إشكالية التنازع على الرواية التاريخية في الحركات الإسلامية
عبد الفتاح الحيداوي
المقدمة
شهد المجال الديني والسياسي في العالم الإسلامي تحولات عميقة، رافقتها ظاهرة صعود الحركات الإسلامية التي أصبحت فاعلاً رئيسياً في المشهد العام. إن فهم مسار هذه الحركات وتطورها يواجه تحدياً معرفياً وأخلاقياً كبيراً يتمثل في إشكالية التنازع على الرواية التاريخية. لا ينبع هذا التحدي فقط من الطابع السري الذي وسم بدايات العديد من هذه التنظيمات، بل يتجذر في نزاع داخلي حول أحقية السرد، أي من يملك الحق في رواية تاريخ الحركة وتمثيله.
تتمحور الإشكالية حول التضارب والتعدد في الروايات التاريخية التي تقدمها هذه الحركات عن نفسها، والتي غالباً ما تتجاوز حدود الاختلاف في وجهات النظر لتصل إلى التزييف الواعي أو غير الواعي للوقائع. ويهدف هذا التنازع في جوهره إلى تأكيد مشروعية جناح معين، أو تبرير مواقف سياسية راهنة، أو محو مسؤوليات سابقة قد تكون محرجة في سياق التحولات التنظيمية والسياسية.
تنطلق هذه الدراسة من فرضية مركزية مفادها أن التاريخ في الخطاب الحركي يُستخدم كأداة للتعبئة وتأكيد المشروعية السياسية أكثر منه كسجل نقدي وموضوعي. وتهدف الدراسة إلى تفكيك هذه الإشكالية عبر تحليل أزمة التأريخ الذاتي للحركات الإسلامية، والكشف عن الأبعاد التنظيمية والسياسية الكامنة وراء التنازع على السرد، مع التركيز على الحالة المغربية كنموذج تطبيقي.
المحور الأول: أزمة التأريخ الذاتي: من السجل النقدي إلى السرد التعبوي
تُعاني معظم الحركات الإسلامية من غياب التأريخ المنهجي والموضوعي لنشأتها وتطورها، حيث يغلب على ما يُنشر من مذكرات وسير ذاتية طابع التأريخ من الداخل، وهو ما يُنتج أزمة حقيقية في العلاقة بين الذاكرة والتاريخ.
التأريخ من منظور “الفاعل” لا “المؤرخ”
إن أغلب من كتبوا المذكرات السياسية أو التأريخ الذاتي لهذه الحركات ينتمون إلى جيل “الفاعلين” أنفسهم، أي أنهم أطراف فاعلة ومشاركة في الحدث، وليسوا مؤرخين محترفين. هذا الوضع يُضعف بشكل كبير من موضوعية الطرح، ويعزز الميل إلى التبرير أو التمجيد الذاتي، حيث يصبح السرد التاريخي أداة للدفاع عن المسار الشخصي أو التنظيمي، لا أداة للتحليل النقدي والمساءلة.
إن غياب المعايير الأكاديمية في هذه المذكرات، والاعتماد على منطق الانتقاء والتأويل الذاتي، يحول دون تشكيل سردية موحدة ومتماسكة، بل يكشف عن تناقضات حادة في تصوير الأحداث والمواقف، خاصة فيما يتعلق بالسنوات المفصلية والصراعات الداخلية.
التاريخ كأداة للتعبئة: غلبة “السرد التعبوي”
يُظهر الخطاب الداخلي لدى كثير من الحركات الإسلامية ميلا واضحاإلى اعتماد التاريخ بوصفه أداة للتعبئة لا مادة للتوثيق، وهو ما أشار إليه باحثون غربيون مثل أوليفييه روا وجيل كيبل. فبدلا من تقديم رواية غيرمنهجية للأحداث، يجري الاحتكام إلى ما يمكن تسميته بـ”السرديات النضالية”، وهي روايات تبنى لهدف آني، وتسخر لخدمة المواقف السياسية والتنظيمية المتغيرة. في هذا السياق يصبح التاريخ مساحة لإضفاء الشرعية على التحولات، وتأمين غطاء ديني أو معنوي للمواقف المتبدلة، بحيث يعاد تفسير الماضي بما يوافق ضرورات اللحظة.
وتسعى هذه السرديات إلى شرعنة المواقف الجديدة عبر ربطها بجذور تاريخية أو رمزية تضفي عليها مشروعية إضافية، كما تعمل على صناعة صورة للزعيم أو القائد تحيطه بهالة من القداسة والتميز، وتقدمه بوصفه صاحب الدور المحوري في التأسيس أو الاستمرار. ولأجل الحفاظ على هذا البناء السردي، يجري تغييب الكثير من التفاصيل الحساسة التي قد تربك السردية فالخلافات الداخلية، والانشقاقات، والتباينات العقدية، والاتصالات المعقدة مع دوائر السلطة… كلها عناصر يعاد تأطيرها أو إخفاؤها أو تأويلها بما يضمن اتساق الصورة.
ويقوم هذا الشكل من التأريخ الذاتي على هدف تعبوي بالأساس، تحكمه عقلية الفاعل داخل الحركة لا عقلية الباحث الخارجي، وتوجهه اعتبارات اللحظة السياسية أكثر مما توجهه قواعد البحث التاريخي النقدي. أما التأريخ الأكاديمي فيسعى إلى فهم الحدث من خارج محددات الخطاب التنظيمي، ويعتمد على الوثائق والمصادر المختلفة بوصفها مواد للتحليل لا أدوات للتبرير، ويتعامل مع الوقائع بمنطق نقدي يحاول كشف البنى المعقدة خلفها، دون خضوع لضغط الحاجة إلى تقديم سردية موحدة أو ملتئمة. هكذا تتباين طبيعة الرواية بين سرد تعبوي يستمد منطقه من الحركة واحتياجاتها، وسرد نقدي يستند إلى البحث الموضوعي ومنهجية التوثيق والتحقق.
غياب الأرشيف والتوثيق المنهجي
تزداد أزمة التأريخ تعقيدا بسبب غياب أرشيف حركي منظم، وندرة الوثائق الأصلية، وانعدام مراكز بحث مستقلة تعنى بجمع الشهادات وتحقيق الوثائق. إن الطابع السري الذي لازم نشأة العديد من هذه الحركات، خاصة في مرحلة السبعينات والثمانينات، أدى إلى الاعتماد الكلي على الذاكرة الشفوية والمذكرات الشخصية، مما يجعل كتابة تاريخها تحدياً معرفياً كبيراً.
المحور الثاني: التنازع على السرد
إن التنازع على الرواية التاريخية ليس مجرد خلاف حول وقائع الماضي، بل هو صراع حول ملكية المستقبل، حيث يعاد صياغة التاريخ ليخدم اللحظة السياسية الراهنة.
التاريخ في خدمة اللحظة السياسية الراهنة
يلاحظ بقوة أن الذاكرة التنظيمية لتلك الحركات تبنى في الغالب من داخل لحظة سياسية راهنة مما يجعل التاريخ عرضة لإعادة الصياغة حسب الحاجة. على سبيل المثال قد يتم تضخيم دور تيار معين في مرحلة التأسيس لتبرير مشاركته السياسية الحالية أو يتم تفسير الانشقاقات السابقة بطريقة تقصي الطرف المنشق وتدين مساره.
يصل الأمر أحيانا إلى إعادة إنتاج الأسطورة المؤسسة بطريقة تقصي أصواتا ومساهمات مركزية فقط لأنها لا تنسجم مع السردية السائدة التي تخدم التوجه الجديد للحركة كالتوجه نحو العمل السياسي العلني أو المراجعات الفكرية. هذا الاستخدام النفعي للتاريخ يفقد السردية قيمتها النقدية ويجعلها مجرد أداة دعائية.
الصراع الداخلي وتعدد الروايات
يبدو التنازع على السرد انعكاسا مباشرا للصراعات الداخلية التي تعيشها الحركات والتنظيمات، سواء بين أجنحتها المختلفة أو بينها وبين الفصائل التي انشقت عنها. فكل طرف يسعى لاحتكار “الحق في الرواية” بوصفه مفتاحا لإثبات امتلاكه للخط الأصيل والهوية الحقيقية للحركة. وفي قلب هذا الصراع، يتحول ملف التأسيس إلى ميدان لإظهار أحقية الجناح القائم في وراثة الشرعية الأولى، وكأن سرد البدايات يصبح وثيقة ملكية سياسية وفكرية. أما في ما يتعلق بالعلاقة بالسلطة، فإن إعادة صياغة الرواية تؤدي دورا في تبرير المواقف الحالية سواء كانت مشاركة أو معارضة مع السعي إلى محو الأعباء التاريخية والمسؤوليات التي قد تثقل المسار الراهن. وعندما تتناول السرديات السنوات المفصلية، وعلى رأسها لحظات الانشقاق، فإن السرد يتحول إلى محكمة تاريخية تدان فيها الأطراف المنشقة ويعاد تقديم مسار الجناح المستمر باعتباره الاختيار الصائب الذي حافظ على نقاء المنهج. ويمتد الصراع ليشمل تصوير الزعامات، حيث تمنح القداسة للزعيم الحالي بصفته حامل الهوية الشرعية، فيما تسلب عن الزعيم المنافس أو المنشق باعتباره رمزاً للانحراف أو الخروج عن الطريق. وهكذا يصبح السرد أداة سلطة تستخدم لإنتاج الشرعية أكثر من كونه مجرد رواية للأحداث.
المحور الثالث التاريخ بين عامل الوحدة وعامل التشتت
السؤال المركزي الذي يواجه الباحث في تاريخ الحركة الإسلامية المغربية هو: هل التاريخ عامل وحدة أم عامل تشتت؟
التاريخ كعامل تشتت (الواقع الراهن)
في الواقع الراهن، يمثل التاريخ في سياق الحركة الإسلامية المغربية عاملا للتشتت بامتياز. والسبب في ذلك هو أن التاريخ لم يعامل كـعلم أو كـذاكرة مشتركة، بل كـأيديولوجيا وأداة صراع.
تفكيك الأصل المشترك: بدلا من أن يكون الأصل المشترك (الشبيبة الإسلامية) نقطة التقاء، أصبح نقطة انطلاق للنزاع، حيث يسعى كل طرف إلى “امتلاك” هذا الأصل وتجريد الآخر منه.
تأبيد الانقسام: إن إعادة كتابة التاريخ بشكل تبريري تؤبد الانقسام وتصعب من إمكانية المصالحة أو حتى الحوار الجاد بين الأطراف، لأنها تحول الخلاف السياسي إلى خلاف وجودي حول “من هو الأصوب تاريخا”.
التاريخ كإمكانية للوحدة (المنظور الأكاديمي)
على الرغم من الواقع الراهن، يمكن للتاريخ أن يتحول إلى عامل وحدة إذا تم التعامل معه من منظور أكاديمي نقدي ومحايد. وهذا يتطلب جهداً جماعياً يتجاوز سرديات الفاعلين:
التحرر من الأيديولوجيا: يجب أن يتولى التأريخ للحركة الإسلامية المغربية مؤرخون متخصصون ومستقلون، يتحررون من الانتماءات التنظيمية، ويعتمدون على منهجية البحث التاريخي الصارم.
البحث عن “التاريخ الاكاديمي”: يتطلب ذلك البحث عن الوثائق الأصلية، والمقارنة بين الروايات المتعددة، وإعادة بناء الأحداث المعقدة دون حكم قيمي مسبق. هذا “التاريخ ” هو وحده القادر على تجاوز “السرديات الساخنة” المليئة بالتوظيف السياسي.
الاعتراف بالتعقيد: إن التاريخ الأكاديمي لا يهدف إلى إيجاد “الحقيقة المطلقة” بل إلى الاعتراف بـتعقيد المسار، وتعدد الفاعلين، ومشروعية التفسيرات المختلفة. هذا الاعتراف يمكن أن يُشكّل أساساً لذاكرة مشتركة، تقرّ بالانقسام دون أن تجعله قدراً أيديولوجياً.
إن افتقار الحركة الإسلامية المغربية إلى تاريخ سردي موحد هو في جوهره افتقار إلى النقد الذاتي التاريخي، وهو ما يُبقيها رهينة لـ”اللحظة السياسية” ويُعيق نضجها المؤسساتي.
نحو تاريخ أكاديمي للحركة الإسلامية المغربية
تظهر دراسة إشكالية التوثيق والسرد التاريخي في الحركة الإسلامية المغربية أن النزاع حول الماضي ليس مجرد خلاف حول وقائع، بل هو صراع حول الشرعية والهوية في الحاضر. لقد أدت أزمة التوثيق وهيمنة السرديات النضالية التي كتبها الفاعلون أنفسهم إلى تحويل التاريخ من مصدر للذاكرة المشتركة إلى أداة للتشتت وتأبيد الانقسام.
إن الإجابة على سؤال ما إذا كان التاريخ عامل وحدة أم تشتت تكمن في طبيعة التأريخ نفسه. فالتاريخ الموظف سياسيا هو بالضرورة عامل تشتت، بينما التاريخ الأكاديمي النقدي، الذي يعترف بالتعقيد ويتحرر من الأيديولوجيا، هو الإمكانية الوحيدة لبناء ذاكرة مشتركة يمكن أن تكون أساساً لوحدة أو على الأقل لتعايش سردي بين الفصائل المختلفة.
إن الحاجة ماسة اليوم إلى مشروع تأريخي جماعي يضم مؤرخين مستقلين ويعتمد على مقاربة تحليلية متعددة الزوايا فكرية اجتماعية سياسية لإنقاذ تاريخ الحركة الإسلامية المغربية من براثن الذاكرة التنظيمية وتحويله إلى تاريخ أكاديمي يخدم البحث العلمي ويثري النقاش العام. هذا هو التحدي المعرفي والأخلاقي الذي يواجه الباحثين في هذا المجال.
الحالة المغربية كنموذج تطبيقي
تقدم الحالة المغربية نموذجا حيا لهذه الإشكالية حيث لا تزال مذكرات أبرز قيادات الحركة الإسلامية سواء في حركة الشبيبة الإسلامية أو التوحيد والإصلاح محكومة بمنطق الانتقاء والتأويل الذاتي.
وقد أشار الباحث المغربي محمد ضريف في أكثر من دراسة إلى هذه الإشكالية حين قال/ إن تاريخ الإسلاميين في المغرب يكتب من داخل الجماعة لا من خارجها/. هذه المقولة تلخص جوهر الأزمة حيث تكون الرواية تابعة للمنطق الحركي لا للمعايير الأكاديمية مما يجعلها عرضة للتحوير والتوجيه.
إن التناقضات الحادة في تصوير الأحداث خاصة فيما يتعلق بمرحلة السبعينات والثمانينات واللقاءات مع دوائر السلطة والصراعات بين أجنحة التنظيم الواحد تكشف عن أن التاريخ لم يكتب بعد بل هو قيد الصراع والتأويل المستمر لخدمة الحاضر السياسي.
الخاتمة
إن إشكالية التنازع على الرواية التاريخية داخل الحركات الإسلامية هي انعكاس لأزمة بنيوية في العلاقة بين الذاكرة التنظيمية، والحاجة السياسية، وغياب التوثيق النقدي. لقد أدى غلبة السرد التعبوي على السجل النقدي إلى إنتاج تاريخ مجزأ ومتناقض، يخدم مصالح الأجنحة المتنازعة على حساب الحقيقة التاريخية.
إن الحاجة ماسة اليوم إلى مشروع كتابة تاريخ موضوعي للحركات الإسلامية، يشارك فيه مؤرخون متخصصون، ويستند إلى مقاربة تحليلية متعددة الزوايا (سياسية، اجتماعية، فكرية، أمنية).
توصيات الدراسة:
1.التحرير من السرد الأحادي: ضرورة الاعتماد على شهادات متقاطعة و وثائق أصلية لتحرير التاريخ من هيمنة السردية الأحادية التي يفرضها الفاعلون.
2.المقاربة المتعددة: تبني مقاربات تحليلية لا تكتفي بتحليل الخطاب الداخلي للحركات، بل تقاطعه مع الرواية الرسمية (الأمنية) والروايات الأكاديمية الخارجية.
3.تأسيس مراكز بحث مستقلة: تشجيع إنشاء مراكز بحث مستقلة تعنى بجمع وتوثيق أرشيف الحركات الإسلامية وتحقيق الوثائق، بعيداعن منطق التبرير الحركي.
4.دراسات مقارنة: إجراء دراسات مقارنة بين التأريخ الذاتي للحركات الإسلامية في دول مختلفة (المغرب، مصر، تونس) لتحديد الأنماط المشتركة والمختلفة في التنازع على الرواية التاريخية.
وحده هذا الجهد الجماعي يمكن أن يعيد الاعتبار إلى الفاعلين المنسيين، والأحداث المغفلة، والتحولات المؤولة وفق الحاجات الظرفية، ويمكن الباحثين من بناء قراءة تاريخية دقيقة وعميقة للظاهرة الإسلامية.
التعليقات