خديجة منصور
يقدم العروي ابن خلدون كمثال فريد جمع بين اتباع من سبقوه من المؤرخين والفقهاء وبين الابتكار في التأويل حين يغيب التواتر، لم يكن هذا المزيج وليد الصدفة، بل يعكس رؤية تاريخية تحليلية تنطلق من الواقع لتصل إلى العبر، ابن خلدون يصف الأحداث ويحللها لكنه حين يحكم عليها فإنه يرتدي عباءة القاضي السني المالكي، وحين يسردها يحاور جميع من حاولوا قراءة التاريخ بغض النظر عن مذهبهم أو خلفيتهم الفكرية.
يؤكد العروي أن موقف الفقيه من السياسة والدولة في الإسلام كان دائماً معقداً وغير محدد، وذلك لأن الفقهاء تناولوا مفهوم الخلافة كمثل أعلى لم يتحقق إلا لفترة قصيرة وبإلهام رباني،و مع ذلك عاشوا في أنظمة بعيدة عن هذا النموذج ، في حين أن الغزالي يرى على سبيل المثال التركيز يجب أن يكون على تطبيق الشرع حتى وإن تم إهمال الخلافة، يتفق ابن تيمية معه في هذا التصور، حيث يُعرِّف الدولة الإسلامية بأنها دولة تقوم على الشرع فقط، غير أن الجميع يدرك أن تطبيق الشرع بحرفيته أمر شديد الصعوبة في ظل الظروف السياسية الواقعية.
يضيف أن الفقهاء ميزوا بين “الخلافة”، التي تتجاوز الشكل السياسي لتحقيق مقاصد الشرع، و”الإمارة” التي قد تحقق العدل دون أن تلتزم بالشرع كاملاً، المستشرق هاملتون جيب حاول تفسير هذا التمييز بجعل الجهاد الخارجي أساساً للخلافة لكنه أغفل جانبها الروحي الداخلي، الذي يكمن في محاربة الجاهلية وتحقيق مكارم الأخلاق. يرى العروي أن الخلافة الحقيقية ليست في تطبيق الشرع وحده، بل في تحقيق مقاصده العليا، وهي مكارم الأخلاق بحيث يكون الجهاد وسيلة لإعلاء كلمة الله داخلياً قبل أن يمتد إلى الخارج.
أما المؤرخون والأدباء مثل ابن خلدون، فإنهم ينظرون إلى السياسة بواقعية مغايرة لنظرة الفقهاء، ابن خلدون كما يوضح يعترف بأهمية معايشة الواقع السياسي، لكنه يشدد على أن الظلم يؤدي إلى خراب العمران، ويبرز هنا دور الأدباء في تقديم النصح للحكام مشيرين إلى أهمية الالتزام بالشريعة لضمان استقرار الحكم، من جانب آخر يرى أن ابن خلدون يجعل من هذا الالتزام معياراً لتحول السلطان إلى إمام شرعي تجب طاعته ويُحرم عصيانه. غير أن مؤلفي الأدب السلطاني، وإن دعوا الحكام إلى الصلاح والعدل، نادراً ما أشاروا إلى المقاصد الأخلاقية العليا التي كانت محور اهتمام الفقهاء.
من جهة أخرى يعكس الفلاسفة المسلمون، كما يصفهم العروي موقفاً فردانياً تجاه السياسة والدولة، مستلهمين أفكارهم من الفلسفة اليونانية، انطلق هؤلاء الفلاسفة من واقع الدولة المتسلطة إلى رؤية أخلاقية تخاطب الفرد المنعزل عن المجتمع، هذه الفردانية بحسب العروي، ليست سوى نتيجة طبيعية لتسلط الدولة، حيث أصبحت الحرية مفهوماً متخيلاً خارج نطاق الدولة الواقعية، بينما انسحب الفلاسفة والمتصوفة إلى عوالم ذاتية بحثاً عن الطوبى والحرية بعيداً عن قيود السياسة.
يقارن العروي بين ابن خلدون وميكافيلي ويشير إلى أن كلاهما يمثل نموذجاً لنظرية الدولة الطبيعية في حضارتيهما مع تمسكهما بالواقعية السياسية، لكن الفرق بينهما واضح: ابن خلدون المنطلق من عقيدته الإسلامية، يجعل مقاصد الشريعة فوق أهداف الدولة، في حين يرى ميكافيلي الدولة كغاية بحد ذاتها، حيث تتوحد فيها القيم مع قوانينها. ابن خلدون يربط الخلافة الصحيحة بالوازع الديني، بينما يفتقد ميكافيلي إلى غاية أخلاقية عليا ما يجعله يركز على توسع الدولة واستمرارها كأولوية مطلقة.
يخلص إلى أن الفكر الإسلامي التقليدي، رغم احتوائه على تصورات أخلاقية واجتماعية عميقة لم يقدم نظرية متكاملة للدولة ظل هذا الفكر مقيداً بفهم طوباوي للخلافة، مما جعله أقل قدرة على مواجهة الواقع السياسي مقارنة بالنظريات الواقعية الغربية، مثل تلك التي طرحها ميكافيلي، ومع ذلك يبقى هذا الفكر شاهداً على محاولات مستمرة للمواءمة بين المثال الأخلاقي والواقع السياسي.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=21763