محمد علي لعموري
من أسرة جد محافظة سيخرج صوت بالصدفة ليشع نوره داخل عائلة المنشد الديني إبراهيم البلتاجي، هو صوت كوكب الشرق أم كلثوم.
سمعها أبوها ذات يوم وهي تغني فشده صوتها الجميل القوي، فأخذها برفقته لتغني معه في المواسم الدينية بشخصية ولد بعد أن ألبسها لباسا ذكوريا حتى لا تلفت انتباه الحضور خاصة وأن ما كانت تؤديه عبارة عن أغاني دينية.
لم تنفك أم كلثوم من قبضة المحافظة سواء على مستوى الغناء أو الزي المحافظ الذي كانت ترتديه ( الحجاب ) إلا بعد أن هبط بها والدها إلى مصر لتبدأ مشوار حياتها الفنية الحافلة بالعطاء والغناء وعظمة الأداء.
غنت “الست” كما يحلو لمحبيها أن ينادوها به كإسم طبع تاريخ حياتها الفنية منذ وطئت قدماها خشبة المسرح تغني فوقه أعذب الألحان حتى وفاتها عام 1975.
كان أحد معجبيها يتبع خطوات سهراتها أينما حلت وارتحلت وأنفق من ماله ليدخل المسارح ويجلس الصفوف الأمامية ليستمتع بصوتها القوي العذب الرنان في القلوب مناديا عليها عند نهاية كل مقطع غنائي “عظمة على عظمة يا ست”…
كانت علاقة أم كلثوم بالطرب مختلفة، فقد أسست لمدرسة كبيرة لا يمكن اختراقها إلا بعمل جهيد حتى يتمكن المتتلمذ عليها أن يظفر بنجاح مشهود، فقد بنت أسرة متينة من العازفين والملحنين والطاقم المشرف على كل شاردة وواردة ضمن منظومة العطاء الفني الذي لقي عشقا عربيا واسع الإنتشار.
كانت جبارة وقوية الشخصية يهابها الكسالى ويحترم رأيها وذوقها وجديتها الواثقون من قيادتها لكوكبة الغناء الكلثومي في عصر المجد والتألق في الطرب العربي الأصيل.
لقد تعاملت مع أجيال من الملحنين أهدوها أعذب وأروع الألحان من الشيخ زكرياء مرورا بالقصبجي والسنباطي ومحمد عبد الوهاب، وصولا إلى جيل الموجي وبليغ حمدي وسيد مكاوي…
بقدر إيمانها برسالة الفن النبيلة بقدر التزامها باحترام الجمهور فلا تخنج ولا تمايل مائع ولا ضحك مكشوف ولا تحرك فوق الخشبة غير مرغوب فيه، وكأنها تؤدي رسالة مقدسة وتحفر إسمها قويا داخل صرح الخلود..
ولهذا السبب تم اختيار أغنية الأطلال كإحدى روائع الإبداع الفني في القرن العشرين ضمن توثيقات كتاب غينيز، وتم تكريم شخصها عند الأمريكيين بنحث صورتها على عملة نقدية ذهبية رمزا لخلودها وعظمتها.
غنت أم كلثوم للحب وللرجل وللمرأة وللوطن وللسياسة، وغنت لعظماء الشعراء من عمر الخيام وأحمد شوقي وأبي فراس الحمداني وأحمد رامي…الخ.
وحين سقطت الملكية بمصر مع ثورة الضباط الأحرار، وهي التي غنت للملك فاروق (حبيبي يسعد أوقاته) تجاهلتها الطغمة العسكرية واعتبرتها من العهد البائد ولولا أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان يعشق صوتها لأصبحت مجرد ذكرى عابرة ولكنه القدر حين يريد لمثل هذا الصوت الذهبي أن يبقى.
وكما غنت في عهد الملكية غنت في عهد الجمهورية وكان لها دور محوري في تعبئة الجماهير وراء القيادة لمواجهة الأخطار المحدقة بمصر في حربها ضد إسرائيل ومساندة الكفاح الفلسطيني.
إستقبلت الست أم كلثوم من طرف كبار الرؤساء العرب والملوك نظرا لشموخ مقامها كهرم رابع من أهرامات مصر، وكأسطورة الغناء العربي منذ زرياب..
لم تتزوج أم كلثوم إلا فترة قصيرة مما أهلها لتحمل لقب السيدة مضاف إليها الطرب العربي كصفة خالدة وكعلامة فارقة في الوسط الفني تتربع على عرش الطرب لعقود بمعية فريق من الملحنين الذين تهافتوا على التلحين لها.
ورغم شموخ موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب وأنفته لم يقاوم جاذبية الست بعد إيعاز من الرئيس عبد الناصر بإنجاز عمل مشترك بين الشامخين “الست” وسعادة “اللوا” كما يحلو لعشاق عبد الوهاب أن يصفوه به..
في هذا الصدد، جاء أول عمل مشترك من تلحين عبد الوهاب أغنية “إنت عمري”، فدخل هذا الأخير ليجلس مع الجمهور بعيدا يراقب هذا الأخير وهو يتفاعل بحرارة مع أول عمل تغنيه أم كلثوم له على خشبة المسرح.
كان النجاح منقطع النظير بتصفيق الجمهور طويلا عند انتهاء المقطع الأول لمدة ربع ساعة.
كادت أم كلثوم أن تغني لسيد مكاوي أغنية “أوقاتي بتحلو” لتكون ثاني أغنية تغنيها من ألحان هذا الموسيقار بعد أغنية “يا مسهرني”، وكادت تغني للموسيقار حلمي بكر لولا وفاتها وذلك في أغنية “معندكش فكرة” التي ستفوز بغنائها الفنانة وردة بعد رحيل الست.
حياة أم كلثوم مليئة بالعطاء الزاخر وقد تربعت على عرش الخلود كما زرياب أو أكثر، بل إن أحد الباحثين قال عنها إنها فلتة من فلتات الدهر قلما يجود الزمان بمثلها.
Source : https://dinpresse.net/?p=6983