سوسن العتيبي. باحثة من السعودية
استمعت لجزء كبير من لقاء د. أنس سرميني -بارك الله فيه- ونفع به وبعلمه. (الذي يدور حول مسارين علميين: مشكل الحديث ومختلف الحديث)
وقد ميّز واقع نساء مكة، ونساء المدينة، وكيف أن الرؤية المجتمعيّة تؤثر على فهم الأحاديث، والتغيرات التي حصلت، ومنها التغير الاقتصادي، ومناسبة حديث “ناقصات عقل” لهذا الجو.
وأتفق مع الدكتور بارك الله فيه أن السياق المجتمعي مهم جداً لفهم كثير من النصوص، ومن ذلك مثلاً النبي صلى الله عليه وسلم تزوج وعدد من المهاجرات، فلما سئل عن نساء الأنصار: لماذا لا يعدد منهن؟ فبيّن في الحديث أنهن يكرهن وتشتد غيرتهن أو حتى لا يسوء ذلك ذويهن، فاحترم العُرف. وليس في احترام العرف أي تغيير لشرع الله، لأن الأمر مرتبط بالأحكام الخمسة، والإنسان حرّ فيما لا يفرض عليه فرضاً.
لكن من داخل النص نفسه أيضاً ينقض القول الذي يحتفظ بـ “ناقصات عقل” بـ “ذاهب اللبّ”، وليس أي لبّ، بل لبّ الرجل الحازم (وقد وجدت بيتاً شعرياً وأموراً مرتبطة بما قبل الإسلام يشيع فيها مثل هذا القول، فهو من بيئة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لم أتثبت حتى الآن). فايهما أهون “نقصان عقل” أم ذهاب كل ما به يكون العقل، وهو “اللب”؟
ونحن والله نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقبل كل شيء منه، وكلما قرأنا حديثاً، ثم تحركت العين للهامش في الأسفل، ووجدناه مضعفاً؛ حزنّا، لأننا نحب التكثّر من كلام الحبيب صلى الله عليه وسلم. إذا كانت الرسائل تأتيك من أحبابك وتحب التكثّر منها، ومعرفة كل شيء عنهم، فرسولنا صلى الله عليه وسلم أحبّ إلينا من كل شيء، ووددنا لو حفظ عنه كل شيء، حتى مشاعر من حوله حينما يرونه. عسى الله أن يروي قلوبنا يوم القيامة بأعظم القرب والمرافقة له، أجاب الله الدعاء في يوم التروية هذا.
نأتي لحديث آخر يسيئون استعماله أيضاً: كمل من الرجال كثير وكمل من النساء فلانة وفلانة
الخلل حينما نتناول هذا الحديث تناولاً مؤطّراً بمؤطّرات القوالب المفاهيمية.
فكيف يفهمونه؟
– البداية يفرقون بين “جنس الرجال” و”جنس النساء”، فيدخلون الأمر مقارنة بين “جنسين”.
– بعد ذلك ينسبون الكمال لأصل الخلقة
– من ثمّ يعممون وفق هذه الطريقة على أن جنس الرجال أكمل من جنس النساء.
لنحلل هذه القوالب:
– كلمة “جنس” هذه وافدة، ومن منتج معرفي مختلط برؤية كونية هي “الحدّ” لتبيين الكلّ. (ومن المزعجات أني رأيت الإمام الدارمي قد استعملها لمواجهة الجهمية، وأوجعني استعماله كلمة “الحد” في ذات الحق تبارك وتعالى، وما ينبغي ذلك. ومن جادل أهل الكلام لا بدّ أن يقع في شيء ولو يسرا. غفر الله لنا جميعاً).
– بعد ذلك ألصقت صفات الكمال بهذه الوحدة “الجنس”
– من ثمّ هذه الوحدة مرتفعة في أصل خلقتها ولها الكمال.
– وعندما تأتي أحاديث معارضة تبين امتياز جنس النساء بشيء، يلجأون لـ “كمال خاص بالنساء” (وهذه أصلاً من صلب رؤية اليونان في الكمال).
طيب هب أني سلّمت أن الكمال هنا في أصل الخلقة، ألا يكون في هذا خرم للحديث من جهتين؟
– جهة أن ما ليس في أصل خلقته مؤهلاً للكمال، لن يخرج من جنسه أيّ كمال، وإلا لعاد الفرع على أصله بالبطلان! والحديث يثبت وجود نساء كاملات.
– الكمال هنا مبهم، وعام في وصف بعض أفراد الفئتين “النساء” و”الرجال”، ومن ثمّ الاحتجاج بـ “كمال خاص بالنوع” احتجاج فاسد، إلا إن وجد مرجّح يرجّح مراد النبي صلى الله عليه وسلم.
أضف لذلك، ضعف الاحتجاج بدعوى الكمال، حينما تقدّم وفق شروط الاحتجاج بـ قالب: الجنس، أو النوع. (لا أعني الاحتجاج العاميّ الذي يكرر الألفاظ دون أن يعلم ما المراد بكل لفظ وحدّ).
أليس أشد الجبابرة من جنس الرجال؟ فرعون، هامان، أبو لهب، أبو جهل… هل هم في أصل خلقتهم خلقوا بالكمال التام؟ أم أنّ أصل القرآن الكريم والسنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام تبين أن الله قدّر كل شيء قبل أن يخلق الخلق جميعاً، وخلق خلقاً للجنّة وخلقاً للنار، ونحن نؤمن بالقدر، وبالخبر وبكل ما جاء في الوحي.
المشكلة:
عدم الانتباه لـ “كيف يغيّر الوافد” طريقة تفكيرناً وتأويلنا في صميم رؤيتنا الكونيّة؟ وكيف أنّ “الكليات” بما في ذلك النوع، والجنس، والفصل؛ تعيد تشكيل المفاهيم بما تتطلّبه هذه المفاهيم من مؤطّرات في أصلها:
– تفصل الخلق عن الخالق. فالشيء كامل من ذاته الكلية.
– تنظر للأمور في ثباتها وجمودها. لأن الحركة فساد
– المكتسب الخلقي هو فرع عن الكمال الكامن!
في حين نحن نقدّم مفهوم “الأعمال” من الجوارح والجوانح.
نعود مرة أخرى لأهميّة ما قدّمه طه عبد الرحمن من تنظير حول “الحدّ” و”المفاهيم” بشكل عام، في أصل وصولها للعالم الإسلامي، وأن مقترحه “الاحتضان” قد يكون أفضل ما قدّم من تنظير حتى الآن بحسب فهمي، لتجاوز هذه المعضلة المفاهيمية في صلب التفكير الإسلاميّ. وربما يستعان ببعض ما جاء عند محمد مفتاح -رحمه الله-، من “المخاثلة”، وربما نزوع مفتاح للشعر ساعده كثيراً على فهم أنّ للشعور أثر كبير على الفهم، لا أن المفاهيم فعلاً موجودات ذهنية.
لم تكن هذه الأحاديث تستعمل للانتقاص من النساء، ولا يضرب المسلم الآيات ببعضها “المراء في القرآن كفر”، ولا الأحاديث ببعضها. ولكن فيما بعد حدث ما حدث، والله يخلق ما يشاء ويختار.
أخيراً المتعصب لن يهمه أي شيء سوى إثبات ما يراه، من الطرفين نساء ورجالاً. لكن إن تذكر الإنسان يوم القيامة سيرتدع {بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}، فلولا القيامة لفجر الناس.
والله تعالى أعلم