إعدام ناشطة “تيك توك” في مالي.. سلاح “القاعدة” الجديد لترهيب المجتمعات الإفريقية
دين بريس
يعتبر إعدام الناشطة المالية مريم سيسيه على يد عناصر من جماعة نصرة الإسلام والمسلمين في شمال مالي، لحظة استراتيجية بالغة الدلالة في تطور مسار الإرهاب بمنطقة الساحل والصحراء، فالعملية، وإن بدت في ظاهرها عملا انتقاميا محدودا، فإنها في جوهرها تكشف عن تحول في العقيدة العملياتية لتنظيم القاعدة وفروعه الإفريقية من السيطرة الميدانية إلى إدارة الخوف عبر المجال الرقمي والإعلامي.
إنها انتقال من “الهيمنة العسكرية” إلى “الهيمنة الاتصالية”، التي توظف المنصات الاجتماعية كسلاح ناعم لتقويض الثقة المدنية وإرباك البنية المجتمعية والدولية.
أولا: من منظور استراتيجي، يظهر هذا الإعدام أن التنظيم بصدد إعادة بناء أدوات الردع والهيمنة بعد تآكل نفوذه الميداني في ظل الضربات الجوية والتنسيق العسكري بين الجيوش الإفريقية وشركائها الجدد، فبعد أن فقدت القاعدة كثيرا من قدرتها على السيطرة الترابية بفعل العمليات المشتركة في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، انتقلت إلى مرحلة ما بعد التمركز العسكري، حيث تسعى لإعادة إنتاج الخوف باستخدام أدوات رمزية، تستهدف فيها المجتمع أكثر من الدولة.
إن استعراض القوة عبر القتل العلني لناشطة مؤثرة على “تيك توك” هو رسالة محسوبة الهدف: مفادها أن الجماعة ما زالت قادرة على العقاب والسيطرة، حتى في غيابها عن الميدان.
ثانيا: يندرج هذا الفعل ضمن ما يمكن وصفه بـ“الاستراتيجية الاتصالية للجهاد”، والتي تقوم على استثمار الفضاء الرقمي كمسرح جديد للصراع، فاختيار مريم سيسيه ـ وهي شابة مدنية تمثل نموذجا للخطاب الاجتماعي الإيجابي ـ يعكس وعي التنظيم بأهمية “رأس المال الرمزي” الذي بات ينافس رأس المال العسكري.
لقد استبدل التنظيم السيطرة على المدن بالسيطرة على الصورة، وصار يعتمد على القتل بوصفه رسالة اتصالية: فالإعدام يراد به إيصال إشارات متعددة الاتجاهات إلى السكان المحليين، والسلطات، والجماهير الرقمية عبر العالم.
ثالثا: على المستوى الجيوسياسي، يظهر هذا الحدث نقلة في تكتيكات الجهاد العابر للحدود، إذ لم تعد التنظيمات المسلحة تكتفي بالعمل داخل مسرحها الإقليمي، بل بدأت تبني حضورا في الفضاء المعلوماتي العالمي، حيث يسهل إعادة بث المشاهد والترويج لها.
وهنا تكمن الخطورة في أن الجماعة تمارس نوعا جديدا من “الاحتلال غير الملموس”، قائم على توجيه الإدراك الجماعي بدلا من السيطرة على الأرض، فالإرهاب الرقمي يتيح للتنظيمات توسيع مجال نفوذها بتكلفة منخفضة، مع مضاعفة تأثيرها النفسي، وهو ما يمثل تحولا استراتيجيا من الصراع العسكري إلى الصراع الإدراكي.
رابعا: من زاوية أمنية، تعكس العملية ضعف منظومة الردع المحلية في مالي، وتكشف عن فجوة استخباراتية وهيكلية بين التطور المفاهيمي للتنظيمات الإرهابية وبطء تكيف الدول مع البيئة الأمنية الجديدة، فالدولة المالية، التي تركز جهودها على استعادة السيطرة الترابية، لم تواكب بعد التحول نحو “الحرب الإعلامية غير المتكافئة”، حيث لم تعد الجماعات تحتاج إلى السيطرة على العاصمة أو الطرق التجارية لتفرض نفوذها، بل يكفيها تنفيذ عمل رمزي صادم يعاد تداوله رقميا ليعيد إنتاج الخوف.
خامسا: من زاوية التأثير الإقليمي، فإن الحادثة تمثل تحذيرا استراتيجيا للدول الساحلية المجاورة، خصوصا النيجر وبوركينا فاسو، التي تشهد بدورها نشاطا رقميا متناميا للجماعات الجهادية، فاستراتيجية “الإعدام الاتصالي” التي دشنتها القاعدة في مالي يمكن أن تتحول إلى نموذج دعائي قابل للتكرار في مناطق أخرى، إنها رسالة إلى كل مؤثر أو ناشط رقمي في فضاء الساحل: التعبير المدني صار تهديدا في نظر الجماعات، والمجال الافتراضي لم يعد آمنا.
سادسا: يمكن فهم الحادث أيضا ضمن سياق تنافس تنظيمي بين القاعدة و”داعش” في إفريقيا، فبينما يركز تنظيم الدولة على استعراض القوة في الميدان، تحاول القاعدة الظهور بمظهر “الحاكم الأخلاقي” الذي يفرض سلطته باسم القيم الدينية والعقاب العلني، وتسعى إلى ترميم صورتها كتنظيم منضبط قادر على فرض نظام رمزي في مجتمعات تعيش فراغا مؤسسيا.
إن مواجهة الإرهاب الرقمي تتطلب استراتيجية متعددة الأبعاد: أمنية واستخباراتية وإعلامية وتربوية، تقوم على بناء خطاب مضاد، وتعزيز الوعي الرقمي، ودعم حرية التعبير المسؤولة التي تكسر دائرة الخوف.
وإذا كانت الجماعات تسعى إلى إدارة الإدراك، يتعين على الدول أن تستعيد السيادة على الفضاء الرمزي، وإلا فإن السيطرة العسكرية على الأرض ستبقى بلا معنى أمام احتلال العقول الذي تمارسه التنظيمات في صمت من وراء الشاشات.
التعليقات