مصطفى سمير. باحث ومترجم من العراق
منذ أيام صدر كتاب مهم من تحرير زيشان غفار وكلوس فان ستوتج وأنجيليكا نويفرت بعنوان:
Theology of Prophecy in Dialogue: A Jewish-Christian-Muslim Encounter
لاهوت النبوة في الحوار: مواجهة يهودية مسيحية إسلامية، أو بتصرف يسير: “تأملات في إلهيات النبوة بين اليهودية والمسيحية والإسلام”، وهذه ترجمتي لأبرز أفكار فصوله كما جاءت في مقدمته، وربما احتاجت الترجمة الى بعض التصويب الذي يتطلب قراءة الكتاب كله، لكنها بهذا التمام لا تخلو من فائدة تعريف القارئ به.
تناول شارلوت إي. فونروبيرت في دراستها الطريقة التي تعاملت بها التقاليد الحاخامية مع مسألة النبوة. إذ تتبع الكاتبة نصّين، أحدهما من المرويات التنائية، والآخر من سُجيا تلمودية بابلية متأخرة، لتبيّن من خلالهما التداخل بين تلاشي الروح النبوية وثبات أثرها في التراث التلمودي. وتُظهر كيف يتناوب التفاؤل والتشاؤم ـ سواء في بعديهما التاريخي أو المعرفي ـ ضمن هذه المعالجة.
أما هولغر زلينتين، فيتأمّل في المعجزات المنسوبة إلى عيسى كما وردت في القرآن وكتاب “توليدوت يشوع”. ويذهب إلى أنّ القرآن يصوّر عيسى في سياق نبوي يتضمّن نقدًا للمسيحية الإمبراطورية، كما يُعارض فيه السرديات اليهودية الجدلية حوله. ويرى أن القرآن يقدّم إشارات إلى الخلافات الحاخامية بشأن شخصية عيسى، ويهدف إلى تحليل القرآن بوصفه نصًّا أدبيًّا من العصور القديمة المتأخرة، بخاصة عند مقارنته بالتلمود البابلي، كما يسعى إلى إعادة النظر في الحوارات الدينية بين اليهود والمسيحيين من خلال الصورة القرآنية لعيسى، وقد ساعده ذلك في معالجة بعض مواطن الاضطراب في مخطوطات “توليدوت يشوع”.
وتحلل إليسا كلابهك تعليمات النبيّات السبع، وتُبرز من خلالها عناصر مغمورة بل ومكبوتة، لا يُمكن سبرها إلا لمن أوتي أدوات التأويل الحاخامي. وتكتب: “غير أنّ هذه الشيفرة، متى ما فُكّت رموزها، فإنها تمدّنا اليوم ببذور نظرية جندرية حاخامية تُعدّ شرطًا لقيام نمط نبوي مسيحاني بديل”.
أما مقال كاترين هزر، فهو مكرّس لدور موسى بوصفه نبيًّا سابقًا لعيسى ومحمد في بدايات الإسلام. وقد أدّى تركيزها على موسى بوصفه نموذجًا نمطيًّا إلى اقتراح قراءته في إطار التخيلات الأخروية. وفي هذا السياق، تفحص المؤلفة الدوافع المختلفة المرتبطة بموسى وصورها في التقاليد اليهودية والمسيحية والإسلامية على السواء، وتُقدّم في الوقت ذاته عرضًا لأهم البحوث المعاصرة في هذا الشأن.
ويأتي القسم الثاني من الكتاب ليناقش المفاهيم القرآنية، مع تركيز خاص على علاقاتها بالنصوص السريانية والحاخامية الموازية.
تقدّم فاطمة توفيقي طرحًا مهمًّا مفاده أن رمزية قصة بلعام حاضرة في سورة الأعراف. وهي توافق المفسّرين المسلمين الذين رأوا أن بطل القصة المذكور هو بلعام، وتذهب إلى أن القرآن يتفاعل مع مسألة إمكان أن يكون غير الإسرائيلي نبيًّا. وتؤكد أن النبوة، وإن كانت أمرًا موكولًا إلى الإرادة الإلهية، فإنها تتطلّب من صاحبها خصالًا مخصوصة تُؤهله للقيام بها. ومن ثم، فإن قصة بلعام تُستخدم لتحديد شروط النبوة، ولتمييز الصادق منها عن الزائف. كما ترى توفيقي أن السورة تتناول علاقة النبوة بالنسب، وتنفي أن يكون بينهما صلة لازمة.
ويستعرض كلٌّ من أنجيليكا نويفرث وديرك هارتفيغ دور إبليس والشر في قصة آدم القرآنية، ويبحثان بتوسّع في السياق والغرض الخاص لورود هذه القصة عند زمن نزولها. وتُظهر ملاحظاتهما أنّ ثمة اختلافًا ملحوظًا بين روايات القصة في السور المكية ونظيرتها في المدنية. ففي حين أن مركز الانتباه في السور المكية ينصبّ على مفهوم التمرّد بوصفه محور الشر، نجد أنّ القصة في السور المدنية تنحو إلى تأكيد المأساة البشرية الأولى، حيث يظهر آدم من جديد بكرامة ومنزلة خص بها. ويخلص الكاتبان إلى أن الرسالة القرآنية تقدّم تصورًا جديدًا للإنسان، يقوم أساسًا على معيار معرفي، لا أخلاقي.
وينبّه ثاقب حسين إلى الطريقة التي تعرض بها الآيات 17 إلى 48 من سورة “ص” مشاهد من قصص داود وسليمان وأيوب، ثم يستعرض التفاسير السابقة لها قبل أن يطرح قراءته الخاصة. وتكمن أهم مقترحاته في القول بوحدة السورة، التي تتجلّى من خلال تكرارات معجمية تمتد عبر القصص النبوية وتتجاوزها. ومن ثم، يرى أن هذه القصص مترابطة ومتكاملة، ويجب فهمها في ضوء وحدة سورة “ص” برمتها.
ويبدأ زيشان غفّار بإبراز حدود المعرفة النبوية كما وردت في القرآن، ليبحث بعدها في نبوة محمد في العصور القديمة المتأخرة، مع التشديد على الطابع المناهض للرؤى الأخروية في حكمته النبوية. ويركّز على تصريحات القرآن المتعلقة بالعلم، وذلك في ضوء النصوص السريانية، مبرزًا مقاومة القرآن لكل أشكال الخطابات الأبوكاليبتية، وهي سمة بارزة في السور المكية الأولى. ويلعب السياق التاريخي لحرب الروم والفرس دورًا محوريًّا في حججه.
وأما علي آغائي، فيسعى إلى إثبات أن الرجوع إلى التقاليد السابقة للإسلام ليس لازمًا في كل ما يرد من روايات الكتاب المقدس في المصادر الإسلامية. ويقوم برهانه على وجود روايات إسلامية لا تُقابلها نظائر في التقليد السابق، وإن كانت تشبه الهَجَادة السابقة للإسلام في صورتها ومضمونها. ويقترح أن الرواية الشفهية تُعين على حل الإشكالات اللفظية والمفاهيمية في النصوص الكتابية، كما تساعد في توسيع القضايا اللاهوتية وتوضيحها.
وتناقش نورا شميت العلاقة بين الجسد والحكمة في سياق نبوّة يوسف في القرآن، كما تتأمل في صورة “السيدة حكمة” التي تؤدي ـ فيما يظهر ـ دورًا رمزيًّا في مسيرة يوسف. وتطرح تساؤلات ذات طابع منهجي في دراسات القرآن، مستندة إلى تأملات من دراسات العهد القديم. وتذهب من منظور تأويلي إلى أن “السيدة حكمة” يمكن فهمها بوصفها الكيان الذي تولّى إيصال القصص المتعلقة بيوسف.
ويجادل سليمان دوست بأن السياق العربي للإسلام المبكر لا يمكن اختزاله في الأطر الجغرافية أو الإثنية أو اللسانية، مهما بدا ذلك مغريًا. وتكشف تحليلاته عن فهم مغاير لمصطلح “العربي”، الذي نشأ في بدايات البحث الغربي النقدي، وعرّف العربي من خلال ما يفتقده لا ما يملكه. وتتمثل حجته الرئيسة في أن النقوش العربية السابقة للإسلام تُتيح سياقًا مهمًّا لفهم تفاعل القرآن مع المشركين ومع اليهودية والمسيحية.
وفي خاتمة الكتاب، يُعرَض نموذجان من المساعي المسيحية لتطوير لاهوت نبوي مسيحي، أحدهما ينطلق من العهد الجديد، والآخر يستنير بعدد من الرؤى القرآنية المستقاة من قصة يوسف. يعرض كلاوس فون شتوش البعد العلائقي في الكريستولوجيا، ويرى أنّ هذا البعد يجد تمثّله في القرآن، حيث يُقدَّم عيسى ونظيره الكتابي يوسف لا بوصفهما رمزين للسلطة المطلقة فحسب، بل بوصفهما إخوة لنا يمكن معايشة قربهم. ويشدّد خصوصًا على الوظيفة التي يضعها القرآن لنفسه، أي كونه جسرًا. فمن منظور المبلِّغ، تعزّز يهودية عيسى قداسته. ويُجسّد القرآن هذا المفهوم بإدانته محاولة رفع يوسف فوق إخوته، وبالنتيجة، رفع الكنيسة فوق إسرائيل. فالتصالح المتناغم بينهما هو ما يُبرز الجمال الحقيقي في قصة يوسف كما رواها القرآن.
أما كريستيان بلومنثال، فيتناول ظاهرة النبوة من زاوية دراسات العهد الجديد، مركزًا على رسالة يهوذا. وتشكل تعددية المقاربات التي وُجهت بها النبوة في المسيحية الأولى الإطار الخلفي الذي تُفهم في ضوئه هذه الرسالة. ويعرض الكاتب في نهاية المطاف بعض أوجه الموازنة مع القرآن، مثل سُورتي المسد والبروج (الآيات 4 – 6)، مقارنًا إياهما برسالة يهوذا في سياق التساؤل عمّا إذا كانت تشكل معًا نموذجًا لخطبة إنذارية استباقية.