3 مايو 2025 / 11:34

إصدارات حول علاقة القانون وتعقيدات العلاقات الاجتماعية الأولية

أحمد السكسيوي

 

كتاب آخر للفيلسوف والقانوني الفذ فرنسوا أوست المعنون بـ”القانون وامبراطورية الثالث” الذي يناقش جدلية أساسية في أنطولوجيا القانون، من خلال طرفي النقيض الأول التغييرات التي سينكسبها عند التحول الى القانون والثاني الخسائر التي سنتكبدها عند الخروج عن القانون.

يتناول كتاب “القانون أو إمبراطورية الطرف الثالث” للمؤلف فرانسوا أوست سؤالاً جوهرياً حول التغييرات التي تحدث عند التحول إلى القانون، وما الذي نخسره أو نكسبه في هذه العملية، وماذا يعني الدخول في علاقة أو مجتمع قانوني.

يرى الكتاب أن هذا التحول يتضمن إدخال “طرف ثالث” يقوم بتثليث العلاقات الاجتماعية الأولية (العاطفية والاقتصادية والسياسية). هذا الطرف الثالث يمكن أن يكون سلطة خارجية مثل القاضي أو المشرع، أو وظيفة يتم استيعابها داخلياً من قبل الأفراد ليصبحوا أشخاصاً للقانون.

ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء رئيسية:

الطرف الثالث، أو الارتقاء إلى القوة الثالثة: يتناول هذا الجزء مفهوم الطرف الثالث وتجلياته المختلفة ودوره.

التسجيل على مسرح ثالث: المراحل الأربع للانتقال إلى القانون: يستعرض هذا الجزء الخطوات التي يتم من خلالها الانتقال إلى النظام القانوني.

بين العنف والحب، القانون: يبحث هذا الجزء في العلاقة بين القانون ومفاهيم العنف والحب.

يهدف الكتاب بشكل عام إلى إبراز القيمة المضافة التي يقدمها القانون للحياة الاجتماعية من خلال بناء عالم اجتماعي ثلاثي الأبعاد يعتمد على مرجعية الطرف الثالث.

********************

استكمالا لما جاء أعلاه، أقدم الان كتابا يناقش العلاقة السابقة من خلال نموذج المسرحي الانجليزي ويليام شيكسبير وقد عنون فرنسوا كتابه بـ: “شيكسبير: كوميديا القانون”.

يمثل هذا الكتاب، الصادر عام 2012 عن دار Michalon ، تطبيقاً مكثفاً وعميقاً لمنهج “القانون والأدب” الذي طوره أوست، وهذه المرة على أعمال الكاتب المسرحي الإنجليزي الأعظم ويليام شكسبير. يُعتبر الكتاب مساهمة فريدة في المكتبة الفرنسية، حيث كان الأول من نوعه الذي يتناول أعمال شكسبير بشكل منهجي من منظور قانوني وفلسفي. يقدم الكتاب تحليلاً شاملاً لعلاقة شكسبير بالقانون من خلال بنية تجمع بين السياق التاريخي والتحليل النصي :

مقدمة: تؤكد على أنه كما نتحدث عن “لغة شكسبير”، يمكننا وبنفس القدر من الأهمية أن نتحدث عن “قانون شكسبير”.

الفصل الأول: يستعرض حياة شكسبير المضطربة وعلاقاته المتعددة، سواء كانت فرصاً أو نزاعات، مع النظام القانوني في عصره.

الفصل الثاني: يناقش وضع المسرح نفسه كموضوع ورهان للقانون والرقابة في إنجلترا الإليزابيثية.  الفصل الثالث: يبرز الحضور المكثف والمفصل للمفاهيم والمصطلحات والإجراءات القانونية في نسيج أعمال شكسبير.

الفصل الرابع: يرسم صورة للسياق التاريخي والاجتماعي والقانوني المضطرب الذي عاش فيه شكسبير، والذي تميز بتحولات كبرى وانتقال من العصور الوسطى إلى بدايات الحداثة.

الفصل الخامس: يتساءل عن إمكانية اعتبار شكسبير “فيلسوفاً للقانون”، ويناقش طبيعة مساهمته الفكرية في هذا المجال.

يخصص الكتاب جزءاً كبيراً لتحليل ست مسرحيات تعتبر من روائع شكسبير، كاشفاً عن أبعادها القانونية والفلسفية العميقة وغير المتوقعة: “تاجر البندقية” (Le Marchand de Venise)، “الصاع بالصاع” (Mesure pour mesure)، “ريتشارد الثاني” (Richard II)، “يوليوس قيصر” (Jules César)، “هاملت ” (Hamlet)، و”الملك لير” (Le Roi Lear).

يتمحور الكتاب حول إثبات أن ويليام شكسبير لم يكن مجرد عملاق في الأدب والمسرح، بل كان أيضاً مفكراً قانونياً وفلسفياً ذا رؤية ثاقبة وعميقة. يجادل أوست بأن مسرحيات شكسبير ليست مجرد أعمال فنية، بل هي بمثابة “مختبر حي”  أو “مسرح تجريبي” تُعرض فيه وتُختبر وتُناقش القضايا القانونية والأخلاقية والسياسية الأكثر جوهرية في التجربة الإنسانية.

يرى أوست أن شكسبير، بصفته شاعراً وطنياً ساهم في صياغة الرواية السياسية والقانونية للأمة الإنجليزية في فترة التحولات الكبرى لعصر النهضة، يمكن اعتباره نموذجاً لما أسماه الشاعر شيلي “المشرعين الخفيين” (législateurs cachés)؛ أي أولئك المبدعين الذين يشكلون وعي أمتهم وقيمها من خلال أعمالهم الفنية.

تتناول مسرحيات شكسبير بشكل متكرر ومباشر قضايا قانونية أساسية لا تزال تشغل الفكر القانوني حتى اليوم، وغالباً ما يستشهد به القضاة حتى في المحاكم العليا المعاصرة (مثل المحكمة العليا الأمريكية). من هذه القضايا: التوتر بين روح القانون وحرفية النص، الصراع بين متطلبات العدالة والإنصاف وبين قسوة الشكلية القانونية، مسألة شرعية السلطة السياسية ومصادرها، طبيعة الحقيقة القانونية وعلاقتها بالحقيقة الواقعية والمحتملة والمزيفة، إشكالية تطبيق القانون الجنائي بين التشدد والتساهل، والتوازن الصعب بين منطق الانتقام وضرورة العفو والمصالحة.

شكسبير لا يقدم حلولاً قانونية جاهزة أو دروساً مباشرة في القانون. بدلاً من ذلك، هو “يمثل” (performe) هذه الإشكاليات المعقدة ويجسدها درامياً على خشبة المسرح. مسرحياته تكشف عن “كوميديا القانون” (Comédie de la Loi)، أي عن تعقيداته وتناقضاته ومفارقاته، وعن الأهواء والمصالح التي تحركه من وراء ستار الموضوعية.

يُظهر تحليل مسرحيات محددة كيف يستخدم شكسبير المواقف القانونية للكشف عن معضلات أخلاقية أعمق. ففي “تاجر البندقية”، على سبيل المثال، يكشف العقد القاسي الذي يطالب به شايلوك عن مخاطر الشكلية القانونية العمياء، بينما تمثل مرافعة بورشيا الشهيرة دعوة للرحمة والإنصاف كقيم تتجاوز القانون الوضعي.

يؤكد أوست على أن مسرح شكسبير لم يكن مجرد انعكاس سلبي للواقع القانوني والاجتماعي في عصره، بل كان أيضاً تفسيراً ونقداً وتشكلاً لهذا الواقع. فالمسرحيات تعكس التحولات القانونية والاجتماعية الكبرى التي شهدتها إنجلترا الإليزابيثية وتساهم في فهمها.

المسرح كفضاء للتفكير القانوني النقدي: يؤكد أوست على أن المسرح، وخاصة مسرح شكسبير الغني بالتفاعلات والحوارات والصراعات، ليس مجرد وسيلة لعرض القانون أو تمثيله، بل هو فضاء نشط للتفكير فيه ونقده وتطوير فهمنا له. إن استخدام أوست لعبارات مثل “مختبر حي”  و”كوميديا القانون”  يشير إلى هذه الوظيفة المعرفية والنقدية للمسرح. ويربط أوست ذلك بالعلاقة التاريخية الوثيقة التي كانت قائمة في إنجلترا الإليزابيثية بين عالم المسرح وعالم القانون، خاصة من خلال مؤسسات مثل “نزل المحاماة” (Inns of Court) التي كانت مراكز للتعليم القانوني والثقافة الأدبية في آن واحد. يرى أوست في المسرح الشكسبيري نموذجاً لكيفية مساهمة الفن بشكل فعال في إثراء “الثقافة القانونية” (legal culture) للمجتمع، وذلك من خلال طرح الأسئلة الصعبة، وتجسيد المعضلات الأخلاقية والقانونية المعقدة أمام الجمهور، ودعوته للتفكير والتأمل بدلاً من تقديم إجابات جاهزة. وهذا يعزز فكرته الأوسع حول أهمية السرد والمخيال في فهم القانون وتطويره.

مشروع مزدوج لتجديد الدراسات الشكسبيرية والقانونية: يطمح الكتاب، كما يصرح أوست، إلى تحقيق هدف مزدوج: من ناحية، إثراء فهمنا لأعمال شكسبير من خلال تسليط الضوء على أبعادها القانونية والفلسفية التي غالباً ما يتم تجاهلها أو التقليل من شأنها في الدراسات الأدبية التقليدية. ومن ناحية أخرى، يهدف إلى تجديد الدراسات القانونية نفسها من خلال الاستفادة من الرؤى العميقة التي يقدمها شكسبير حول الطبيعة البشرية، والسلطة، والعدالة، وحدود القانون. إن تأكيد أوست على أن كتابه هو الأول باللغة الفرنسية الذي يتبنى هذا المنهج بشكل شامل، يضعه في موقع الريادة في مجال “القانون والأدب” في أوروبا الناطقة بالفرنسية. يمثل الكتاب تتويجاً لجهود أوست المستمرة في بناء جسور بين هذين التخصصين، ويهدف إلى إقناع كل من دارسي الأدب ودارسي القانون بالقيمة المعرفية والنقدية لهذا المنهج البيني، وبأن الحوار بين القانون والأدب يمكن أن يثري كليهما بشكل كبير.

*************

ملاحظة: عنوان المادة من اقتراح الموقع.

رابط صفحة الكاتب على فيسبوك: https://www.facebook.com/Qanoni.ahmed