13 أغسطس 2025 / 22:05

أنا خير منه..

عمر العمري
أؤمن أن قصة آدم مع إبليس واقعة حقيقية جرت أحداثها على الأرض التي خلقها الله، وجعل فوقها رواسي وقدر فيها أقواتها للناس، وأن آدم كان ثمرة اصطفاء بشري بعد رحلة مضنية على الأرض سفكت فيها دماء كثيرة.

وجاء هذا الاصطفاء لتولي الخلافة في الأرض بعد أن بلغ آدم مرتبة تلقي الوحي وتعلم الأسماء كلها، فأصبح مؤهلا لتحمل المسؤولية الجديدة.

تمت مراسيم التعيين لتولي منصب الخلافة، وكان الأمر الإلهي موجها لجميع الملائكة دون استثناء للسجود لآدم: (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) قرآن كريم.

والسجود هنا يعني إعلان البيعة للحاكم الجديد، وكما هو معلوم، الأرض لم تكن موطنا للبشر وحدهم، بل كان يشاركهم فيها الجن، وكان إبليس في ذلك الوقت أعلاهم منزلة وذكاء ونفوذا، والمسيطر على مقاليد الأمور.

حين صدر الإعلان الإلهي في الكون بتعيين خليفة جديد على الأرض، لم يتقبل إبليس الأمر، ورأى أن آدم غير مؤهل لتولي مهام الخلافة، معتبرا أن تكوينه الطيني يحد من قدرته على الحركة والإدارة، بينما تكوين إبليس الناري أو الغازي، إلى جانب ذكائه وخبرته الطويلة في الحكم، وطبيعته التي مكنته من الاطلاع على بعض شؤون الملأ الأعلى، كلها مؤهلات – في نظره – تمنحه الحق في الخلافة المطلقة على الإنس والجن.

لذلك رفض ابليس السجود، أي البيعة، وأعلن معارضته للسلطة الجديدة علانية، مبررا موقفه بقوله: “أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين”.

في تقديري، كانت هذه معارضة سياسية أعلنها إبليس ضد الخليفة الجديد آدم، ثم انطلق بعدها في بناء الأسس الفكرية والفلسفية والعقدية لهذه المعارضة، التي تدور كلها حول فكرة “أنا خير منه”.

وعلى خلاف ذلك، كان على آدم أن يؤسس لعقيدة مناقضة لاستكبار إبليس وأنانيته ووحيه، عقيدة آدمية نورانية مستمدة من الوحي الإلهي، تقوم على الإيمان والتوحيد والإيثار وفعل الخيرات.

ولا يزال هذا الصراع السياسي – الإيديولوجي حول من يستحق منصب الخلافة مستمرا إلى “يوم الوقت المعلوم”، وقد اندلعت في سياقه حروب كثيرة وسفكت دماء غزيرة، والسبب واحد: أن هناك دائما من يرفع شعار “أنا خير منه”.

إنها عقيدة سياسية ورثها إبليس لأتباعه وأوليائه من الإنس، وهي أساس كل الصراعات على السلطة في الأرض، لذلك فكل من يقول “أنا خير منه” يجب حرمانه من المنصب الموعود، لأنه يؤسس للعنف ويفتح أبواب الفتنة والصراع، ولأنه ينتمي إلى “مدرسة إبليس”؛ تلك المدرسة التي أنجبت فرعون حين قال: “أليس لي ملك مصر”، وأخرجت قارون الذي قال: “إنما أوتيته على علم عندي”، وابن نوح الذي قال: “سآوي إلى جبل يعصمني من الماء”..

أما “مدرسة آدم”، فهي التي تخرج منها الأنبياء والرسل والصالحون، وهي مدرسة مبنية على الجهد والاجتهاد والتأمل والفكر، ثم الاصطفاء الإلهي، مدرسة العمل ونكران الذات والإيثار، ومن خريجيها موسى عليه السلام الذي قال: “وأخي هارون هو أفصح مني”، وطلب عليه السلام من يعينه في تحمل المسؤولية: “وأشركه في أمري”..

مسؤولية قائمة على التعاون والتشاور والتشارك..

إن القراءة السياسية لهذه القصة تكشف عن قاعدة ثابتة في تاريخ الحكم البشري، وهي أن الصراع على السلطة هو في جوهره صراع على الشرعية ومصدرها، وأن حماية المجتمعات من فتنة “أنا خير منه” أكبر من أن تكون مسألة وعظية، وإنما ينبغي أن تكون سياسة وقائية تستلزم آليات رقابة ومحاسبة تمنع تركز السلطة وتكبح جماح الطموح الشخصي غير المنضبط..

وقد وضع ابن آدم وخاتم الأنبياء محمد عليه السلام قاعدة نبوية جامعة تؤطر تداول السلطة وتحمل المسؤولية، بقوله: “إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله أو حرص عليه”..