محمد زاوي
1-الأصل الأول: ما قبل الهيولى (أصل الكون)
هذا القِدم، ما قبل الهيولى، ما قبل المادة الأولى لهذا الكون، هو الأصل الأول -أصل الأصول-، هو التجريد العقدي الأرقى للإنسان؛ هذا القدم هو ما يجب فهمه ومعرفة الممكن من عناصره ومكوناته وحيثياته.. فيه منا، وفينا منه. من ذلك أهميته البالغة، وقدرة الوعي به على تشكيل ارتباط جديد وربما أوثق بالغيب، في عالم يلفظ فيه “اللاهوت القديم” أنفاسه الأخيرة. البحث واجب إذن عن توفيق لا يضيع المقولات الغيبية في الشريعة ومدارسها الكلامية، فيما يبحث لها من جهة أخرى عن تفسير في علوم الكوسمولوجيا والكوانتيك والجغرافيا والجيولوجيا والبيولوجيا والأنثروبولوجيا والتاريخ والسيكولوجيا والباراسيكولوجيا، الخ. مدار البحث كله هو مجرد محاولة، محاولة لإيجاد الغيب في الأصل الأول، في القدم القديم. “هو الأول والآخر والظاهر والباطنة وهو بكل شيء عليم”.
ما الهيولى؟
يعرفها المعلم الأول أرسطو بأنها “هي التي فيما يتعلَّق بالموجودات الكائنة، هي العلة في أنها يمكن أن توجد وألا توجد. فمن بين الأشياء ما توجد بالواجب، مثال ذلك الجواهر الأزلية، ومنها ما يجب ألا توجد، فبالنسبة للأولى من المحال ألا توجد، وبالنسبة للأخرى من المحال أن توجد؛ لأنه لا يمكن أن شيئًا يكون على خلاف ما يقضي به الواجب.
ولكن هناك أشياء أخرى يمكن أن توجد وألا توجد على السواء، وهذه هي على التحقيق كل ما هو كائن وهالك؛ لأن هذه الأشياء تارة توجد وتارة لا توجد، فحينئذ الكون والفساد لا يتعلَّقان إلا بما يمكن أن يوجد وألا يوجد”. (أرسطوطاليس، الكون والفساد، منشورات مؤسسة هنداوي، ترجمة أحمد لطفي السيد عام 1932، 2014، الباب التاسع، ص 235)
وليس هذا الاستعمال، “العلة في أن الأشياء يمكن أن توجد وألا توجد”، هو ما نقصده بالهيولى؛ وإنما نقصد به تلك المادة الأولى، بغض النظر عن التمييز بين المادة والصورة عند أرسطو، وبغض النظر عن جوهرية الأولى وأولويتها مقارنة بالثانية. ما يهمنا هنا هو عرض مختلف التصورات العلمية الحديثة التي تناولت بالبحث هذه المادة الاولى، وكذا الفلسفات التي جاءت كنتيجة لعجزها وحدودها في هذه المسألة او تلك.
ف”الكون كان هيولى قبل أن يصير كونا” (جورج حنا، قصة الإنسان)؛ فما هي هذه الهيولى قبل أن “ينبعث” منها الكون؟ ما هي هذه “العلة الأصلية” قبل الحديث عن وجود الأشياء من عدمها؟ ما هي “المادة القديمة” قبل أن تجد لها مسلكا في الأجسام والصور، وقبل أن يختلف في ترتيب عناصرها الفلاسفة والمتكلمون؟
وجب التنبيه أولا إلى أن سؤال “المادة الأولى” لا يقل غموضا عن سؤالين آخرين هما “الحياة الأولى” و”الإنسان الأول”؛ وذك لأن العلم يعترف بعجزه، أو لعله يضطر لهذا الاعتراف، في عدد من المسائل المتعلقة بثلاث بدايات هي: بداية الكون، وبداية الحياة، وبداية الإنسان. في عدد من مسائل هذه البدايات، يقف العلم وتبدأ الفلسفة والعقائد.
ولا يتعارض هذا العجز مع العلم والإمكانات المتاحة لمعرفة حدودها، كما لا يمنع استمرار البحث والكشف والتزام منطق “العلم التجريبي الملموس”؛ إلا أنه يبقى عجزا مثيرا ما لم يثبت العكس! وعند العجز تبدأ أنواع أخرى من الكشف غير الكشف العلمي، كالكشف الوجداني.
خلصت الأبحاث والدراسات الفيزيائية إلى أن الكون قبل أن يصير على ما هو عليه اليوم، كان “مادة” (طاقة) متناهية في الدقة. وبذلك تكون الفيزياء قد أجابت عن سؤال البداية بإثباتها، فلولا ذلك لما تراوح الكون بين اتساع وانكماش كما تثبت الاكتشافات.
هناك بداية إذن، وهي ظاهرة تحيل على سؤال الكيف، كما تحيل على ما قبلها (أي ما قبل البداية). فكيف حدث “الانفجار العظيم” الذي به بدأ الكون؟ وماذا حدث قبله إذا جاز لنا الحديث عن حدوث في “قدم” قد يكون مفارقا لكل حدوث، بما لهذا الحدوث من معنى في المكان والزمن؟ تجيب الفيزياء، أو تحاول الإجابة على الأقل، على سؤال الحدوث وقوانينه. أما سؤال ما قبل الحدوث، وما الذي أملاه، فهي في ذلك مذاهب شتى ولم تبرح فيه مرحلة الفرضيات.
عند هذا الحد بالذات، حد “الما قبل”، تبدأ فلسفة الفيزياء الكونية ويأخذ النقاش مجرى فلسفيا على ضوء المنطق الفيزيائي نفسه، وربما يتأثر كل عالم بمنحى إيديولوجي خاص في وضع الفرضيات وتتبعها.
وهنا بالذات تنتعش القراءات الفلسفية والعقدية ولو لم تكن قائمة على أساس علمي، لما يكتنزه الإحساس من مساحات لم تُكتشَف إلى اليوم. غير أنه قبل الحديث عن هذا المعين الإنساني الذي لا ينضب، سيكون من الضروري عرض حدود الفيزياء وفلسفتها في الموضوع.
(يتبع)