلس العلمي الأعلى، وهيئة الإفتاء، والمحاكم القضائية، والمشرّع البرلماني، في نسيج واحد، حيث تتكامل الوظائف بدل أن تتنازع. المجلس العلمي الأعلى وهيئة الإفتاء المنضوية تحته تحرسان صفاء المرجعية وتفتحان باب الاجتهاد المنضبط، والمحاكم تُنزل الأحكام في وقائع محددة، والمشرّع يضع قوانين تستلهم من الجميع، وتخاطب الجماعة بروح العدل والرحمة.

هذا التفاعل بين المرجعيات ليس مجرد تنسيق إداري، بل هو سير روحي وفكري، حيث يمشي النص والاجتهاد جنبًا إلى جنب، وحيث يلتقي القانون بالرحمة، والفرد بالجماعة، في مشهد يعكس فلسفة المغرب في الحكم: الأصالة التي لا تنغلق، والمعاصرة التي لا تذيب الذات.

 

ثانيا: تحديات المواءمة بين الشريعة والقانون وحقوق الإنسان

لقت استقرّت حقوق الإنسان في الضمير العالمي، كثمرة قرون من التجربة الإنسانية، لكنها أيضًا محمولة على تصورات فلسفية قد لا تتطابق مع المرجعية الإسلامية في كل تفاصيلها. هنا برز التحدي: كيف نحافظ على الوفاء لمقاصد الشريعة، وفي الوقت نفسه ننفتح على هذا الإرث الكوني دون أن نذوب فيه أو نرفضه جملةً؟

اختارت التجربة المغربية طريقًا وسطًا، لا هو طريق الانغلاق الذي يحوّل الثوابت إلى جدران، ولا هو طريق الذوبان الذي يذيب الهوية في محيط بلا ملامح. بل هو طريق التأويل المقاصدي، حيث تُقرأ الحقوق الكونية في ضوء المصلحة المرسلة، ومراعاة المآلات، وحيث يُعاد بناء الثوابت على أساس الاستمرارية لا الجمود، فيكون التغيير تدريجيًا، والحوار مفتوحًا، والهوية محفوظة.

وهنا تلعب إمارة المؤمنين دور الضابط الأعلى لهذا التوازن، فهي التي تضمن أن أي انفتاح على المواثيق الدولية لحقوق الإنسان يمر عبر غربال المقاصد الشرعية، فلا يُقبل ما يناقض جوهر الدين، ولا يُرفض ما يحقق العدل والكرامة. وهي التي تحسم الجدل حين يتنازع الفقه والقانون، أو حين يلتبس على الناس معنى الحق والواجب.

إن القول بخروج الشريعة من التشريع في المغرب يتجاهل هذا الدور المحوري لإمارة المؤمنين، ويتغافل عن أن الدستور المغربي نفسه ينص على أن المملكة دولة إسلامية، وأن الملك أمير المؤمنين، حامي حمى الملة والدين، وضامن حرية ممارسة الشؤون الدينية. هذا الإطار يجعل من الشريعة مرجعية حاضرة، وإن عبر آليات حديثة.

 

ثالثا: آليات التطبيق وسبل القياس:

 إن الرؤية، مهما سمت، تحتاج إلى تنزيل حكيم. والمغرب، في هذا الباب، اعتمد هندسة قانونية وروحية تقوم على تعددية منسجمة: الشريعة، الفقه، المصلحة، الأعراف، والمواثيق الدولية، كلها حاضرة في صياغة التشريعات. الفتوى تُستأنس بها، لكن القانون يظل عامًا، يراعي العدالة الإجرائية، ويُعيد تأويل حقوق الإنسان بما يتماشى مع القيم الإسلامية، دون رفض أعمى أو تبني غير نقدي.

أدوات الاجتهاد مثل المصلحة المرسلة ومراعاة المآلات ليست هنا مجرد مصطلحات فقهية، بل هي بوصلة عملية لضبط السياسات، خاصة في القضايا الاجتماعية والاقتصادية. والسياق الدولي والداخلي يُقرأ بعينين: عين تحفظ السيادة والهوية، وعين تبحث عن فرص التمكين عبر الحوار والتفاوض.

إمارة المؤمنين هنا ليست مجرد رمز، بل هي مؤسسة عملية، تشرف على المجلس العلمي الأعلى، وتوجه السياسة الشرعية، وتضمن أن يظل القانون في خدمة المقاصد الكبرى: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. وهي التي تضمن أن الحوار بين المرجعيات لا يتحول إلى صراع، بل يظل وسيلة للتكامل.

أما قياس أثر هذه السياسات، فلا يقتصر على الأرقام، بل يشمل مؤشرات كمية ونوعية واستراتيجية، منها:

– رضا المواطنين عن السياسات العامة، بوصفه مقياسًا لمدى شعورهم بالعدالة والانتماء.

– معدل الامتثال القانوني وانخفاض النزاعات، كدليل على أن القانون يُحترم لأنه عادل لا لأنه مفروض بالقوة.

– مؤشرات التنمية البشرية والتمثيل الثقافي والديني، بما يعكس توازن الهوية والانفتاح.

– تحليل الخطاب العام ومستوى الحوار الوطني، كمؤشر على نضج الوعي الجمعي.

– البحث في نقط القوة والضعف، لا للتقليد الأعمى، بل للتعلم الواعي، واستلهام التجارب دون التفريط في الذات.

إن النجاح الحضاري في هذا السياق لا يُقاس فقط بمدى فعالية السياسات، بل بقدرة الدولة على إنتاج قانون يُحترم لأنه عادل، وعلى جعل المواطن يشعر أن هويته مصانة، وأن انفتاحه على العالم لا يعني خروجه من دائرة الانتماء. ويُقاس أيضًا بقدرة المؤسسات على تحويل الحوار إلى وسيلة للتغيير، لا ساحة للصراع، وعلى جعل المرجعيات تتكامل بدل أن تتصارع، في مشهد يعكس نضجًا سياسيًا وروحيًا فريدًا.

وهنا، تظل إمارة المؤمنين هي الضامن الأعلى لهذا التوازن، فهي التي تسهر على ألا يُختزل الدين في شعارات، ولا تُفرغ الشريعة من مضمونها، ولا يُستعمل القانون كأداة قسر، بل كوسيلة رحمة وعدل. وهي التي تضمن أن تظل الدولة مجالًا للتفاعل بين الإنسان والنص، بين الواقع والمقصد، بين القانون والرحمة.

 

خاتمة:

إن التجربة المغربية في المواءمة بين المرجعيات الدينية والقانونية والحقوقية ليست مجرد نموذج إداري ناجح، بل هي نص حضاري مفتوح، تُكتب فيه سطور من الحكمة، وتُقرأ فيه معاني من العمق، وتُستشف منه رؤى من التوازن. هي تجربة تُعيد تعريف الدولة، لا بوصفها جهازًا إداريًا، بل بوصفها فضاءً روحيًا وفكريًا، تتفاعل فيه المرجعيات، وتتناغم فيه الأصوات، وتُصان فيه الهوية، ويُحتضن فيه التعدد، ويُفعل فيه الحق.

وإذا كانت بعض الأصوات تُشكك في حضور الشريعة في التشريع المغربي، فإن الواقع الدستوري، والممارسة المؤسسية، والدور المحوري لإمارة المؤمنين، كلها تُثبت أن هذا القول مردود، لا يستقيم مع حقيقة المغرب، ولا مع روحه، ولا مع مساره التاريخي. فالشريعة في المغرب ليست غائبة، بل حاضرة في روح القانون، وفي مقاصد السياسات، وفي خطاب الدولة، وإن عبر أدوات حديثة وآليات متطورة.

إن هذا النموذج المغربي، بما راكمه من مؤسسات وسياسات وخطابات، يُثبت أن المواءمة ليست خيارًا سياسيًا عابرًا، بل ضرورة حضارية، تُعيد ترتيب العلاقة بين الثوابت والمتغيرات، وتُنتج سياسات تُحترم لأنها عادلة، وتُقاس لأنها فعّالة، وتُقدَّر لأنها تُعبّر عن هوية لا تنغلق، وعن انفتاح لا يُذيب الذات.

وفي قلب هذا النموذج، تظل إمارة المؤمنين هي النور الذي يُضيء الطريق، والميزان الذي يُقيم العدل، والضمانة التي تحفظ التوازن، لتظل الدولة المغربية، في سيرها نحو المستقبل، وفيةً لروحها، منفتحةً على العالم، مبدعةً في صياغة حاضرها، وراسخةً في جذورها، كما الشجرة الطيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء.