صدر حديثا للكاتب والباحث محمد زاوي كتاب جديد بعنوان: “مغربية الصحراء في أدبيات اليسار الوطني: ردا على اليسار العولمي”، عن دار النشر المغربية.
يتناول هذا الكتاب الجدل القائم حول مواقف اليسار العالمي من قضية الصحراء المغربية، ويقدم قراءة تحليلية لمواقف اليسار الوطني المغربي، مستندا إلى تراكمات نضالية وتاريخية تؤكد انخراط هذا التيار في الدفاع عن الوحدة الترابية للمملكة، انطلاقا من رؤية تقدمية، لا تتعارض مع مبادئ العدالة الاجتماعية أو النضال الديمقراطي.
ويؤكد الكاتب في مقدمته أن مواقف اليسار المغربي تنتمي إلى اليسار الثوري الواقعي، الذي استطاع عبر تجربته الطويلة أن يفهم تعقيدات الملف، ويطور موقفا وطنيا مسؤولا، بخلاف العديد من التيارات اليسارية العالمية التي تبنت مواقف اختزالية، غالبا ما تتجاهل السياقات السياسية والتاريخية للنزاع، بل وتنجر أحيانا خلف أطروحات الانفصال، تحت غطاء شعارات “تقرير المصير”.
ويعتبر الكتاب بمثابة تفنيد علمي ونقدي للأفكار الرائجة في بعض دوائر اليسار العالمي، مع تقديم توثيق دقيق للموقف التقدمي الوطني الذي تبناه اليسار المغربي على مدى عقود، مما يجعل منه مرجعا مهما للباحثين في الفكر السياسي المغربي وقضية الصحراء.
محمد زاوي، كاتب وباحث معروف باشتغاله على قضايا الفكر والسياسة والدين، يقدم في هذا العمل قراءة فكرية تنطلق من الداخل المغربي، وتجمع بين الموقف الوطني والتحليل اليساري النقدي.
ـــــــــــــــــــــ
هذه مقدمة كتاب “مغربية الصحراء في أدبيات اليسار الوطني.. ردا على اليسار العولمي”:
لعل قائلا يقول: ما الذي يجعلنا نهتم بمواقف اليسار من قضية الصحراء المغربية؟ وما الذي يجعلنا نهتم بها في هذا الوقت بالذات؟
والجواب هو أننا نريد من خلال هذا الكتاب:
-التذكير بالموقف الوطني من قضية الصحراء لدى أغلب النخب الفكرية والسياسية اليسارية بالمغرب، حتى لا تحتكر قلة “عدمية” الحديث باسم اليسار تحت قناع “المعارضة والثورية”.
-إبراز الأساس النظري للوعي بقضية الصحراء المغربية، وهو ضروري حيث يكثر الحديث الإيديولوجي الذي لا تسنده قناعة نظرية.
-تنبيه جزء من “اليسار” إلى رجعية وعدمية موقفه، ما تسبب له في انحسار جعل منه أقلية لا تكاد تذكر في الداخل، وقريبا سيجعل منه أقلية في العالم -أو لعله أصبح كذلك دون وعي منه.
-نقد ما تدعيه “البوليساريو” من مرجعية يسارية في دفاعها الإيديولوجي والسياسي عن أطروحتها الانفصالية المستثمرة في مواجهة المغرب إقليميا وإمبرياليا.
-المساهمة الواعية في تقييم دور اليسار الوطني ومعرفة مدى نجاعته في ملف تقدمت فيه الدولة بخطوات لم تكن لتطرأ على بال اليسار المؤمن بمغربية الصحراء نفسه.
سيجد القارئ في هذا الكتاب الموقف والقضية، العرض والنقد، النص والتعليق، الإيديولوجيا والنظرية، السياسة والفكر، التاريخ والمعرفة… وكله دفاعا عن مغربية الصحراء.
***
لطالما فكرتُ في كتابة كتاب أدافع به من وجهة نظري، ومن تخصصي واهتمامي المعرفي، عن مغربية الصحراء؛ ففكرت قبل هذا الكتاب في كتابة نص مطول لعله يصبح كتابا، واخترت له عنوان “مرافعة نظرية دفاعا عن مغربية الصحراء”، ووضعت له تصميما أوليا بالعناوين التالية:
1ـالصحراء في التاريخ القديم.
2-الصحراء في سياق الاستعمار.
3-الصحراء المغربية في شرط الدولة الحديثة
4-المرجعية الدولية لقضية الصحراء.
5-الصحراء ونظام الحكم.
6-الصحراء المغربية في المخطط الجزائري.
7-الصحراء في عمقها الإفريقي.
8-وظيفية “البوليساريو” في عالم متغير.
9-جيوبوليتيك الصحراء.
لم أقرر تحرير هذا الكتاب على المدى القريب، بل جعلته مشروعا للمدى المتوسط، أو البعيد على أبعد تقدير؛ وكل ما فعلته أنني بدأت القراءة والبحث وجمع المراجع الضرورية كلما أتيحت فرصة ذلك.. فلما ذكرنا عزيز غالي، في سياق لا يسمح بتذكيره، بموقف “النهج الديمقراطي العمالي” من قضية الصحراء، وجدت نفسي مضطرا للتفاعل مع “يسار” كنت دائما أنتقده وأراه بعيدا كل البعد عن النظرية الماركسية بما هي منهج علمي هدفه “التحليل الملموس للواقع الملموس”، مهما حاول هذا “اليسار” التمسك بشعارات “حزب البروليتاريا” و”مواجهة الإمبريالية والتبعية” و”معارضة النظام الرجعي” و”مواجهة الفكر الرجعي”… الخ.
وجدت نفسي أيضا، بحكم إعدادي لكتاب “المرافعة النظرية”، قد وضعت يدي على عدد مهم من الكتب والوثائق، وهي في كثير منها تعود إلى مفكرين يساريين مغاربة، أو إلى سياسيين كانت لهم حوارات ومقالات ووجهات نظر في حينها لا تخلو من أهمية.. فقررت التوقف عن كل عمل فكري أو علمي أشتغل عليه، وشرعت في كتابة نص هذا الكتاب فقرة بعد فقرة؛ وذلك بالرجوع إلى أهم رموز اليسار المغربي، وفي الإطار السياسي والحزبي لكل رمز لا خارجه.
لم تستهوني يوما تحليلات اليسار ذي الجذرية العولمية، أو لنقل: “الأممية العابرة للحدود والمتعالية على شروط التاريخ”، ولذلك كان اهتمامي دائما منصبا على متابعة وقراءة ما يكتبه مفكرو اليسار الوطني المغربي، أمثال: بول باسكون وألبير عياش وعبد السلام الموذن ومحمد عابد الجابري وعبد الله العروي وعبد الصمد بلكبير وعزيز بلال وأحمد الغرباوي وعلي يعتة وعلال الأزهر وغيرهم.. وحتى لما كنت أهم بقراءة كتابات اليسار العربي، فقد كنت كثير الاهتمام بمفكري اليسار القومي والوطني منه، أمثال أنور عبد الملك ومحمود أمين العالم (مصر) وياسين بوعلي وإلياس مرقص وياسين الحافظ (سوريا) وعصام خفاجي (العراق)… كان يستهويني دائما يسار الدول الكبرى والعريقة، إذ كثيرا ما كانت حضارات تلك الدول تنعكس على كتابات رموز اليسار هناك فتقيها انحرافات “العولمية” و”العدمية” و”أنماط التفكير ما قبل الدولة الحديثة أو ما قبل الإنسانية نفسها” (التفكير القبلي بالنسبة للنمط الأول/ التفكير الغريزي بالنسبة للنمط الثاني).
اليسار الذي أنتمي إليه فكريا وسياسيا وإيديولوجيا، يسار تقدمي من الداخل، محافظ من الخارج.. الخطاب المحافظ الذي يتحدث به هو نتيجة نظر متقدم، نظر جدلي تاريخاني لم يتلق الماركسية مقولات محنطة لا تقبل التغير الذي هو قاعدة جدلية أساسية في الماركسية (في “المنهج المادي الجدلي”).. إن موقفي من قضية الصحراء قد توطد وتعمق في وعيي السياسي انطلاقا من هذه المرجعية، بما هي مرجعية ماركسية جدلية تاريخية تاريخانية.. ومن خلالها اهتديت إلى الوعي بمسألتين أساسيتين هما: التناقض في الصحراء المغربية هو تناقض مع الرأسمال الأجنبي وأدواته الوظيفية، وكل تناقض داخلي فهو ثانوي من جهة ولا ينفي موضوعيا وتاريخيا مغربية الصحراء من جهة أخرى. غاب هذا الوعي عن اليسار العولمي، فكان موقفه من قضية الصحراء المغربية معاديا للوحدة الترابية المغربية ومخالفا للإجماع الوطني.
***
يطرح هذا الكتاب نقاشات عديدة في قضية الصحراء المغربية، وإن جاء في شكلٍ وتصميمٍ يعرض مواقف رموز اليسار المغربي ومفكريه. يطرح نقاشات أنثروبولوجية متعلقة بقبائل الصحراء المغربية وخصائصها، ونقاشات تاريخية متعلقة بعلاقة الدولة المغربية بالصحراء منذ تأسيس هذه الدولة وإلى اليوم، ونقاشات سياسية متعلقة بمختلف المقاربات السياسية التي أخذت هذه المسافة أو تلك من تدبير النظام السياسي المغربي لملف الصحراء المغربية، ونقاشات خاصة بمشروعي المغرب العربي ووحدة الوطن العربي وعلاقتهما بقضية الصحراء المغربية، وأخرى إيديولوجية تبرز الأساس الفكري والإيديولوجي الذي يبني عليه كل اتجاه يساري موقفه من ذات القضية.
إن هذا الكتاب شبيه بمرافعة نظرية وسياسية يجريها صاحبه على لسان اليسار الوطني المغربي، القصد منها الرد على يسار عولمي بيسار وطني، وإظهار تهافت خطاب الأول بمرجعيته ذاتها، أي بـ”الماركسية السديدة” إذا أردنا استعمال تعبير جورج لوكاتش. فليست الماركسية، وليس النضال بأفق اشتراكي، هو ما أنتج المواقف العدمية واللاوطنية لفئة من اليسار؛ وإنما هو نوع من القراءة العمياء اللاتاريخية واللاجدلية أنتج مواقف شعورية لا موضوعية ولا تاريخية تعبر عن نفوس وذهنيات أصحابها أكثر مما تعبر عن “الواقع كما هو في تحققه الملموس”. وإذا كان كارل ماركس يقول: “إن التاريخ هو وحده العلم الذي نعرفه ونعترف به”، فإن فئة من اليسار “لا تريد” أن تعرف التاريخ، وتخلط بينه وبين الأنثروبولوجيا (علم ما قبتاريخي)، وتسقط عليه تحليلات مسبقة خاصة بشروط تاريخية غير مغربية (أوروبية). وإذا كان ماركس يعتمد الاقتصاد السياسي لإثبات الحق، فإن فئة من اليسار تثبت “حقا” خاصا به دون اعتبار لقواعد الاقتصاد السياسي.
وعلى هذا الأساس سيكتشف القارئ بعد قراءة هذا الكتاب، أن المواقف العدمية لا تصدر عن “ماركسية سديدة”، وإنما عن ادعاء لم يعرف من الماركسية غير المقولات والتفسيرات التي تم إنتاجها في سياق غربي أوروبي مختلف عن السياق المغربي، أو في سياق غربي تم إخضاعه لعملية انتقاء شملت المتن الماركسي نفسه. ولم يكن هذا النوع من النظر الإسقاطي ليهتدي إلى موقف سديد في قضية تتطلب التمييز بين التاريخي والأنثروبولوجي، وبين التناقض الرئيسي (مع الاستعمار) والتناقض الثانوي (مع نظام الحكم)، وبين منطق الدولة الحديثة ومنطق القبيلة، وبين الثورة والانفصال، وبين النضال الديمقراطي والنضال الوطني.. تحتاج هذه التمييزات إلى عدة نظرية لا تقتصر على “الاستيعاب” الميكانيكي لقواعد “الإشتراكية العلمية”، بل تتعداه إلى معرفةٍ عميقة بالأنثروبولوجيا والتاريخ وعلم السياسة وعلم الاقتصاد السياسي والجغرافيا والسوسيولوجيا الخ. وعوض الاعتراف بالنقص النظري، طفقت الفئات العدمية من اليسار إلى تعويض نقصها باختزال معركة وطن ضد الاستعمار في معركة تنظيم سياسي ضد نظام الحكم.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، لم ترتفع هذه “السردية” العدمية بسقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي، وإنما أعيد إنتاجها في شرط جديد، وتم توظيفها عولميا في إطار خطاب “حقوقي” تقود قاطرته الإمبريالية الجديدة ومؤسساتها.. لقد أصبحت “السردية الشرقية” “سردية غربية” وكأنها أبت إلا أن تعود إلى أصلها، حيث تتقاطع مع الاستهداف الاستعماري للوحدة الترابية المغربية.. وهكذا تحول بعض اليسار، بقاياه العدمية، إلى امتداد للإمبريالية الحقوقية في مفارقة كاريكاتيرية تجمع بين نقيضين إيديولوجيين وسياسيين.
وفي سياق جديد أخذت “الإمبريالية الحقوقية” تلفظ فيه أنفاسها الأخيرة، ما زال نفس اليسار العولمي يعزف على نفس أوتاره القديمة. وهذه مفارقة أخرى شاهدة على تغير العالم وثبات اليسار العولمي.. لقد تغير العالم عبر ثلاثة مراحل (مرحلة الثنائية القطبية، مرحلة الأحادية الإمبريالية، مرحلة تراجع الأحادية)، فيما بقي اليسار العولمي ثابتا على مواقفه العدمية القديمة (ما قبل سقوط جدار برلين). وحيث يُعتبر التغير العالمي نتاج عمليات من التناقض والترابط في الوحَدة العالمية، فإن اليسار العولمي بإهماله وإغفاله لهذا التغير يكون قد أتى على بنيان “المادية الجدلية” من حيث لا يدري. أما “المادية التاريخية” فهو يمارس فيها الإسقاط، وهو في منزلة دون الوعي السديد بها في الشرط المغربي لاعتبارات ذكرناها سابقا، أبرزها إهمال التاريخ وملء حاضره بإسقاطات وتحليلات مصطنعة.
***
هناك حاجة ملحة اليوم إلى “اليسار السديد”، اليسار الذي يصحح أخطاء ماضيه وينطلق من جديد على أساس نظري ماركسي متين وسديد. الحاجة إلى هذا اليسار لا تفرضها قضية الصحراء وحدها، بل كذلك غيرها من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي يطرحها الرأي العام المغربي وتقتضيها مصالح المجتمع المغربي ودولته.. وإذا كانت الحاجة هي هذه، فإن “اليسار” قد أصبح غريبا عند “اليسار” نفسه. فهو اليوم، إما شعارات خالية من روح نظرية، وإما نظر لا يعرف من النظرية غير ضرورة مرسومة يلزمها فتفقده قدرته على رؤية ضرورات أخرى.
هذا “يسار” مريض، أو لعله محتضَر، لا ينفع لا في التأييد ولا في المعارضة، فاقد للنجاعة فيهما معا.. ولا تتحقق له فيهما نجاعة من ذاته، وإنما من البنية الوظيفية لممارسته العملية.. إنها نجاعة من الخارج لا من الداخل، غيرية لا ذاتية. هكذا يمكن الحديث عن “يسار” اليوم حفظا لماء وجهه العملي، أما النظرية فقد جعلها وراء ظهره قبل عقود، أهملها من أهملها (اليسار الكلاسيكي)، وتخلص منها من تخلص منها (اليسار الجديد).. فانقسم الجمع بين “جبهة محافظة” تمارس التأييد بلغتها الخاصة، و”تيار ليبرالي” يدعي وصلا بـ”اليسار”.
وفي علاقةٍ بقضية الصحراء المغربية، فلا شك أن “الجبهة المحافظة” (الإصلاحية بلغة “اليسار الجذري”) تلعب أدوارا تقدمية في الدفاع عن مغربية الصحراء.. إلا أنها فقدت الكثير من نجاعتها الفكرية والسياسية، ومن ذلك قدرتها على المرافعة النظرية والاقتراح على أجهزة الدولة بعد دراسة ومتابعة ورصد وتحليل. فما الذي يميز “اليسار” عن باقي الاتجاهات السياسية والإيديولوجية إذا كان سيكتفي بفعالية ونجاعة من خارجه، في ظل الحاجة إلى نجاعة من ذاته، من تجربته وقدراته النظرية؟! وإننا عندما نتحدث اليوم عن قدرات “اليسار” الترافعية في الخارج، فهي لم تعد تكتسي أهميةً كانت لها زمن الثنائية القطبية، فالأمر لا يعدو أن أصبح إما تصريفا لخطاب عابر أو تصريفا لعلاقات دولية جديدة.. النجاعة المطلوبة من اليسار اليوم، من ذاته إضافة إلى تلك التي يكتسبها من خارجه، تتجلى في عملين لا بد منهما: توعية الجماهير بمغربية الصحراء بناء على أساس نظري متين، المساهمة في تجويد القرار السياسي الصادر في ملف الصحراء المغربية (وذلك عن طريق تقديم الخبرة).. والسؤال هو: إلى أي حد تضطلع “جبهة اليسار المحافظة” بهذه المهام؟
وبخصوص “التيار الليبرالي” فقد كاد أن يتبنى وجهة نظر خصوم الوحدة الترابية للمغرب، أما “المرجعية الأممية” العولمية فقد أصبحت مرجعا له في إصدار الموقف السياسي. وهذه وحدها كافية للتشكيك في هويته “اليسارية”. وهو في ذلك ليس شذوذا عن يسار “الأحادية القطبية” التي أفرزت يسارا جديدا على أنقاض سقوط الاتحاد السوفييتي.. الميزة الأساس لهذا “اليسار” أنه طمس “مرجعيته الماركسية” في ركام من “الأوراق الأممية”، فوجه اهتمامه إلى حقوق الأقليات والبيئة والشذوذ الجنسي والمشاكل الحدودية وحرية المعتقد الخ، ضاربا “الجوهر الاجتماعي للمرجعية الحقوقية الجديدة” عرض الحائط. ولذلك فلا غرابة إذا انتهى المطاف بهذا “اليسار” نقيضا لمصالح شعوب الجنوب في ملفات حساسة من قبيل ملف وحدتها الترابية في هذا البلد أو ذاك.. فماذا يُنتظَر من “يسار” إنسانوي عولمي عابر للقارات جنبا إلى جنب “الشركات متعددة الجنسية”؟!
***
هذا جزء من الخلفية النظرية النقدية التي حكمت وعي المؤلف وهو يحاول عرض موقف اليسار المغربي من قضية الصحراء المغربية.. فهو من جهة يعرف أهمية اليسار، لكنه يُخضع تجربته من جهة أخرى للنقد عندما يتعلق الأمر بزيف نظري لدى “اليسار” العولمي، أو بتلاشٍ نظري وضعف في النجاعة لدى “اليسار الوطني” في شرطه الراهن.. إلا أن صاحب الكتاب لا يريد لهذا النقد أن يكون بغير سقف منفلتا من كل ضرورة. فإذا كان “اليسار” غير قادر، لأسباب ذاتية وموضوعية، على إنتاج المرافعة النظرية والخبرة العملية، فاصطفافه ضمن مرافعة إدارة الدولة وتدبيرها يصبح ضرورة عندئذ.. إن ممارسة وطنية محافظة خير من ممارسة عولمية تناقض الوحدة الترابية، وخير من ممارسة مرتبكة تربك القضية وتعرقل تدبير الدولة للملف في واقع سياسي -داخلي وخارجي-لا يسمح بذلك.
لا تُدبَّر الملفات الحساسة والمعقدة بالرغبات، وإنما بالضرورات. وأول سؤال يجب أن يطرحه اليسار الوطني على عقله الجمعي: ما مدى معرفته بهذه الضرورات وحيثياتها ومتطلباتها وإمكانات التقدم في إطارها؟ اليسار المؤهل للاقتراح على الدولة ودعمها بالخبرة الميدانية مطالب بمعرفة ضرورات القضية، وإلا فليكتفِ بالمسموح به في الداخل والخارج، فذلك حسبه ومبلغه عمليا. وإنه عندما يقرر ذلك يبقى وفيا لمرجعيته “اليسارية” باعتبارها تبني على “الواقع الملموس” وتتصرف وفق ما يقبله ويسمح به، ونظرا لأنها تقيه السقوط في النزعات العولمية والعدمية ذات المنحى الرجعي واللاوطنية.
نحن إذن إزاء رغبة وضرورة. رغبة في أن يلعب اليسار أدوارا نظرية وعملية لا يلعبها غيره، وضرورة يفرزها واقع اليسار من جهة وتحديات التدبير من جهة ثانية. لن نصنع يسارا سديدا خبيرا بمحض إرادتنا، ولن نجد حلا لنزاع مفتعل خارج زمن العالم. إن إحياء اليسار كما نريده ليس غاية في ذاته، إنه وسيلة لنقد الرأسمال ونفيه في شروط تسمح بهذا النفي. معركة الصحراء المغربية معركة ضد الإمبريالية، وهذه “أعلى مراحل الرأسمالية” بتعبير فلاديمير لينين. وعليه فدفاع اليسار عن مغربية الصحراء يحافظ على رسالته وغايته الكبرى (الإشتراكية)، وإن لزم تدبير الدولة للملف ما دام هذا التدبير يحفظ الوحدة الترابية ويتقدم في معركتها إلى الأمام، بغض النظر عن وتيرة هذا التقدم. إنه موقع آمن للصحراء المغربية واليسار الوطني، في أفق حل المشكلين معا: نزاع الصحراء المفتعل، وأزمة اليسار النظرية.
هذا نموذج لتفكير اليسار في قضية الصحراء المغربية، إلا أن اليسار العولمي رضي لوجوده السياسي والإيديولوجي أن يكون امتدادا لوجود إمبريالي ينزع إلى السيطرة والابتزاز بخطاب “حقوقي” يراد به باطل هو “الاستعمار الجديد”.. وإذا كان “اليسار” العولمي غير واعٍ بهذا التوظيف الاستعماري، فإنه في حاجة إلى مراجعة ملحة لعلاقته بالماركسية، أو ما بقي من علاقته بها.
***
يأتي هذا الكتاب في ستة محاور خصِّص كلٌّ منها لدراسة خطاب من خطابات اليسار بخصوص موقفه من قضية الصحراء المغربية.. ولم نكتف في كل محور ببيان الموقف العام لهذا الحزب/ المنظمة أو ذاك/ تلك، بل ارتأينا بيان مواقف أبرز رموز اليسار المغربي ومفكريه وقياداته في كل حزب ومنظمة، لاعتبارين اثنين: أولا، من أجل معارضة اليسار العولمي بنماذج يسارية وطنية؛ وثانيا، بهدف تجميع هذه المواقف منسوبة لأصحابها في كتاب واحد يرشد الباحثين ويسهل البحث عليهم.
وفي ما يلي محاور الكتاب:
-المحور الأول: موقف الحركة الاتحادية/ الاتحاد الوطني للقوات الشعبية؛ وفيه موقف الحزب ومواقف عبد الله إبراهيم والمهدي بن بركة والفقيه محمد البصري.
-المحور الثاني: موقف الحركة الاتحادية/ الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية؛ وفيه موقف الحزب ومواقف عبد الرحيم بوعبيد وعمر بن جلون ومحمد عابد الجابري ونوبير الأموي وفتح الله ولعلو.
-المحور الثالث: موقف الشيوعيين المغاربية؛ وفيه موقف الحزب الشيوعي المغربي، وموقف حزب التحرر والاشتراكية، وموقف حزب التقدم والاشتراكية، وموقفا علي يعتة والتهامي الخياري (جبهة القوى الديمقراطية) وإسماعيل العلوي.
-المحور الرابع: موقف اليسار الجديد/ منظمة “23 مارس”؛ وفيه موقف هذه الأخيرة وموقف منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، ومواقف محمد بنسعيد آيت يدر وعبد السلام الموذن وعلال الأزهر وعبد الصمد بلكبير.
-المحور الخامس: موقف اليسار الجديد/ منظمة “إلى الأمام”؛ وفيه موقف المنظمة وموقف حزب النهج الديمقراطي العمالي، وموقفا أبراهام السرفاتي ومصطفى البراهمة .. وهي المواقف التي حررنا نقدا لمضمونها بعد عرضها كلما وجدنا ذلك ضروريا.
-المحور السادس: “يسار الصحراء”/ جبهة “البوليساريو”؛ وفيه موقف الجبهة وتحولاته والتباسه في النشأة وانحرافه في لاحق الزمن، وكذا مواقف المصطفى الولي السيد وأحمد بابا مسكه والمحجوب السالك وعمر العظمي.
***
هذا كتاب بسياقه، بيان سياسي ونظري وطني غرضه نقد الإيديولوجيا العولمية في قضية الصحراء المغربية.