محمد زاوي
القول باستحالة السيرة النبوية قول فئة من المستشرقين، والذين يرددونه من العرب هم امتداد لقول استشراقي. يتعارض هذا القول مع الموجود بين أيدينا من وثائق: القرآن الكريم، الحديث النبوي (وهو أعم من السنة النبوية)، سيرة الرواية، إلى غير ذلك من اللقى والشواهد الدالة على وجود في التاريخ.
الذي يجب البحث فيه هو كيفية هذا الوجود أما الوجود فثابت، ويدل عليه مستقبله قبل أن تدل عليه لقاه وشواهده ووثائقه. وإن القائلين ب”استحالة السيرة” لا يصادرون حقا تراثيا فحسب، وإنما حقا في البحث التاريخي أيضا.
والذي يغفله أصحاب هذا القول هو الوظيفة الإيديولوجية ل”سيرة الرواية”، وما به تتحقق فاعليتها التاريخية من رموز وشخصيات وإشارات ومثل أخلاقية. فتجدهم يقفون عند تاريخ دون آخر، كما حصل لمحمود إسماعيل مع اسم محمد بن عبد الله (ادعى أن اسمه كان قبل البعثة “قثم بن عبد اللات”)، وكما حصل لكاتب آخر (أولاف) مع الوجود التاريخي لمحمد (“مفضل”). في حين أن اجتماع كليهما لا ينفي وجود محمد في التاريخ والوحي معا، في رواية ما قبل البعثة وفي رواية البعثة.
****
تشكك الباحثة التونسية هالة الوردي و”أشياخها” من المستشرقين في وجود الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في التاريخ. ولنا أن نعرض أمام أنظار الباحثة هذا النص من “الشمائل المحمدية” الحافظ الترمذي إذ يروي:
حدثنا أحمد بن عبدة الضبي البصري، وعلي بن حجر، وأبو جعفر محمد بن الحسين وهو ابن أبي حليمة، والمعنى واحد، قالوا: حدثنا عيسى بن يونس، عن عمر بن عبد الله مولى غفرة قال: حدثني إبراهيم بن محمد من ولد علي بن أبي طالب قال: كان علي إذا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لم يكن رسول الله بالطويل الممغط، ولا بالقصير المتردد، وكان ربعة من القوم، لم يكن بالجعد القطط، ولا بالسبط، كان جعدا رجلا، ولم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم، وكان في وجهه تدوير أبيض مشرب، أدعج العينين، أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتد، أجرد ذو مسربة، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلع كأنما ينحط في صبب، وإذا التفت التفت معا، بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين، أجود الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم”. قال أبو عيسى: سمعت أبا جعفر محمد بن الحسين يقول: سمعت الأصمعي يقول في تفسير صفة النبي صلى الله عليه وسلم: “الممغط: الذاهب طولا”. وقال: “سمعت أعرابيا يقول في كلامه: تمغط في نشابته أي مدها مدا شديدا. والمتردد: الداخل بعضه في بعض قصرا. وأما القطط: فالشديد الجعودة. والرجل الذي في شعره حجونة: أي تثن قليل. وأما المطهم فالبادن الكثير اللحم. والمكلثم: المدور الوجه. والمشرب: الذي في بياضه حمرة. والأدعج: الشديد سواد العين. والأهدب: الطويل الأشفار. والكتد: مجتمع الكتفين وهو الكاهل. والمسربة: هو الشعر الدقيق الذي كأنه قضيب من الصدر إلى السرة. والشثن: الغليظ الأصابع من الكفين والقدمين. والتقلع: أن يمشي بقوة. والصبب الحدور، نقول: انحدرنا في صبوب وصبب. وقوله: جليل المشاش يريد رءوس المناكب. والعشرة: الصحبة، والعشير: الصاحب. والبديهة: المفاجأة، يقال: بدهته بأمر أي فجأته”. (أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، الشمائل المحمدية، باب “ما جاء خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم”)
وهنا نطرح على هالة الوردي و”أشياخها” عدة أسئلة:
ـ هل يُعدَم هذا الوصف الطويل في التاريخ؟!
-وإذا كان نفيا في التاريخ فلماذا وُجِد نصا؟!
-وما مصلحة علي بن أبي طالب (ض) في ذكره؟!
-وما مصلحة الراوي الحافظ الترمذي في إيراده؟!
-هل للصفات الخِلقية تأثير في مصلحة سياسية أو تنفيس لكربة نفسية؟!
-هل يجيز البحث العلمي تجاهل هذا النص ومثله من النصوص وبأي منطق يتم ذلك؟
-بأي منطق يُرفَض اعتماد الرواية الحديثية في التأريخ؟!
أسئلة لا يجيب عنها القائلون باستحالة السيرة أو بعضها، فطرحها يفتح أبوابا في البحث لم يطرقوها، وربما ليس من مصلحتهم ولا من توجيههم ذلك!
(يتبع)