17 يوليو 2025 / 16:07

أصل الإسلام (ما قبل الهيولى، ما قبل الحياة، ما قبل الإنسان، ما قبل التاريخ) (3)

محمد زاوي

1-الأصل الأول: ما قبل الهيولى (أصل الكون/ تتمة)

(…)

هناك سؤال أيضا يُطرح عن “طبيعة” هذا “الأصل الأول”، الأصل الذي يدفع إلى افتراضه العجز في تفسير الأصول المتفرعة عنه.

وفي الإجابة على هذا السؤال وجهتا نظر: الأولى مادية لا تفترض أن يكون هذا “السر” إلا من نفس جنس المادة وإن اختلف شكله عن الأشكال المعروفة، أما الثانية فتجرّد هذا “السر” عن الوجود المادي بمختلف أشكاله.

وحتى إذا كان النظر الثاني أقرب إلى منطق الدين (“ليس كمثله شيء”)، فإنه لا ينفي إمكان النظر الأول. وذلك لأننا نجهل حدود المادة، ولا نعرف جميع أشكالها وتشكلاتها وكيف يمكن أن تصبح في ظروف وشروط مادية ربما لا علم لنا بها.

القوانين المادية التي نفسر بها ظواهر الكون، هي نفسها محدودة بحدود هذا الكون؛ أترانا إذا خرجنا من هذه الحدود إلى عوالم أخرى سنكون محكومين بنفس المنطق المادي، أم أن المادة ستصبح محكومة بقوانين أخرى غير القوانين التي نعرفها؟

كلها احتمالات واردة، وهي نفسها التي تضفي على “أصل الأصول” مسحة غيبية أسميناها “السر”. لو انكشفت لما احتجنا التأمل، لو بلغنا تفسيرها المادي لما بقيت حاجة للاستحضار بالدربة والاستغراق في مخاطبة الذات.

يتحدث العرفانيون عن وجود الأصل فينا. هذا منطق عرفاني، فهل له من إثبات في العلم؟ قد ندفع بفرضية “الامتداد المادي للأصل الأول”، إلا أنها تبقى مجرد فرضية ما لم تثبت بالتجربة.

الثابت أن المكونات الذرية واحدة، أما ما قبلها فغيب عند الباحثين. وليس لنا أن نقف عند هذا الحد المتحيز ل”حكمة الغرب”، فما يعيش به ومنه الإنسان لا يتوقف على الكشف التجريبي. يتحقق العيش ليأتي بعده الكشف، هكذا تقول “حكمة الشرق”. وإنه انطلاقا من هذا الاعتبار، يُستدعى “الأصل الأول” في ذات قابلة لاستدعائه، في ذات تحمله لأنها منه. فكيف للانقطاع أن يكون في فضاء متصل ومستمر؟!

إن هذا التقدم الطولي أو العرضي (أو في الارتفاع أو العمق) الذي يسيطر على تفكيرنا لا يوجد إلا في أذهاننا، أما في الفضاء فهو “كلّ كوني” واحد يطوي الأبعاد التي بها المسافات والمساحات والأحجام. هي كذلك ما دامت في داخله، فيما لا يبقى لها وجود خارجه. الذي كان والذي يكون والذي سيكون؛ كلها متحققة في “آنها”، رغم اختلافها في مرجعية “الزمن الفيزيائي الكلاسيكي”.

بهذا المنظور، أليس الذي كان من “الأصل الأول” متحققا فينا مهما توهمنا البعد عنه في زمن ابتكرناه؟! أليس له امتداد فينا وإن تقدم في هذا الزمن؟!

يعيد هذا النظر الاعتبار لتصورات عن الكون أريد لها أن تصبح في عداد “أساطير غير نافعة”. فهل هي أساطير فعلا؟ وإذا كانت كذلك فما الذي يجعلها غير نافعة؟

ما تتلقاه النفس المتأملة، الباحثة عن أصلها فيها، المتدبرة في أعماقها الأكثر عمقا؛ ما تتلقاه هذه النفس لا يدخل في عداد الحقائق ضرورة، وإنما هو مجموعة تعابير وإشارات لا تخلو من فائدة، توجيهات وقواعد تحقق التوافق مع قانون الكون.

قراءتها لا تقف عند الظاهر، بل تتخذ منه مرآة للكون وتحولات الزمن. لا بد للإشارات من خطاب وثقافة تظهر من خلالهما، وإنها تظهر اليوم في “فلسفة ما بعد علمية”، كما كانت تظهر قديما في أساطير اصطنعها الإنسان البدائي ليعيش ويعبر عن أحواله.

“الأسطورة” أكبر من مجرد عقبة في طريق تطوير قوى الإنتاح البورجوازية كما نظر إليها “عصر الأنوار”؛ إنها أكبر من ذلك، ولكن “التنويريين الأوروبيين” -في غمرة صراعمهم مع الكنيسة- لم يكونوا قادرين على حفظ “معرفة الأسطورة”، كما لم يكونوا على وعي باختراقها للاوعي الإنساني وتمكنها منه.

ولذلك فقد كانت الحرب عليها مجرد مرحلة، وسرعان ما عبّرت عن وجودها بمثاليات “عصر الأنوار” نفسه، ثم بمثاليات لاحقة، وعدميات رومانسية تأبى القيود، فبحث علمي في “الأسطورة”، فنقد للعلم المادي بما أغفله من هذه الأسطورة.

(يتبع)