سعيد الزياني
بالنظر إلى التصعيد العسكري المستمر بين إسرائيل وإيران، يفرض السياق الإقليمي تحديات معقدة على دول المنطقة، وعلى رأسها المغرب، الذي يتموقع اليوم كفاعل سيادي في المنطقة يوازن بين التزاماته الدولية ومصالحه الوطنية.
وتملي هذه المرحلة على الرباط قراءة دقيقة لتحولات التوازنات في الشرق الأوسط من أجل تثبيت موقعها كقوة استقرار مسؤولة وذات مصداقية في محيط مضطرب، وبخلاف بعض الأطراف الإقليمية التي توظف التوترات لخلق الفوضى أو تصدير الأزمات، يعمل المغرب وفق رؤية سيادية تنبني على الحكمة، وعلى تعزيز مصالحه العليا في إطار الشرعية الدولية.
ويأتي هذا التموقع المغربي في سياق اختيارات استراتيجية واضحة منذ إعادة العلاقات مع إسرائيل نهاية 2020، وهو قرار سيادي يعكس إدراك المملكة لحجم التحولات الجيوسياسية، ويترجم رؤيتها لبناء تحالفات عقلانية تراعي المصالح الوطنية دون التفريط في الثوابت، ولم يكن هذا القرار معزولا عن التطورات الإقليمية، بل جاء متسقا مع حاجة المغرب إلى تعزيز أوراق قوته في ملف وحدته الترابية، والاستفادة من شراكات تكنولوجية وأمنية تعزز مكانته الإقليمية والدولية، خصوصا في سياق تصاعد التهديدات الهجينة العابرة للحدود.
ولا ينفصل ما يجري اليوم بين تل أبيب وطهران عن محاولات الجزائر توظيفه لمهاجمة المغرب من بوابة القضية الفلسطينية، في محاولة لخلط الأوراق وتوظيف الانفعالات العاطفية لتبرير تحالفاتها مع أطراف معادية للوحدة الترابية المغربية، ومع تزايد تنسيقها مع إيران، تحاول الجزائر إعادة تموقعها في إفريقيا بترويج خطاب دعائي يربط بين الحضور المغربي والدعم الإسرائيلي، في تجاهل تام لطبيعة العلاقات متعددة الأبعاد التي تربط المغرب بمحيطه وشركائه، بما في ذلك دوره الدائم في دعم القضية الفلسطينية وقيادته للجنة القدس تحت إشراف جلالة الملك محمد السادس.
ويشكل هذا التوظيف العدائي من طرف الجزائر تهديدا مباشرا لاستقرار المنطقة المغاربية، فالمغرب يحرص على تجنب الزج بالمنطقة في صراعات لا تخدم السلم ولا التنمية، ويُبقي قنواته الدبلوماسية مفتوحة مع الجميع دون الارتهان لمحاور الفوضى، وإذا كانت إيران تميل إلى استثمار التوترات لتوسيع نفوذها عبر ميليشيات وأذرع غير نظامية، فإن المغرب يتحرك ضمن منطق الدولة، ويشتغل على بناء نموذج للتعاون جنوب ـ جنوب، أساسه الشراكة والوضوح والاحترام المتبادل، وهو ما يفتقده خصومه في المنطقة.
ويظهر المغرب كطرف مسؤول لا ينجر إلى الاستفزازات ولا يسمح بتوظيف اسمه في لعبة المحاور، وبدلا من الرد الانفعالي، يراكم الرباط أدوات القوة الناعمة والصلبة، ويرسّخ حضوره في إفريقيا باعتباره شريكا موثوقا في مجالات الأمن الغذائي، والطاقات المتجددة، ومحاربة الإرهاب، والهجرة، أما محاولات التشويش على هذا المسار من طرف أطراف تصطف موضوعيا مع أجندات إيرانية خفية، فإنها سرعان ما تتكسر أمام الحضور الدبلوماسي المغربي الرصين والمبني على الثقة الدولية.
وأمام هذا المشهد، تبرز أهمية حفاظ المغرب على موقعه المتقدم كقوة استقرار واعتدال في منطقة تتأرجح على حافة الانفجار، فالرباط، دون أن تنخرط في الصراع، تدرك أن أمنها الاستراتيجي لا يمكن فصله عن أمن المشرق العربي، وتعي أن كل اهتزاز في التوازنات الشرق أوسطية ستكون له ارتدادات محتملة على أمن البحر المتوسط والساحل والصحراء، ومن هنا، تشتغل الأجهزة المغربية على تحصين الداخل، ومراقبة التفاعلات، ورفع الجاهزية، دون تهويل ولا تهاون، وبعقل استراتيجي يربط بين الانتماء العربي الإسلامي والمصلحة الوطنية العليا.
وتملك المملكة اليوم من عناصر القوة ما يكفي لتجاوز هذه المرحلة الحساسة، بما في ذلك شرعية سياسية متينة، وجيش محترف، وأجهزة أمنية رائدة، ودبلوماسية دينامية، ورؤية ملكية استشرافية أثبتت نجاعتها في محطات سابقة.
وإذا كان من درس يُستفاد من التصعيد الإيراني الإسرائيلي، فهو أن المغرب مطالب بمزيد من تعزيز مقومات السيادة، وتكثيف الجهد الاستخباراتي، وحماية جبهته الداخلية من أي اختراق إعلامي أو تعبئة مغرضة، والانخراط الذكي في تحصين العمق الإفريقي من مشاريع الاختراق الإيراني، التي تتقاطع موضوعيا مع أجندات انفصالية وعدائية تستهدف وحدة المغرب الترابية ورصيده الديني والدبلوماسي.
وبهذا التوجه، يكون المغرب قد اختار ألا يكون طرفا في صراع لا يعنيه بشكل مباشر، ولكنه معني بنتائجه الجيوسياسية، واختار أن يكون قوة توازن واستقرار، في وقت تتهاوى فيه عواصم حوله في فوضى لا تنتهي، وتريد استيراد التوتر الى شمال افريقيا وتوسيع دائرة الحرب.
ويتعين على الفاعلين داخل المغرب أن يواكبوا بدقة ديناميات التحول الإقليمي المتسارع، وأن يتفادوا الانخراط في اصطفافات دولية تحكمها الانفعالات أو الحسابات العاطفية، بمعزل عن تقدير موضوعي لمصالح المملكة وموقعها الاستراتيجي، فالتحديات الراهنة تفرض التزاما برؤية واقعية متزنة، تغلب منطق السيادة والمصلحة الوطنية على منطق الاستقطاب الإيديولوجي، وتعلي من شأن المقاربة البراغماتية في إدارة التفاعلات الخارجية..