سعيد الكحل
كشفت جائحة كورونا عن خطورة الإيديولوجية على المجال الصحي، سواء بين ممارسيه من أطباء وصيادلة، أو عموم المواطنين باختلاف طبقاتهم الاجتماعية ومستوياتهم الثقافية. فمنذ الأسابيع الأولى لانتشار الوباء تعالت أصوات شيوخ التطرف شامتة في الشعوب التي أصابها الوباء ومحرّضة ضد حكومات بلدانها بعد قرار فرض الحجر الصحي ومنع الصلوات الجماعية في المساجد حماية للمصلين وتطويقا لانتشار الوباء.
كما لحقت بها أصوات من داخل القطاع الصحي التي من المفروض فيها أن تتعبأ لمواجهة الفيروس عبر نشر الوعي بخطورته على الصحة والاقتصاد وحض المواطنين على احترام الإجراءات الاحترازية كأقل فعل يساهم به المواطن في دعم جهود الدولة لمواجهة الوباء؛ فإذا بتلك الأصوات تشكك في جدوى اللقاح وتحرض على رفضه.
وها نحن نقترب من إنهاء العامين في ظل الجائحة، ولم تثن هذه الأصوات أعدادُ ضحايا الوباء ولا الخسائر المادية المترتبة عن انتشاره ولا قوافل العاطلين الذين فقدوا شغلهم، عن مواصلة التعبئة ضد اللقاح وإجراءات الحكومة الاحترازية.
فمباشرة بعد قرار تعميم اللقاح على التلاميذ من الفئة العمرية 12 ــ 17 سنة واشتراط التوفر على الجواز للسفر بين المدن ودخول المصالح الإدارية أو ارتياد المطاعم والمقاهي والأسواق الممتازة، خرج مجموعة من الأطباء والصيادلة (800 توقيع) برسالة إلى وزير الصحة وأعضاء اللجنة الاستشارية الفنية و العلمية للتلقيح يطالبونهم فيها بـ”وقف التلقيح بالنسبة للقاصرين واحترام حرية الاختيار في تلقي اللقاح بالنسبة للبالغين وإلغاء العمل بجواز التلقيح”.
حركة هؤلاء الأطباء تتزامن مع حركة المحتجين ضد اللقاح بغرض التحريض ضد الدولة وعرقلة جهودها عبر تخويف المواطنين من اللقاح ودفعهم إلى الامتناع عنه. بهذه الحركة يضع هؤلاء الأطباء أنفسهم خارج المجال الطبي والإنساني الذي يجعل من حياة الإنسان وسلامته البدنية والنفسية الغاية القصوى التي ينشدها الطبيب ويسعى إليها ، ليقحموا أنفسهم في المجال الإيديولوجي الذي يخدم أكثر من إستراتيجية تختلف وتتباين باختلاف الأطراف السياسية .
ذلك أن الموقعين على الرسالة لم يكترثوا للأضرار الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن الوباء ولا لعدد الوفيات بسببه أو الجهد المالي للدولة (6 ملايير درهم) لاقتناء اللقاح. كل تركيزهم انصب على تسفيه جهود الدولة في مواجهة الوباء، بدءا بفرض حالة الطوارئ الصحية وتوفير اللقاح بالمجان لعموم المواطنين والمقيمين وانتهاء بفرض جواز التلقيح كوثيقة رسمية وحيدة تسمح للمواطنين بالتنقل بين المدن وولوج الأماكن العامة المغلقة.
كما بخّسوا جهود العلماء عبر العالم في البحث لاكتشاف لقاحات فعالة للحماية من الوباء بحجة أن “فاعلية هذه “اللقاحات” ، التي لا تزال في طور الاختبار ، لم تثبت إلى الحين. حيث أن الملقح كما غير الملقح يستمر في نشر الفيروس و التعرض للمرض بأشكاله الخطيرة و حتى المميتة”. أ
أكيد أن اللجنة العلمية تتوفر على المعطيات الكافية عن الوضعية الوبائية وجدوى اللقاحات في الحماية من الإصابة والوباء أو نسبة نقل الفيروس من طرف الشخص الملقح أو معدل الإماتة في صفوف غير الملقحين مقارنة مع الأشخاص الملقحين .
ومن ثم تكون الغاية من الرسالة ليس المساهمة في توعية المواطنين بخطورة الوباء ، بل تحريضهم ضد الدولة والحكومة بادعاء أن “إجبارية التلقيح لا مبرر لها لأن الأمر يتعلق بمرض لا تتجاوز نسبة الوفيات في ذروته 1%، كما أن هذه الوفيات تتعلق في غالبيتها بالمسنين و الحالات التي تعاني من أمراض مصاحبة”، وأن “هناك أمراض أخرى لها معدل وفيات أعلى كالسرطانات والأمراض التنكسية تستحق في اعتبارنا استثمارًا أكثر من الاستثمار الموجه لكوفيد 19″(لمعلومة هؤلاء الأطباء ،فقد تجاوز عدد وفيات كورونا في العالم 5 ملايين شخص، وتراجع متوسط العمر المتوقع عام 2020 بعامين، وهو أعلى انخفاض منذ الحرب العالمية الثانية، وفق الدراسة التي نشرتها جامعة أكسفورد نهاية سبتمبر 2021 ).
فليست الحكومة المغربية وحدها التي تكرس جهودها لمحاربة وباء كورونا، بل كل حكومات العالم، فضلا عن توصيات منظمة الصحة العالمية للدول الغنية بتوفير المزيد من إمدادات اللقاح لصالح برنامج كوفاكس لإتاحة لقاحات كوفيد19 عالميا حتى تستفيد منه الدول الفقيرة.
موقف الموقعين على الرسالة يبقى موقفا شاذا من حيث كونه يخالف الهيئات الطبية الرسمية في كل دول العالم، كما يخالف موقف منظمة الصحة العالمية وتوصياتها من أجل توفير اللقاح لكل مواطني العالم. فهو موقف أبعد ما يكون عن قيم المواطنة وما تتطلبه من جعل حياة المواطنين وسلامتهم الجسدية وأمنهم فوق كل الاعتبارات السياسية والإيديولوجية.
وخير مثال يمكن تقديمه هو مبادرة الأطباء الكنديين المتشبعين بالقيم الإنسانية الذين خرجوا ، سنة 2018 ، في مظاهرة يطالبون بتخفيض رواتبهم التي اعتبروها مرتفعة ((حوالي 300.000$)، ووجهوا رسالة إلى الحكومة الكندية يحثونها على إخضاع رواتبهم إلى الاقتطاع ومنح المبالغ المقتطعة لفائدة الشرائح الاجتماعية الأقل دخلا .
فهل يمكن أن يطالب أطباء المغرب ، وخاصة الخواص ، بتخفيض سعر الفحوصات الطبية والتحاليل المخبرية ؟ أكيد لن يفعل
المصدر : https://dinpresse.net/?p=15837