24 يوليو 2025 / 22:12

أصل الإسلام (ما قبل الهيولى، ما قبل الحياة، ما قبل الإنسان، ما قبل التاريخ) (4)

محمد زاوي

1-الأصل الأول: ما قبل الهيولى (أصل الكون/ تتمة)

(…)

لقد أدى الانتقال من الميكانيك الكلاسيكية إلى الميكانيك الحديثة إلى فهم العالم على نحو مغاير، فأصبح الكون فجأة مختبرا للنظر الاحتمالي أكثر مما هو محل للنظر اليقيني.

وليس هذا دعوة للايقين، ولكنه يدعو إلى الخروج من “العلموية اليقينية” التي احتكرت المعرفة والتجربة والبحث رغم عجزها عن تقديم تفسير كلي وشامل، ليس لأصل الكون فحسب، بل للمادة الكونية التي هي بين أيدي الباحثين وأمام أعينهم المجردة وغير المجرّدة.

صحيح أن للعلم منحى تقدميا يعزز قدرته على الاكتشاف مستقبلا، إلا أن هذا المنحى لا يبرّر احتكار النتيجة النهائية وإخضاعها لمنطق معتاد في الفيزياء، بما فيها تلك الاحتمالية.

المنحى الاحتمالي المادي أقرب إلى التصور الحديثي اليوم، لكنه لا ينفي احتمالات أخرى تؤول إما إلى اختلاف في “نوع المادة الأولى”، وإما إلى مكوّن مختلف (“لا مادي”) خاضع لقوانين غير قوانين المادة.

يجب أخذ الاحتمالين معا بعين الاعتبار، كما يجب سلوك طريقين في الكشف عن أحدهما: طريق النظر التجريبي والرياضياتي، وطريق النظر الفلسفي. بلغة أخرى: طريق العلم، وطريق التأمل والإحساس.

تتأكد يوما بعد يوم أسئلتنا عن الوجود، عن “الأصل الأول”؛ وقد خاب سعي الإنسان الذي ظن أنه أسقط التفكير الديني بإسقاط المركزيات الثلاث (الأرض، الإنسان، العقل) باكتشافاته العلمية.

صحيح أن تأويلا من الدين سقط إثر إسقاط هذه المركزيات، غير أن الإنسان عجز عن منع تسلل الفكر الديني إليه، ومن نفس الإسقاط الذي ألحقه بالمركزيات المذكورة. وكما يتجلى الدين في عالمه الحديث من خلال تعلقه الديني بما صنعته يداه، ينعتق ويخرج للعلن كلما واجهت الإنسان تحديات في نفسه أو في الطبيعة.

الدين “روح لعالم بلا روح” (كارل ماركس)، يكتمل به الإنسان عندما يصيبه العيب في “عالم العيوب”. وعندما يشتد العيب تصبح الحاجة إلى الدين أكثر إلحاحا، كما يحدث في الكوارث الطبيعية والأزمات الاجتماعية (أنور عبد الملك، تغير العالم).

يدفع دعاة الإلحاد بحجة أن “العلم كلما تقدم يلغي الخرافة”، تعتريهم في ذلك رغبة في كشف سرّ “الأصل الأول” للإيمان باعتماد أدوات العلم الحديث. وهذا كلام لا غبار عليه إذا ما احتكمنا إلى مرجعيته العلمية الحقة والحديثة، لكنه يلغي مرجعية أخرى لا تقل أهمية عن المرجعية الأولى، وهي مرجعية “الكشف بالتأمل”.

فما دام العلم محدودا بحدود مجاله في الزمن والمكان، وما دام الإنسان في حاجة إلى العيش والسير مهما كانت ظروفه ومهما كان مبلغه من العلم الكوني؛ ما دام الأمر كذلك، فما الذي يحمل الإنسان على إهمال وتضييع حقيقةٍ في “الباطن” باكتشاف مفترض في المستقبل؟! الكشف بالعلم والكشف بالتأمل لا يتعارضان، وإنما يبدأ الثاني عندما يقف الأول عند حدوده. وهكذا تستمر العمليتان إلى أن يتحقق تطابقهما (“وجوه ناضرة إلى ربها ناظرة”).

هناك مساحات “قديمة” غير مكتشفة، تصبح بالتأمل جزءا مهمّا من نفس الإنسان.. فالتأمل بحركاته وسكناته يحاكي حركة الكون، يستدعيها ويستدعي أصولها، “مادتها الأولى”. “إن الإنسان عندما يصلي ينتصب واقفا كالجبال والسنابل، وهو يركع ويعود إلى الوقوف، كما تختفي الكواكب ثم تظهر وينحني كأغصان النخيل، أو كما تنحني المخلوقات الحية نحو الأرض وكذلك عباد الله نحو مصدر الحياة.. هذه الصلاة لا تربط الإنسان بالطبيعة والنظام الشمسي فقط، ولكن تربطه مع الإنسانية بأسرها. فالقبلة في جميع أنحاء الدنيا، تشكل دوائر مركزها واحد وهي تمثل الوحدة الشاملة…” (روجي غارودي، الإسلام هو الحل الوحيد للأزمات المتصاعدة في الغرب، كتاب المختار، ص 19-20).

هذه المحاكاة على أهميتها مجرد وسيط بين الإنسان و”أصل الأصول”، والأصل كامن فينا كما هو الوسيط، وحده الاستدعاء بالتأمل يمنحهما حركة في النفس، أو لعله يوقظهما من سبات، وإلا فحركتهما في النفس من حركتهما في “الكل”.

(يتبع)