الدكتور مصطفى كرين
يبدو أن كل الظروف أصبحت مهيئة لرسو القطار الصيني ( والروسي ) بمحطة أديس أبابا، ذلك ما يبدو على وشك الحدوث على كل حال بعدما انقسم العالم إلى قسمين حول ما يقع في منطقة القرن الإفريقي، تلك المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية الكبيرة في سياق التحولات التي يعرفها العالم مؤخرا، تجاريا بالنسبة لطريق الحرير الجديد، وعسكريا بالنسبة للحلف الأطلسي.
طبعا إثيوبيا، وعلى غرار المغرب، تُصنف الدول إلى أصدقاء وأعداء بناء على موقفهم من ملفين شديدي الحساسية والأهمية بالنسبة لها ، وهما وحدتها الترابية، ويتعلق الأمر هنا بالحركة الانفصالية المسماة الحركة الشعبية لتحرير تيغراي، وسد النهضة المشروع الحيوي والمحوري في سياق الإقلاع الاقتصادي لإثيوبيا.
وفي ما يمكن اعتباره موقفا غير محسوب من طرف الولايات المتحدة الأمريكية، التي تحظى لديها الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، باعتراف وتعاطف وتواجد قوي (على ما يبدو ) في دوائر القرار، بدأت إدارة بايدن، بعد عدة محاولات لثني الحكومة الأثيوبية عن الحل العسكري، بفرض قيود على تحرك وسفر السياسيين الإثيوبيين، وهو ما اعتبره رئيس الوزراء الأثيوبي بمثابة ” تدخل أمريكي في الشؤون الداخلية لبلاده “.
ومن نافلة الاستنتاجات أن نقول أن هذا الخلاف يعتبر فرصة سياسية ودبلوماسية على درجة عالية من الأهمية ستتلقفها حتما منظومة الرصد الصينية-الروسية، المتواجدة أصلا بمحيط ساحة الصراع، وخصوصا بعدما باتت أديس أبابا معزولة دبلوماسيا من طرف الغرب وكذلك في ظل اندلاع مظاهرات مناهضة للأمريكيين والأوروبيين بالعاصمة الأثيوبية، هذه المظاهرات التي رأت في الموقف الغربي مباركة لتقسيم بلادهم ودعماً للانفصال ، والتي رُفعت خلالها صور الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ.
كل شيء إذا ينبأ بأن استمرار الأمور على ما هي عليه حاليا يعني أن إثيوبيا ستتحول إلى سوريا جديدة ، ليس بالضرورة فيما يتعلق بحجم الخراب ورقعة الحرب، وإنما فيما يتعلق بمعركة كسر العظام بين روسيا وأمريكا، وهذه المرة، وبينما ستقوم روسيا بالقفز بسرعة ودون تردد لإيجاد موطىء قدم ثابتة لها عسكريا في المنطقة، مرفوقة بإنزال اقتصادي وتكنولوجي صيني ، فإن أمريكا ستكون تقريبا لوحدها في هذا الصراع دون أوروبا، على اعتبار أن هذه الأخيرة، في ظل تفاقم مشاكلها السياسية والاقتصادية داخليا، باتت مترددة وتقريبا غير معنية وغير مهتمة مباشرة بما يجري في تلك المنطقة ، على الرغم من أنها قامت ببضع إجراءات رمزية لدعم الموقف الأمريكي كتأجيل ( وليس إلغاء ) عملية تحويل مساعدات أوروبية لأثيوبيا بقيمة 90 مليون يورو والتراجع عن المشاركة في مهمة مراقبة الانتخابات الأثيوبية للواحد والعشرون من يونيو المنصرم مع التهديد بتصعيد العقوبات لاحقا.
وعلى الرغم من أن أمريكا تعتبر شريكا سياسيا وعسكريا لإثيوبيا من خلال تواجد أكبر قاعدة أمريكية في المنطقة على مرمى حجر من أديس أبابا أي في جيبوتي، وعلى الرغم من حجم العلاقات الاقتصادية بين البلدين ، حيث تعتبر أثيوبيا أكبر مستفيد من المساعدات المالية الأمريكية في أفريقيا، فإن مصالح وطموح أديس أبابا والأهمية التي توليها لملفي الوحدة الترابية وسد النهضة، كفيلة معاً بقلب كل الحسابات الجيوستراتيجية لصالح محور الصين روسيا، خصوصا بعدما تبين للأثيوبيين أن موقف الحزب الديمقراطي لا يختلف عن موقف الحزب الجمهوري بهذا الخصوص، حيث سبق لترامب أن أثار إمكانية التغاضي عن “تدخل عسكري مصري” في إثيوبيا بالعلاقة مع سد النهضة.
إن ضيق هامش المناورة الذي تسمح به واشنطن لشركائها ولجوءها المفرط لاستعمال القوة ولغة التوجيهات، واستعمالها المفرط لنفوذها في إطار الأمم المتحدة لإرغام شركائها على الانصياع لاستراتيجيتها من جهة، واستعداد الصين من جهة أخرى لمنح الامتياز والأولوية للتعاون الاقتصادي في إطار يسمح بهامش كبير للحركة والاستقلالية، وعدم إثارتها أو استعمالها إطلاقًا لمقومات قوتها العسكرية والدبلوماسية في علاقتها مع شركائها، كل هذا يجعل إمكانية استمرار تدهور العلاقات الأمريكية الإثيوبية وتحول اهتمام وبوصلة أديس أبابا شرقاً وارد جدا.
وهو ما دفع التحالف الأوروبي الأمريكي إلى اتهام آبي أحمد بأنه يرفض الحوار وأنه لا يريد الاستماع حتى لشركائه الأفارقة، وهنا مربط الفرس بالنسبة لنا، حيث نرى في هذا فرصة سانحة للمغرب لاستثمار مهارته الدبلوماسية في قيادة المفاوضات وتدبير النزاعات والتي راكمها في التعاطي مع ملفات مشابهة (الملف الليبي نموذجا) من أجل تكريس دوره كفاعل أساسي لا غنى عنه في حل النزاعات الدولية وتثبيت دوره القاري والإقليمي عبر الوساطة في القرن الإفريقي بين السلطة المركزية وحركة تحرير تيغراي من أجل إيجاد حل سياسي متفاوض بشأنه للنزاع، وخصوصا أن المملكة بدورها تعيش معركة مريرة مع ثقافة الانفصال.
كما توفر هذه الفرصة للمغرب إمكانية تعزيز العلاقات السياسية مع إثيوبيا والارتقاء برقعة تأثير المملكة جهويا وقاريا. وقد سبق أن دعوت في مقال سابق لتكوين خلية خاصة بالوساطة في النزاعات الدولية مرتبطة بوزارة الخارجية للتعاطي باستباقية مع الأزمات الناشئة وإعداد واقتراح الحلول التي من شأنها تحقيق هذا المبتغى.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=15039