يسار عارف
في كتابه “الدين والتحليل النفسي” يعيد إريك فروم النظر في العلاقة الشائكة بين الدين والتحليل النفسي وهي علاقة طالما طغى عليها التوتر والصدام خاصة في ضوء الموقف الحاد الذي اتخذه سيغموند فرويد من الدين إذ اعتبره نوعًا من الوهم الطفولي وأداة للهروب من الواقع ومسؤولياته غير أن فروم وهو أحد أبرز أعلام مدرسة فرانكفورت وممن سعوا إلى إدماج التحليل النفسي في قراءة أوسع للإنسان والمجتمع لا يرى في الدين مجرد وهم أو عائق أمام النضج النفسي بل يميز بين أنماط مختلفة منه بعضها يؤدي إلى التقهقر والانغلاق وبعضها الآخر يسهم في نمو الذات وتحررها
فروم لا يضع تعريفًا تقليديًا للدين بل يتبنى فهمًا أوسع وأشمل يعتبر فيه الدين أي منظومة فكرية وأخلاقية تمنح الإنسان إحساسًا بالمعنى وتوجه سلوكه في العالم فالدين هنا ليس مقصورًا على الإيمان بإله أو ممارسة طقوس معينة بل يشمل كل رؤية للعالم تضفي على الحياة طابعًا من الغائية والانضباط الأخلاقي وفي ضوء هذا الفهم يميز فروم بين نوعين من الدين الدين السلطوي والدين الإنساني
الدين السلطوي يقوم على فكرة الطاعة المطلقة والخضوع لقوة عليا خارجة عن الإنسان يزرع في الفرد مشاعر الخوف والذنب ويدعوه إلى إلغاء ذاته في مقابل إرادة الإله أو السلطة الدينية هذا النمط من الدين يشكل امتدادًا لعلاقة الطفل بوالديه خاصة بالأب في وعي فرويدي واضح حيث يسقط الإنسان حاجته إلى الحماية على كيان خارجي مطلق ويستمد منه الأمان والشرعية لكنه في المقابل يتنازل عن استقلاله ووعيه الذاتي ومن هنا فإن الدين السلطوي يسهم في إنتاج شخصية اتكالية خاضعة تعيش على الطمأنينة الزائفة التي توفرها الطاعة لا على القوة الداخلية التي تولدها الحرية
أما الدين الإنساني فهو ذاك الذي يعترف بقدرة الإنسان على الحب والعقل والنمو يرى الإنسان كائنًا حرًا ومسؤولًا يتجه نحو تحقيق ذاته وفهم العالم من حوله ليس الدين الإنساني مشروع هروب من الحرية بل وسيلة لتعميقها وتحقيقها في أفق روحي وأخلاقي عال في هذا السياق يقترب الدين الإنساني كثيرًا من أهداف التحليل النفسي الذي يهدف في جوهره إلى تحرير الإنسان من العصابات والقيود النفسية التي تمنعه من أن يكون ذاته
فروم لا ينكر أن الدين قد يؤدي في كثير من الأحيان إلى الانغلاق والخوف والعداء للعقل لكنه يرفض التعميم ويرى أن التحليل النفسي إذا تمسك بنزعته التفسيرية الصارمة دون وعي بجوانب الدين المختلفة يقع في خطأ مماثل للدين السلطوي أي أنه يتحول إلى أيديولوجيا مغلقة ترفض ما لا يتماشى مع تفسيرها الوحيد للحقيقة لهذا يدعو فروم إلى موقف نقدي مزدوج لا يرفض الدين من حيث المبدأ ولا يقبله دون مساءلة بل ينظر إليه كظاهرة إنسانية يمكن أن تكون وسيلة للاضطهاد أو أداة للتحرر حسب السياق والمحتوى
يولي فروم اهتمامًا خاصًا بمسألة القلق الوجودي باعتباره أحد المحركات الأساسية للدين والتحليل النفسي معًا فالإنسان في مواجهة العالم يشعر بالعجز والتناهي واللاجدوى والدين هنا يقدم إجابات قد تكون مقنعة أو مخدّرة بينما يسعى التحليل النفسي إلى تفكيك مصادر هذا القلق ومواجهته عبر وعي الذات وتحقيق التكامل النفسي لكن فروم يرى أن هذه المواجهة لا تعني بالضرورة القطيعة مع كل ما هو روحي بل قد تتقاطع مع تجارب دينية عميقة تحفز على التأمل والمحبة وتفتح أفقًا داخليًا رحبًا للإنسان
في النهاية لا يدعو فروم إلى الإيمان ولا إلى الإلحاد بل إلى وعي أعمق بطبيعة الإنسان واحتياجاته النفسية والروحية يرى أن الدين يمكن أن يكون قوة بنّاءة أو هدّامة بحسب ما إذا كان يدفع الإنسان إلى النضج أو إلى الخضوع وأن التحليل النفسي لا ينبغي أن يكون خصمًا للدين بل شريكًا له في مشروع واحد هو تحرير الإنسان من الخوف والاغتراب وتمكينه من أن يعيش حياة أكثر صدقًا ومحبة وحرية
بهذا الطرح يتجاوز فروم الثنائية التقليدية بين الإيمان والعقل بين الدين والعلم ويفتح الباب أمام قراءة أكثر إنسانية للدين تجعله ميدانًا للنمو لا مبررًا للهروب ومساحة للحرية لا أداة للقمع.