لحسن عدنان
أن تكون مع إيران أو ضدها فالعواطف لا تقلب موازين القوى، أما البوصلة فهي مصلحة المغرب. رأيك محترم وأنت حر أن تقول ما تشاء، تلك هي الانطلاقة ولا أحد سيكمم فمك، أو يمنعك أن تبدي وجهة نظرك.
نحن نعيش زمن الانترنيت وشبكات وسائل التواصل الاجتماعي، حيث لم يعد التعبير عن الرأي مرهوناً بمنابر صحفية عريقة أو قنوات تلفزية مملوكة للدولة أو لشركات خاصة، بل صار في متناول الجميع، بضغطة زر، وفي أي لحظة، أن يقول ما يشاء، بالطريقة التي يشاء.
هذا التحول الكبير أتاح، لكل فرد في أي مكان من العالم، مساحة غير مسبوقة للتعبير، وهامشا واسعا لقول ما يريد. لكنه في المقابل ضخّم من ظاهرة الانفعالات والاستقطابات السياسية والايديولوجية العابرة، وحوّل قضايا استراتيجية ومعقدة إلى مجرد مواقف وجدانية يتنازعها جمهور لا يملك أدوات الفعل والتحليل والنقد، ولا يتقن سوى لغة السب والشتم والتخوين والاصطفاف الأعمى.
دعونا نتأمل هذا المشهد: إنه مشهد معبّر، ويكاد يتكرر لحظيا على صفحات التواصل الاجتماعي، مثلا يكتب أحدهم على صفحته على فيسبوك: “أنا أدعم إيران”. فيردّ آخر غاضباً: “أنا لا أدعم إيران، فهي سرطان مثلها مثل إسرائيل”. لا تمضِي سوى دقائق حتى ينفجر النقاش، ويتحول إلى سيل من السباب والتخوين والاتهامات: هذا يتهم الآخر بالصهيونية، وذاك يردّ باتهامه بالعمالة لمن دمّروا وخربوا مقومات الأمة.
مشهد أصبح شبه مألوف في الفضاء الرقمي العربي والمغربي، لكنه يحمل في طياته أزمة أعمق: هل نحن حقاً نعي ما نقول؟ وهل نُدرك موقعنا من التأثير الحقيقي؟
تصور نفسك أنت عاقلا ورزينا وتريد أن توجه دفة النقاش نحو ما يفيد. تتدخل كطرف محايد في هذا النوع من المعارك التي تعادي وتقتل كل حياد، وتسأل الأول بأدب ولطف: “كيف ستدعم إيران؟ هل سترسل لها أسلحة؟ معلومات استخباراتية؟ مساعدات عسكرية؟ تطلعها على خطة أعدائها بتفصيل؟”، فيأتيك الجواب سريعاً: “لا، فقط أؤيدها بلساني وبقلبي”. ثم بأدب جم ولطف أكثر تسأل المعارض: “وأنت كيف تعارضها أو بالأحرى كيف لا تدعمها؟ هل ستفرض عليها عقوبات؟ أو تحاصرها اقتصادياً؟ أو تتجسس على مراكزها النووية أو منصات إطلاق الصواريخ من داخلها؟”، فيأتيك نفس الجواب، بدرجة أقل أو أكثر من الانفعال بالمقارنة مع عدوه الفايسبوكي او خصمه الرقمي الافتراضي: “لا، فقط لا أؤيدها بقلبي ولا بنيتي”.
نحن إذا أمام معركة عاطفية افتراضية محضة، لا علاقة لها بالفعل السياسي ولا بتوازنات القوى على الأرض.
هنا تبرز خطورة ما وصفه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو بـ”الوهم الرمزي”، أي اعتقاد الناس بأن ما يصدر عنهم من مواقف وجدانية عاطفية هو في حد ذاته نوع من التأثير أو المشاركة السياسية، خاصة حين يترافق مع الصوت المرتفع والعضلات المتشنجة، في حين أنه لا يتعدى كونه تفاعلا إعلامياً مع مواقف لا نشارك في صنعها، بل لا يسمح لنا بذلك، ونوعا من صراع الديكة واستنزاف الجهود. لأن “الرأي المجرد من الفعل ليس إلا استهلاكاً إيديولوجياً لأحداث لا نملك أدوات تغييرها”. هكذا تفهمها ايها المناضل الافتراضي ببساطة وبشيء من الروح الرياضية.
إننا أمام ظاهرة جديدة تتطلب منا وقفة عقلانية: تحوُّل النقاشات السياسية والفكرية أحيانا إلى أشكال ومساحات للصراع الهوياتي والتفوق الإيديولوجي او الرمزي، لا فرصة لتبادل وجهات النظر ومقارعة الحجة بالحجة، ولا سعيا لفهم السياقات كما هي، ولا لقراءة مآلات الأمور والتي يحسم فيها الكبار والاقوياء وليس رواد مواقع التواصل ولا ذوو النيات الحسنة ولا حتى أصحاب الحقوق المشروعة.
هكذا ينبغي أن نفهم الامور، لان عالمنا لا تحركه قيم العدل والحق والضمير، بل يعبث به المالكون لعناصر القوة، والمتسلطون على رقاب الناس، والقادرون على حسم المعارك بالوسائل الخشنة (جيوش، أسلحة) وبالوسائل الناعمة أيضا (برمجيات، اختراقات، تكن لوجيا، ذكاء اصطناعي).
لقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تضخيم هذه الظاهرة، حيث يختلط التفاعل بالتجييش، والموقف بالهوية، والانتماء بالمزايدة. ويحاول كل طرف ان ينتصر في الفضاء الازرق، حتى ولو كانت حياته كلها سوادا في سواد، بالنظر إلى التخلف والامية والجهل ومصائب أخرى بكل الالوان.
ما يغيب عن هؤلاء المتنطعين والمغيبين ومسلوبي الإرادة هو أن السياسات الدولية لا تتحرك بالمشاعر، وأن الخرائط لا تتغير بالنوايا، بل بالمصالح والموازين وعناصر القوة ما ظهر منها وما بطن. ف: “السياسات الواقعية لا تعترف بالتعاطف كعامل مؤثر في القرارات، وإنما تشتغل على أساس القوة والمصالح وتوازنات الردع”. فما جدوى أن تلعن أنت أيها المناضل والمقاوم أو تبارك على جدارك الافتراضي ما تخاله بطولات، أو حتى تحرق اعلام من تصفهم بالأعداء، او ترفع صوتك منددا، إذا لم تكن انت ومن معك تملكون أي أداة تأثير في الواقع؟
صحيح، حرية الرأي مقدسة، لكنها لا تبرر تحويل الفضاء العمومي، الواقعي أو الافتراضي، إلى ساحات معارك دامية شخصية. من حقك أن تؤيد أو تعارض، لكن ضمن حدود الرأي بأدب واحترام، دون أن تتجاوز الحدود، حيث يصبح رأيك نوعا من التحقير والإقصاء والتخوين.
الحرية – حين تكون نظرتنا إيجابية وعقلانية – لا يجب أن تُمنح لأجل خلق مزيد من الاستقطابات والاصطفافات الدينية والطائفية والايديولوجية، بل لأجل تعزيز مزيد من منسوب التعدد والتفاهم والتعايش داخل المجتمع الواحد.
لكن الأهم – وهذا ما لا يجب أن نمل من التأكيد عليه بوضوح وجلاء – هو أن البوصلة التي ينبغي أن توجهك وتهديك دائماً هي مصلحة بلدك.
أنت مغربي قبل أن تكون مع هذا الطرف أو ذاك. والمغرب هو وطنك والحضن الذي يضمك ويوفر لك الكرامة والعزة والامن والاستقرار. وطبعا، هذا هو المطلوب، فإن وقع عليك ظلم أو حيف او لم تنل حقا من حقوقك، فناضل بكل الوسائل المشروعة، ولا أحد يفرض عليك ان تقبل بالضيم… لكن دائما تحت سقف الوطن، ومراعاة مصالح الوطن، ومعاداة اعدائه، وموالاة من يوالونه..
نعم مهما كانت وتنوّعت آراؤك، يجب ألا يزيغ قلبك أو قلمك أو لسانك عن مصلحة وطنك. فكل ما يضرّ المغرب، يجب أن يضرك حتماً، سواء شعرت بذلك، وهذا هو الشعور الحقيقي والفطري والموضوعي، أو لم تشعر، وهو ما لا ينبغي ان يخطر ببالك أبدا.
وإلا ماذا ينفعك أن تؤيد نظاماً خارجياً أو تعارضه، وأنت لا تبالي بمصلحة وطنك، بل وتنساق وراء صراعات تكون سببا في أن تخسر لحمة مجتمعك، أو تضعف وعيك الوطني وانتماءك الاصلي، أو تسيء إلى أمن بلدك سياسيا كان ذلك أو ثقافيا او دينيا؟
ف”الوعي الوطني الحقيقي لا يُقاس بكم المواقف (ما كان منها متعقلا أو متهورا)، بل بنوع العلاقة التي يقيمها الإنسان مع قضايا وطنه وأولوياته”، وهذه العلاقة يجب أن تكون دائماً قائمة على الإدراك العميق لمصالح المغرب وأمنه وهويته وتماسك نسيجه المجتمعي.
فمع كثرة النقاشات والاراء الرقمية والافتراضية، لا يأمن كثيرون مخاطر الاصطفاف الايديولوجي والعاطفي.
وبذلك يضيع صوت العقل، وتنحرف البوصلة كثيرا، حيث يتحول النقاش إلى مبارزة، والحوار إلى تصنيف، فيفقد النقاش وظيفته كسبيل للفهم والنقد، ويغدو مجرد استهلاك للأحقاد وتبادل للاتهامات.
نعم، عبّر عن رأيك، ناقش، أيد، عارض، كن مع أو ضد، فهذه حرية مضمونة ولا مساومة عليها. لكن لا تنسَ أن هذه الحرية لا تُمارَس في الفراغ، بل في سياق وطني حساس ومعقد، يتطلب منك يقظة ومسؤولية.
فكر قبل أن تكتب، قس حجم تأثيرك الحقيقي، واجعل مصلحة بلدك المغرب هي بوصلتك الأولى والدائمة. لا تصرف طاقتك في معارك لا تعنيك، ولا تُساهم – من حيث تدري أو لا تدري – في زعزعة أو الإساءة إلى أولويات ومصالح وطنك. إن العواطف، مهما كانت صادقة وجياشة، لا تصنع السياسات، ولا تطلق الصواريخ ولا تُسقط الطائرات، ولا تغيّر الخرائط ولا تقلب الاستراتيجيات.
الذي يفعل كل هذا هو الوعي، والعقل، والمسؤولية، وحبك لوطنك أولا وأخيرا.