رشيد المباركي. دين بريس
“الإمبراطوريات الرقمية الجديدة في عصر الإنترنت”، كتاب حديث الإصدار في نسخته العربية، وألفته أنو برادفورد وهي أستاذة في كلية الحقوق بجامعة كولومبيا، وترى أن هناك ثلاث قوى عظمى عندما يتعلق الأمر بالتكنولوجيا عبر الإنترنت، وكل منها يقدم مجموعة متنوعة مختلفة من الرأسمالية الرقمية: كانت الولايات المتحدة رائدة في نموذج تحركه السوق إلى حد كبير، والصين في نموذج تحركه الدولة، والاتحاد الأوروبي في نموذج تحركه الهواجس الحقوقية.
والحال أن كل هذه الفوائد العديدة لم تمنع شبكة الإنترنت من استصحاب التغيير الضار في المجتمعات وحياة الأفراد. صحيح أن شبكة الإنترنت قد حققت التواصل البشري والمشاركة المدنية، لكنها في المقابل أدت إلى تعريض شرائح واسعة من المجتمع لأشكال مختلفة من المحتوى الضار، فقد تحول كثير من مواقع الإنترنت إلى منصات للتضليل، والتحريض على التنمر والكراهية، ونشر المحتوى المثير للاشمئزاز، مما يقوّض سلامة الأفراد وكرامتهم، ويهدد بتقسيم المجتمعات، ويزعزع النظم الديمقراطية.
تضيف المؤلف في كتابها الذي صدرت ترجمته للعربية عن مركز تريندز للبحوث والاستشارات، وجاء في 720 صفحة، أن الخوارزميات المصممة لتكييف المحتوى المنشور في الإنترنت من طرف المستخدمين قد أدت إلى بث روح الفُرقة والاستقطاب، وزرعت المزيد من الأفكار المتطرفة، وزادت من تآكل التماسك الاجتماعي، بل كان المأمول من شبكة الإنترنت أن توسع مساحة الحرية وتعزز الديمقراطية وتقدم ثقافة مجتمعية متساوية وشاملة.
لم يبزغ هذا الصراع العالمي من فراغ، وإنما هو نتيجة من نتائج الثورة الرقمية التي بزغت مع ظهور شبكة الإنترنت التي تُستخدم استخداما تجاريا على نطاق واسع، في البداية، لكنها استصحبت معها آمالا بمزيد من الحريات، من قبيل حرية الأفراد في الحصول على المعلومات، وحرية التعبير عن آرائهم، وحرية الانخراط في حوارات وتشكيل المجتمعات، بل إن بعض رواد الإنترنت الأوائل تعاملوا مع المنصات الرقمية باعتبارها تمثل الحارس على تلك الحريات، وأنها الجهة المنوط بها توسيع نطاق تلك الحريات من خلال إتاحة منصة شاملة تسمح بتعزيز وجود الأصوات المتنوعة في جميع أنحاء العالم.
والحال، تضيف المؤلفة، أن هذا الوصول المعزز إلى المعلومات والمحادثات أعاد تعريف نسيج التجربة الإنسانية نفسه، وأثمر فوائد واسعة للأفراد والمجتمعات لا يمكن الإحاطة بها. ومع تطور الإنترنت في السنوات المقبلة، فمن شبه المؤكد أنه سيستمر في تقديم فوائد جديدة بطرائق لا يمكن للأفراد والمجتمعات تخيلها حتى الآن، ومن ذلك ظهور الذكاء الاصطناعي.
ترى برادفورد أن الولايات المتحدة تتقارب مع الاتحاد الأوروبي على صعيد تنظيمات الذكاء الاصطناعي: قد يكون الذكاء الاصطناعي هو الحدود التالية لأثر بروكسيل، كما أن تنظيم الاتحاد الأوروبي للذكاء الاصطناعي قد يكون أيضا بمثابة نموذج للدول الأخرى، لولا أن قصة نشرها منصة “بوليتيكو” الأوروبية مؤخرا، حول الصدام بين معايير الذكاء الاصطناعي في الاتحاد الأوروبي وفي الولايات المتحدة تشير إلى نتيجة مختلفة، حيث تبين أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مثل فرنسا لا تتفق بالضرورة مع بروكسيل.
تضيف المؤلفة أيضا أن النموذج الأمريكي للحكامة التكنولوجية، والقائم على عدم التدخل في السوق، يفقد جاذبيته في الداخل والخارج. فعلى الصعيد المحلي، هاجم الحزبان السياسيان الرئيسان شركات التكنولوجيا الكبرى، وإن كان لأسباب مختلفة. لا يثق الديمقراطيون في التركيز المؤسسي لدى الشركات التكنولوجية الكبرى، في حين أن الجمهوريين مقتنعون بأن الإشراف على المحتوى يتضمن تحيزا مناهضا للمحافظين. على الصعيد العالمي، جعلت المخاوف في شأن خصوصية البيانات الحياة أكثر صعوبة بالنسبة إلى الشركات التكنولوجية الخمس الكبرى، أي مؤسسات “الغافام” وهي “غوغل و”أمازون” و”فيسبوك” و”آبل” و”مايكروسوفت”.
وواضح أن هذه الأساليب المتباينة تؤدي إلى صدامات تنافسية بين الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي حول المسائل التنظيمية والتكنولوجية مثل خصوصية البيانات والإشراف على المحتوى. كذلك تخلق التفضيلات الرقمية المتباينة صدامات تنافسية بين هذه الحكومات وشركات التكنولوجيا التي تزود البنية التحتية والخدمات الرقمية. لقد أجبرت الدولة الصينية شركاتها على الامتثال بقدر أكبر لإملاءات الحكومة. أما الشركات الأمريكية فكانت أكثر استعداداً لمحاربة الحكومة الفيدرالية في شأن مسائل خصوصية البيانات. وبينما يفقد النموذج الأمريكي جاذبيته، تفترض برادفورد أن الولايات المتحدة ستواكب الاتحاد الأوروبي في شكل أوثق في مواجهة نموذج حكامة رقمية صيني أكثر شمولية، وتؤكد كذلك أن السيطرة على المراكز الحاسمة ليست هي ما يهم، بل السيطرة على الأسواق الحاسمة.