دين بريس ـ سعيد الراشيدي
يعود الصحافي والباحث اللاهوتي الأميركي براندون أمبروسينو Brandon Ambrosino بكتاب جديد يحمل عنوان “Is It God’s Will? Making Sense of Tragedy, Luck and Hope in a World Gone Wrong” (هل هي مشيئة الله؟ فهم المأساة والحظ والرجاء في عالم مضطرب)، ليضع قضية الشر والألم في صميم النقاش اللاهوتي المعاصر.
يتخطى الكتاب حدود المعالجة النظرية للسؤال الكلاسيكي المتعلق بسبب سماح الله بوجود الشر، لينطلق من معطيات وتجارب شخصية وسياسية معاصرة، ما يمنح البحث طابعا إشكاليا أكثر إلحاحا وصلابة في الارتباط بالواقع المعيش.
جاءت الشرارة الأولى لكتابة هذا العمل، حسب حواراته المنشورة، من حدثين متزامنين وقعا في صيف واحد: الأول محاولة اغتيال الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، والتي نجا منها فيما قُتل رجل إطفاء كان حاضرا في المكان.
وأثار الحدث تساؤلات في الأوساط المسيحية الأميركية حول ما إذا كانت نجاة ترامب تعني أنه يحظى ببركة إلهية.
أما الحدث الثاني، فكان أكثر قربا من حياة المؤلف، حين توفي صديقه المقرب بسكتة قلبية مفاجئة في سن الرابعة والأربعين، تاركا زوجة وطفلين.
وبين هاتين الحادثتين ولدت أسئلة وجودية عميقة: لماذا ينجو شخص ويموت آخر؟ ولماذا يُترك الأطفال للموت في حوادث العنف المسلح المتكررة؟ وإذا كان الله كلي القدرة والعلم، فلماذا لا يتدخل لمنع هذه المآسي؟
يرى “أمبروسينو” أن اللاهوت التقليدي عاجز اليوم عن تقديم إجابات مقنعة لهذه الأسئلة، فالصورة الكلاسيكية لله كإله كلي القدرة وكلي العلم، لكنه يلتزم الصمت أمام الشر والمعاناة، لم تعد مقبولة عنده لا من الناحية الأخلاقية ولا من الناحية الوجودية.
لذلك يقترح في كتابه تصورا بديلا يغير ملامح النقاش: الله ليس إله السيطرة المطلقة الذي يتحكم في كل تفاصيل العالم، بل إله المرافقة الذي يسير مع البشر في معاناتهم، ويدفعهم نحو الرجاء والحب في مواجهة الفوضى، هذه الصورة قد تبدو صادمة للمؤمنين التقليديين، لكنها في رأيه أكثر انسجاما مع التجربة الإنسانية اليومية، وأكثر قدرة على منح معنى وسط المآسي.
ويقدم “أمبروسينو” كتابه بلهجة صريحة لا تخشى زعزعة المسلمات، فهو يرفض مثلا التفسيرات الشائعة التي تعتبر أن المآسي جزء من “خطة إلهية” تهدف إلى تعليم البشر دروسا في الصبر أو الطاعة.
وبالنسبة له، لا يمكن أن يُقال لأرملة أو لطفل فقد والده في حادث عبثي إن هذه الخسارة تدخل ضمن “مشيئة الله”، مثل هذه اللغة تسيء إلى صورة الله وتحوله إلى كائن يتلاعب بمصائر الناس لحسابات غامضة.
على عكس من ذلك، يدعو المؤلف إلى فهم الله كقوة إقناع أكثر منه قوة قهر، كحضور يدفع الإنسان إلى التمسك بالأمل حتى في أحلك الظروف.
ويجد الكتاب صدى مع تيارات لاهوتية معاصرة مثل “اللاهوت الشعري” (Theopoetics)، الذي يبتعد عن الصرامة العقلانية للنظم اللاهوتية النظامية، وينفتح على البعد الأدبي والرمزي للنصوص المقدسة.
وبالنسبة لأمبروسينو، التوراة والإنجيل لا يقدمان نظاما مغلقا متماسكا، بل أصواتا متعددة تتجادل مع الله وتبحث عن المعنى وسط الألم، ويلتقي المؤلف مع أعمال منظّرين مثل جاك كابوتو وكاثرين كيلر، الذين رأوا في اللاهوت الشعري أفقا لتجديد العلاقة بين النص والواقع.
ولا ينفصل الكتاب عن تجربة المؤلف الشخصية، فقد نشأ أمبروسينو في بيئة مسيحية إنجيلية محافظة، ودرس في جامعة ليبرتي ذات التوجه الديني، قبل أن يخرج عن هذا السياق بجرأة حين أعلن عن هويته الجنسية المثلية في مجتمع يرفضها.
وجعلته هذه التجربة يتعامل مع اللاهوت من زاوية مغايرة، بمعنى أنه لا يسعى إلى مطابقة القوالب الأكاديمية الصارمة ولا يخشى الوقوع في الخطأ، بل ينطلق من الحرية التي منحتها له تجربته الذاتية، وهذا ما يمنحه جرأة إضافية في مساءلة المسلّمات، ويدفعه إلى إعادة صياغة أسئلة الإيمان بلغة جديدة.
من الناحية النقدية، يمكن القول إن أطروحة أمبروسينو تنتمي إلى خط فكري يجد امتداداته في كتابات سي. إس. لويس في The Problem of Pain، وإن كان لويس قد حاول التوفيق بين صورة الله الكلي القدرة ووجود الألم، فإن أمبروسينو يذهب أبعد في تفكيك هذه الصورة، مقترحا إلها لا يعرف المستقبل بالضرورة ولا يتحكم في كل التفاصيل، لكنه حاضر بقوة في لحظات الألم، ويمنح الناس القدرة على مواصلة الأمل.
ويقدم كتاب Is It God’s Will? إسهاما لاهوتيا يتجاوز الطابع الأكاديمي البحت ليخاطب القارئ العام أيضا، لأنه ينهل من تجارب يومية ومعاناة شخصية يمكن أن يتقاطع معها أي قارئ.
وقوته تكمن في صدقه، وفي إصراره على أن يكون اللاهوت أداة لفهم الحياة لا مجرد ترف فكري، لكنه في الوقت نفسه يضع الكنائس واللاهوتيين أمام تحد صعب: كيف يمكن إعادة التفكير في صورة الله دون أن ينهار الإيمان نفسه؟
نقدم هذه القراءة في إطار اللاهوت الغربي ومقولاته المرجعية، بعيدا عن المنطلقات التي ميزت علم الكلام الإسلامي وما انطوى عليه من مباحث حول مشيئة الله وقدرته وإرادته، وما أفرزه الفكر الكلامي عبر تاريخه من نظريات وتأويلات خاصة بهذه القضايا..