إصلاح الأوقاف العامة جزء من النموذج التنموي الجديد

عمر العمري
2019-11-22T14:53:28+01:00
featuredدراسات وبحوث
عمر العمري22 نوفمبر 2019آخر تحديث : الجمعة 22 نوفمبر 2019 - 2:53 مساءً
إصلاح الأوقاف العامة جزء من النموذج التنموي الجديد

كلف الملك محمد السادس، الثلاثاء الماضي، “شكيب بنموسى” برئاسة اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد، بعد أن أكد جلالته في خطب سابقة أن هذا النموذج “أبان خلال السنوات الأخيرة عن عدم قدرته على تلبية الحاجيات المتزايدة لفئة من المواطنين وعلى الحد من الفوارق الاجتماعية والتفاوتات المجالية”. وأوضح الملك أنه يريد من هذه اللجنة القيام بمهمة ثلاثية، تقويمية واستباقية واستشرافية، والتوجه بكل ثقة نحو المستقبل، مؤكدا على الطابع الوطني لعمل اللجنة والتوصيات التي ستخرج بها، ومشيرا إلى أنه “ينبغي اقتراح الآليات الملائمة، للتفعيل والتنفيذ والتتبع، وكذا المقاربات الكفيلة بجعل المغاربة يتملكون هذا النموذج، وينخرطون جماعيا في إنجاحه”..
وفي هذا السياق يقدم هذا المقال بعض المقترحات بخصوص إصلاح الأوقاف وضرورة إدماجها في المشروع التنموي الجديد.

توطئة:
إن أهم حدث ديني عرفته سنة 2018 هو توجيه رسالة ملكية إلى كل من وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، ورئيس المجلس الأعلى لمراقبة مالية الأوقاف، تتضمن توجيهات بشأن مواصلة إصلاح الأوقاف العامة. وتأتي هذه الرسالة المؤرخة بتاريخ 5 يناير 2018 ، بعد سلسلة من الإجراءات كان أبرزها إصدار مدونة الأوقاف، وإقامة المجلس الأعلى لمراقبة مالية الأوقاف العامة..
وأراد الملك من المسؤولين عن الأوقاف أن يُعِدّوا “إستراتيجية على المدى الطويل”، يكون هدفها الأساس تحديث أساليب تسيير الوقف بالمغرب، من أجل إدماجه في النسيج الاقتصادي العام، وبالتالي جعله يقوم بأدوارا اجتماعية وتضامنية.. الجديد الآخر الذي حملته الرسالة الملكية هو إخضاع آراء المجلس الأعلى لمراقبة مالية الأوقاف العامة، ذات الصلة باحترام الشريعة، لمصادقة المجلس العلمي الأعلى، الذي سيتكفل بدوره بإبلاغ قراره لكل من إدارة الأوقاف والمجلس المكلف بالمراقبة..
إذن تأتي الرسالة الملكية في إطار سياق إصلاحي يتم تنزيله تدريجيا عبر محطات عديدة منها ما هو تنظيمي وإداري وقانوني ثم ما هو استراتيجي في هذه المرحلة بالذات.. وبالتالي حان الوقت لإدماج القطاع الوقفي في المشروع التنموي الجديد، وتمكينه من الآليات التي تتيح له فرصة المساهمة في تنمية البلاد والعباد.

تدابير ملكية:
لقد أجرى الملك مجموعة من إصلاحات بخصوص تطوير ملف الوقف بالمغرب، ونفض غبار التقليد عليه، ولا بد من التذكير بأبرز هذه الإصلاحات وتثمين دورها في إعادة الاعتبار لأهم قطاع له علاقة بالمجال الإحساني في الإسلام:
1 ـ تم تنظيم الأوقاف في إطار مديرية لها اختصاصات محددة بمقتضى ظهير شريف رقم – 193 03-1 صادر في 9 شوال 1424، الموافق لـ 4 ديسمبر 2003، ويأتي ذلك ضمن إصلاح متعلق بتنظيم وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وتأهيلها لأن تكون لها أدوار متقدمة في مواكبة الإصلاح الديني الشامل بالمغرب في عهد الملك محمد السادس. ويلاحظ أن إعادة هيكلة هذه الوزارة جاء بعد ثلاثة أشهر تقريبا من الأحداث الإرهابية التي عرفتها مدينة الدار البيضاء بتاريخ 16 ماي 2003. وكان ضروريا أن يعاد ترتيب البيت الداخلي لهذه الوزارة بعد أن كانت تعاني من مجموعة من الاختلالات في عهد الوزير الراحل عبد الكبير المدغري، وكان لزاما وضع حد نهائي لها.
2 ـ إصدار مدونة خاصة بالأوقاف تبعا للظهير الشريف رقم 1.09.236 للثامن من ربيع الأول 1431 الموافق لـ 23 فبراير 2010، وهي خطوة قانونية هامة جدا من أجل تنظيم عملية الوقف بالمغرب من خلال إجراءات ومساطر قانونية مضبوطة، أي خلق مرجعية موحدة لتدبير مسألة الوقف العام، وهي عملية لا غنى عنها لأي قطاع يراد تطويره وتفعيله..
3 ـ إحداث المجلس الأعلى لمراقبة مالية الأوقاف العامة، وهو قرار اتخذه ملك البلاد من أجل دمج الوقف في المنظومة الاقتصادية والاجتماعية للمغرب. لكن يبقى الهدف الأسمى من وراء إحداث هذا المجلس هو إرجاع ثقة المواطنين إلى مفهوم الوقف، وبالتالي تشجيعهم على الإقدام على تحبيس أموالهم لفائدة الغير. إذن لا يمكن أن يسترجع المواطنون ثقتهم في أوقاف بلادهم دون وجود مجلس قادر على مراقبة الأموال المحبَّسة وإجراء افتحاصات مالية عند الضرورة من أجل الوقوف على أوجه تدبيرها وصرفها، وإن اقتضى الحال معاقبة كل من يسيء إلى هذا المجال “المقدس”.

ضرورة التحديث:
هل إعادة الهيكلة وتوفير الترسانة القانونية للوقف وخلق جهاز مراقبة وافتحاص لأمواله كافٍ لتأهيله لأن يلعب أدواره الحقيقية في تنمية المجتمع وتحقيق التكافل الاجتماعي الذي يتوخاه المشرع منه؟
أكيد لا.. وهذا هو ما جعل الملك يعطي تعليماته من جديد لوزير الأوقاف ولرئيس المجلس الأعلى لمراقبة مالية الأوقاف العامة من أجل إعداد استراتيجة على ضوئها يمكن تحديد أهداف ووسائل مضبوطة قابلة للأجرأة الزمنية من أجل النهوض بهذا القطاع المالي والإحساني العظيم.
وتأتي تعليمات الملك الجديدة في إطار إعطاء دينامية جديدة لسياسة الأوقاف بالمغرب، لأنه تم استنفاد المراحل السابقة الخاصة بالهيكلة والتقنين، وهما غير قادرين على تحرير الوقف من القيود التي تكبله منذ عقود من الزمن. بمعنى آخر: إن قطاع الأوقاف بالمغرب يحتاج إلى “روح جديدة” تنتشله من الأسلوب التقليدي الذي يُدَّبر بها لحدود الساعة..
إن أول ظهور للأوقاف بالمغرب كان منذ تأسيس دولة الأدارسة بالمغرب. وكان أحد أهم القطاعات المالية للدول التي تعاقبت على حكم المغرب. وقد تعدت أدواره إلى القيام بأعمال الدفاع عن تراب المملكة المغربية، والمساهمة في دحر الأعداء المتربصين بالمغرب على مر التاريخ. إلى درجة أنه في بعض المراحل التاريخية، كانت ميزانية الأوقاف تكاد تعادل ميزانية بيت المال أو ما يسمى بقانون المالية بالمفهوم العصري.
ويعتبر الوقف أهم ما أبدعه العقل المسلم في تاريخ الإنسانية من أجل مساعدة الإنسان لأخيه الإنسان والتكفل بالحاجيات الأساسية له وهي الصحة والتعليم ومحاربة الفقر والعناية بدور العبادة مثل المساجد والزوايا..
الآن وبعد أن تطور مفهوم الدولة والسير نحو تعزيز قيم الديمقراطية والحداثة، وتعزيز استقلالية المؤسسات، وتقنين أساليب تسييرها وإدارتها، وإدخال البعد التكنولوجي في تطويرها، أصبح من الضروري في الوقت الراهن تحديث قطاع الوقف وتمكينه من آليات عصرية قادرة على تجديد مفاهيمه وأساليب تنميته وإخضاعه للمحاسبة مثله مثل باقي القطاعات الهامة بالبلاد..

اقتراحات لإصلاح الاوقاف:
في نظرنا لا يمكن أن يتم بث الروح في الوقف العام، وجعله في أفق الطموحات المرجوة منه، إلا من خلال بعض الإجراءات التي نعتقد أنها ضرورية من أجل الإقلاع بهذا القطاع ووضعه على سكة قاطرة التنمية ببلادنا، وهي مجرد اقتراحات يتضمنها هذا المقال:
أولا: الفصل النهائي لقطاع لأوقاف عن الشؤون الإسلامية، وتحويله إلى مؤسسة مالية قائمة الذات، ومستقلة عن غيرها من الإدارات أو المجالات، على شاكلة “بنك” من البنوك المغربية. فالأوقاف يدخل في المجال المالي والاقتصادي للبلاد، وينبغي إدماجه إدماجا كاملا في هذا المحيط، حتى يتحول إلى آلة تنموية فعالة، وإلى مؤسسة استثمارية عملاقة يمكن أن تساهم في التنمية الشاملة للبلاد.. ولا يتأتى ذلك إلا بإخضاع الأوقاف للتدابير المالية الصارمة وقوانين الاستثمار المعمول بها، والتعامل معه بمنطق تحقيق الأرباح ومراكمتها..
ثانيا: تنصيب مدير عام على هذه المؤسسة المالية العملاقة (بنك) يكون ذا مؤهل اقتصادي، وله تجربة في إدارة الأعمال، يكون الهدف من اختياره هو العمل على تحقيق نتائج محددة ونسبة للنمو يمكن محاسبته عليها خلال ولايته على رأس هذه المؤسسة.. وبهذا سيتم التغلب بشكل نهائي على مسألة تنازع الاختصاصات أو الإرادات، فبالإضافة إلى توحيد الهيكلة والمرجعية القانونية سيتم توحيد المرجعية الإدارية..
ثالثا: هناك قانون مالية في بلادنا يتم إعداده سنويا، وعلى غرار ذلك، نقترح إحداث ما يمكن تسميته بـ “قانون مالية الأوقاف” السنوي.. ستكون له مداخيله الخاصة، وله ميزانية النفقات وأخرى للاستثمار.. على أساس أن يتم نشر هذا القانون، وإتاحة إمكانية الاطلاع عليه من قبل الجميع. هذه الشفافية هي إحدى ضمانات إحياء وقف المسلمين بالمغرب، وإعطائه أدوار اقتصادية جديدة، كما أنها وسيلة فعالة لمراقبة هذه المالية..
رابعا: هذه المؤسسة المستقلة الجديدة ستقوم ببعض الأدوار التي تقوم بها الأبناك، أي يمكنها أن تقوم بكل العلميات المالية بما فيها منح القروض للغير.. بل الأكثر من ذلك، يمكن لهذه المؤسسة أن تستقبل ودائع الزبناء بما فيها الأموال.. أي ما يمكن تسميته ب “توقيف الأموال” في سبيل الله لمدة محددة. وهذه الخدمة ستستفيد منها مؤسسة الأوقاف من خلال ضخ هذه الأموال في عمليات استثمارية متنوعة ومربحة.. وستكون لهذه المؤسسة امتيازات خاصة أقوى من الأبناك، حيث إن الودائع سوف لن يستردها الزبناء بفائدة معينة، لأنهم قاموا بتوقيفها لوجه الله.. وهي فرصة كبيرة لاستقبال سيولة مالية كبيرة مكتنزة في خزائن شخصية لبعض المواطنين “المتدينين” الذين لا يتعاملون مع المؤسسات البنكية “الربوية”.. أكيد أن هناك مواطنين أوفياء يريدون أن يحبسوا أموالهم لكنهم يبحثون عن مؤسسات تشتغل بشفافية وذات استقلالية، وهي الثقة التي تتحدث عنها الرسالة الملكية الأخيرة..
خامسا: يمكن لمؤسسة الأوقاف المستقلة هاته أن تقيم شراكات اقتصادية مع باقي المؤسسات المالية العاملة في التراب المغربي أو خارجه، ويمكن أن تساهم في الاستثمارات الكبيرة للبلاد، وأن تحوز نصيبها من الأرباح.. ويمكن أن تتنافس على الصفقات العمومية الخاصة بالمشاريع التنموية الحيوية بالمغرب..
سادسا: بخصوص الجانب الشرعي لمؤسسة الأوقاف المستقلة، ينبغي تعيين “علماء دين” متخصصين داخل هذه المؤسسة، وتكون لهم فقط الصفة الاستشارية، حيث يكونون رهن إشارة المؤسسة في كل وقت وحين، مما يسهل من عمليات اتخاذ القرارات وتنفيذها دون انتظار التأشير عليها من متدخلين خارجيين، مما يعطل أحيانا مجريات التدبير السريع للملفات المطلوب معالجتها على وجه السرعة والدقة. فالرأسمال أو المال لا يحتمل بتاتا البيروقراطية الإدارية، وهكذا ينبغي التعامل مع الوقف العام باعتباره تدابير مالية تحتاج إلى المبادرة والإبداع في التطوير وتحقيق الأرباح على وجه السرعة..

يبقى السؤال التالي: ما علاقة أمير المومنين بمؤسسة الأوقاف بهذا الشكل الجديد الذي تم اقتراحه؟
بطبيعة الحال، فهذه المؤسسة بالرغم من وظائفها المالية والاقتصادية والاجتماعية، فهي تبقى مؤسسة ذات طابع ديني، وبالتالي خاضعة من الناحية الدينية للنفوذ الروحي لإمارة المومنين.. ومن الناحية الاقتصادية فهي مؤسسة مالية تخضع للقوانين العملية التي تؤهلها لتكون مندمجة في النسيج التنموي الجديد للبلاد..
أعده لفائدة الموقع الأستاذ سعيد الراشيدي

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.