حسن العاصي ـ باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك
ضربت جائحة كورونا التي اجتاحت العالم برمته، كافة مناحي الحياة، منذ مطلع مارس/آذار عام 2020، وأثرت على النشاط الاقتصادي والاجتماعي، وأصابت الحياة الثقافية والأدبية بشلل شبه تام، حيث تم حظر جميع أشكال التجمع، بما فيها الندوات، والأنشطة الفنية، والأدبية، وتم إغلاق قاعات السينما، والمسارح، وصالات العرض، ومُنعت الحفلات الموسيقية، وفُرض الحجر الصحي في العديد من الدول.
هذا الانحسار العارض للثقافة، لا يعني أن الإنتاج الثقافي والأدبي قد توقف. بل أن عديد من الباحثين والكتاب العرب استغلوا فترة العزلة الصحية للتقدم في الإنتاج المعرفي والفكري.
صحيفة النهار العربي اللبنانية نشرت استطلاعاً بتاريخ 28-12-2021 لمواقف وآراء مجموعة من أبرز النقاد في العالم العربي، لمعرفة أهم قراءاتهم، وترشيحاتهم لأهم الكتب العربية الصادرة خلال عام 2021.
أهم النقاد المشاركين في الاستطلاع هم الفلسطيني الأردني فخري صالح، والمغربيان أحمد المديني، وهشام مشبال، والتونسي عبد الدائم السلامي، واللبناني سلمان زين الدين، والمصري يسري عبد الله.
تنوع حصاد الكتاب في عام 2021، وتعددت ترشيحات النقاد بين الكتب نقدية، والروايات، واليوميات، والقصص.
من أهم الكتب ـ إن لم يكن أهمها على الإطلاق ـ التي رشحها النقاد كأفضل الكتب التي صدرت في العام الحالي، كتاب “السارد وتوأم الروح.. من التمثيل إلى الاصطناع” للباحث والناقد والأكاديمي المغربي الدكتور محمد الداهي.
في كتابه “السارد وتوأم الروح: من التمثيل إلى الاصطناع” ـ منشورات المركز الثقافي للكتاب 2021ـ يقدم الناقد المغربي محمد الداهي جديداً ومختلفاً لأنماط الكتابات الذاتية من منظور السيميائيات الذاتية.
عمل كبير، يمكن اعتباره استمراراً إبداعياً على المستوى المعرفي، لما راكمه الكاتب من أبحاث ودراسات سابقة حول السيرة الذاتية، على سبيل المثال كتاب “شعرية السيرة الذهنية: محاولة تأصيل” الصادر عام 2000. الكتاب الذي قال عنه الناقد المغربي د. سعيد يقطين: “إن محاولة “تأصيل” جنس أو نوع ما، أو البحث في تشكله، هي من الأعمال التي لا يمكن أن يُقدِم عليها إلا من يروم النظر في الظاهرة بعيدا عن تجلياتها العادية أو الملموسة، وهو بذلك يرمي إلى النفاذ إلى أعماقها التي تصلها بغيرها، وتنظمها جميعا في نسق شامل وجامع.
يدخل عمل الباحث والناقد محمد الداهي في هذا النطاق، فهو يسعى إلى اقتحام مجال “نظرية الأجناس” بوعي الباحث، وحس الناقد، يركز على نوع محدد هو “السيرة الذهنية”.
وكتاب “الحقيقة الملتبسة: قراءة في أشكال الكتابة عن الذات” الصادر عام 2007. الذي قدم له الناقد المغربي د. عبد القادر الشاوي، ومما جاء فيه، إن “معيار الكتابة الذاتية، هو التعبير عن الذات، وفي ذلك تكمن وظيفتها التعبيرية. ويعني هذا أن صدق الكتابة الذاتية كامن في محكيها الذاتي نفسهن لا في الواقع الذاتي الذي تستنسخه كتابة. ويظهر لي ان هذه الخلاصة بالذات تتوازى ـ على نحو ما ـ مع الفصول التي يتضمنها الكتاب الهام: الحقيقة الملتبسة: قراءة في أشكال الكتابة عن الذات. فقد عنى مؤلفه محمد الداهي، الذي تفرغ للبحث في الموضوع منذ فترة طويلة، بدراسة مستويات وأبعاد القول والكتابة الذاتية على زجه العموم، بل وجعل من ذلك موضوعاً حصرياً للمعرفة الأدبية لم يألفه البحث الأدبي المنهجي في المغرب ولا في المشرق.
ينقسم كتاب “السارد وتوأم الروح: من التمثيل إلى الاصطناع” إلى ثلاثة أقسام. القسم الأول يُعنى بالعلاقة بين السيرة الذاتية والتاريخي، والقسم الثاني يتناول محكي الطفولة، والقسم الثالث يشتغل على استقصاء ما أسماه الكاتب “المنطقة البينيَّة” وهي المنطقة الملتبسة التي تفصل بين ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل، لمقاربة ظاهرة التهجين.
الكتاب هو ثمرة جهد للكاتب استمر لما يربو عن ست سنوات متواصلة، لذلك فالكتاب يُعتبر من النوع “كامل الدسم” يعتبر من عيون الكتب، لمؤلف ثاقب النظر، وعميق الفكر.
يعتبر الكاتب محمد الداهي أن ما يميز كاتب السيرة الذاتية عن الكاتب الروائي هو أن “الأول يتعهد بقول الحقيقة وباستعمال ملفوظات جدية، ويخلق مسبقًا انطباعًا في ذهن القارئ أن ما يتلقاه مطابق للواقع، في حين يعمد الثاني إلى وضع ميثاق تخييلي حتى لا بأخذ كلامه على محمل الجد”.
عمد الكاتب محمد الداهي على تحليل متنوع في الكتاب الذي تضمن نحو ثلاثين مؤلفا من السرد الشخصي، اشتملت مراحل مختلفة من تاريخ السرد الأدبي العربي، لمؤلفين مثل: “التعريف” لابن خلدون، و”أوراق” لعبد الله العروي، و”الضريح” لعبد الغني أبو العزم، و”ثمن الحرية” لعبد الهادي الشرايبي، و”ثورة المريدين” لسعيد بنسعيد العلوي، و”أنشودة الصحراء الدامية” لماء العينين ماء العينين، و”الرحلة الأصعب” لفدوى طوقان، و”فيي الطفولة” لعبد المجيد بنجلون، و”البئر الأولى” لجبرا إبراهيم جبرا، و”دليل العنفوان” و”دليل المدى” و”من قال أنا” لعبد القادر الشاوي، و”ممر الصفصاف” و”رجال ظهر المهراز” لأحمد المديني.
كتاب “السارد وتوأم الروح: من التمثيل إلى الاصطناع” رائع البيان وشاسع المعنى، بأسلوب شيّق، ولغته راقية جداً. قال عنه الناقد المغربي أحمد المديني “هي أمتن دراسة مدققة وموثقة في المحكيات الذاتية العربية الحديثة، بمنهجية تتراوح بين محمول النصوص ومنظورات الدرس النقدي الجديد، وتستجلي تمثيلات الواقع بين حقيقته وتخييل الذات، مستعملة المصطلح العالم بالرأي المركب لا الحاكم”.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=16254