سعيد الكحل
يمثل بلاغ الديوان الملكي الصادر يوم 26 شتنبر 2023، الانطلاقة العملية في بلورة مشروع مدونة الأسرة الذي سيحال على جلالة الملك بعد انصرام مدة ستة أشهر للنظر فيه قبل عرضه على البرلمان للمصادقة. ولا شك أن عاهل البلاد منح المدة الكافية للأحزاب والهيئات الحقوقية والنسائية لبلورة مقترحاتها منذ دعوته، في خطاب العرش 2022، إلى مراجعة المدونة. وتتجلى أهمية بلاغ الديوان الملكي في التالي:
1 ـ العناية الكريمة التي يوليها جلالته لحقوق النساء وحرصه القوي على النهوض بحقوقهن وتحسين أوضاعهن والقضاء على كل أشكال التمييز القائم على النوع. فمنذ اعتلاء جلالته العرش وهو يضع قضايا النساء وحقوقهن ضمن أولياته (وقد حرصنا منذ اعتلائنا العرش، على النهوض بوضعية المرأة، وفسح آفاق الارتقاء أمامها، وإعطائها المكانة التي تستحقها)(خطاب العرش 2022). وقد جسدت مدونة الأسرة سنة 2004، هذه العناية الملكية التي ترجمتها دعوة جلالته، في خطاب العرش 2022، إلى إصلاح المدونة وتجاوز الاختلالات والسلبيات، سواء في التطبيق أو في بعض البنود التي باتت تتعارض مع الدستور ” الذي يكرس المساواة بين المرأة والرجل، في الحقوق والواجبات، وينص على مبدأ المناصفة، كهدف تسعى الدولة إلى تحقيقه”.
2 ـ تعديل المدونة لم يعد طابوها، بل صار نصا كبقية النصوص القانونية والدستورية تخضع للتعديل والمراجعة كلما ظهرت الحاجة إلى ذلك. لقد تجاوز المغاربة حدة التقاطب التي عاشوها سنة 2000 مع صدور مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية الذي استغله التيار الإسلامي لتوسيع قاعدته وفرملة جهود التحديث التي تبناها جلالة الملك والأحزاب الوطنية والديمقراطية. ويرجع الفضل في عدم انجرار المغاربة إلى وضعية التقاطب الحادة إلى عاملين رئيسيين هما:
العامل الأول: أن الدعوة إلى إصلاح المدونة ومراجعتها صدرت من أعلى سلطة بالبلاد؛ الأمر الذي جعل معارضة الدعوة الملكية من طرف الإسلاميين مخالفة للدستور وللأعراف السياسية والدينية والاجتماعية. إذ ليس أمام مناهضي الإصلاح سوى الامتناع عن تقديم مقترحاتهم، أو الانخراط في النقاش العمومي وتقديم الاقتراحات مهما كانت جزئية. الأمر الذي أتاح للفعاليات السياسية والمدنية متسعا من الوقت لفتح النقاش العمومي حول إصلاح مدونة الأسرة؛ مما ساهم في بلورة مشاريع مقترحات تضمنتها المذكرات التي أعدتها تلك الهيئات.
العامل الثاني: لم تعد مدونة الأسرة مجالا للتوظيف السياسوي كما كانت عليه سنة 2000، خصوصا بعد إفلاس المشروع السياسي للإسلاميين وفشل تجربتهم على رأس الحكومة لمدة عقد من الزمن. فإستراتيجية استغلال الدين في السياسة انتهت صلاحيتها بعد انكشاف زيف شعارات الإصلاح ومحاربة الفساد والاستبداد التي رفعها الإسلاميون خلال الحملات الانتخابية، وحققت لهم الفوز قبل أن يدرك الناخبون بوارها، فكانت الهزيمة المدوية ليوم 8 شتنبر 2021.
3 ـ مبادرة الدعوة إلى تعديل مدونة الأسرة صدرت عن جلالة الملك في خطاب العرش لسنة 2022، ولم تعد مقتصرة على الهيئات الحزبية والنسائية والحقوقية. الأمر الذي يعكس الأهمية الكبرى التي يوليها جلالته لقضية المرأة وتفاعله الإيجابي مع المطالب النسائية والحقوقية.
4 ـ إشراك، الهيئات الرسمية والمدنية في مناقشة وبلورة مقترحات التعديل. وهذه خطوة مهمة تعتمد المقاربة التشاركية وتتفادى إحداث صراع يعطل عمل الهيئات، كما حدث داخل اللجنة الملكية الاستشارية لتعديل مدونة الأحوال الشخصية سنة 2000. فمن إيجابيات البلاغ أنه حدد الهيئات المعنية مباشرة بتعديل المدونة ومناقشة المقترحات وبلورة مشروع التعديل لتشمل، إلى جانب وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، المجلس الوطني لحقوق الإنسان وفعاليات المجتمع المدني (خصوصا الهيئات النسائية العاملة في الميدان ) بالإضافة إلى المجلس العلمي الأعلى.
ومن شأن هذه التركيبة أن تضعف صوت التيار المحافظ وتحُول بينه وبين نزوع الهيمنة على بقية مكونات اللجنة. وما سيقوي صوت التغيير هو تجاوز التعيين الفردي للعضوية في اللجنة إلى تعيين الهيئات التي لها وحدها الحق في اختيار ممثليها. لقد عانت أصوات التغيير من هيمنة المحافظين داخل لجنة 2000، الأمر الذي جعل مدونة الأسرة لم تقطع مع التراث الفقهي الذكوري، فجاءت تتضمن بنودا تسيء إلى المرأة ولا تنصفها زوجة أو مطلقة أو أرملة أو أنثى. إذ بقي تزويج القاصرات وحرمان المطلقة من الولاية الشرعية على أبنائها، واستمرار العمل بقاعدة التعصيب في الإرث رغم أنه لا أصل له في القرآن ورغم المآسي الاجتماعية التي تترتب عنه، أو رفض إلحاق الطفل بأبيه البيولوجي الذي تسبب في استفحال ظاهرة الأطفال المتخلى عنهم رغم وجود اجتهادات فقهية وتطبيقات عملية من طرف الرسول (ص) وخلفائه الراشدين تشرّع لهذا الإلحاق.
5 ـ حرص جلالته على تحديد السقف الزمني لبلورة وصياغة مقترحات التعديلات في ستة أشهر، اختصارا للوقت واقتصادا للجهد، خصوصا وأن الهيئات السياسية والمدنية أخذت ما يكفي من الوقت لصياغة مقترحاتها. فجلالته ملتزم بوعده أنه “في مغرب اليوم، لا يمكن أن تحرم المرأة من حقوقها”.
لأجل هذا، مطلوب من الهيئات التي ستشرف على إصلاح المدونة أن تستحضر التوجيهات الملكية، ومنها:
أ ـ “أن يتم ذلك، في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية”. والتراث الفقهي مليء بالاجتهادات المتنورة التي تستجيب للمطالب النسائية وترقى بأوضاعها وحقوقها.
ب ـ “اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح” في التعامل مع النصوص الدينية لاستنباط الأحكام التي تنسجم مع التوجه الحداثي للمغرب وتتوافق مع الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب، والمتعلقة بالقضاء على العنف والتمييز ضد النساء. ولا يتحقق هذا إلا باستحضار مقاصد الشريعة التي في مقدمتها تحقيق العدل والمساواة.
ج ـ أن يكرّس الإصلاح المنشود المساواة بين الرجال والنساء انسجاما مع مقاصد الشريعة ومع الوثيقة الدستورية، تنفيذا لتعليمات جلالته أنه “في مغرب اليوم، لا يمكن أن تحرم المرأة من حقوقها”. لهذا يتعين على المجلس العلمي الأعلى أن يختار من أعضائه لحضور جلسات النقاش، من يتمثل توجيهات جلالة الملك ولا يعارض الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق النساء وإلغاء كل أشكال العنف والتمييز القائم على النوع التي صادق عليها المغرب.
إن التقدم الذي حققه المغرب في كافة المجالات السياسية، الحقوقية والاقتصادية هو ثمرة جهود بناته وأبنائه. ولا يمكن تعزيز مكانة المرأة وضمان ادماجها في التنمية إلا بوضع تشريعات تصون كرامتها وتحمي حقوقها. فقد حان الوقت، إذن، لإخراج مدونة عصرية منصفة للنساء وللأطفال ومنفتحة على منظومة حقوق الإنسان.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=20592