ذكر “حمّو النقاري” -متّع الله به- في كتابه “من أجل تفلسف عربيّ منفتح- مفهوم العدالة”، تفصيلاً لأحد الدلالات اللغوية للمفاهيم الخُلقيّة الغربية، وهو مفهوم “The virtue” -ربما شاع عندنا ترجمته بـ “الفضيلة”، ج: “الفضائل”-. وقبل أن أضع كلامه، أذكّر بأمرين مهمين، وهما:
– استناد الفلسفة اليونانية (أم الفلسفات إن قبولاً أو رداً أو بينهما أو مضاهاة ومقابلة) على التمييز بين عقلين: نظريّ، وعمليّ. والنظري كما يُعلم لا محلّ لـ “النساء” فيه، لأن كمال “العقل” فقط لنوع من الرجال -لا كلّ الرجال-! فمبنى عقلهم النظري في أصله “عنصريّ”. أمّا العملي فهو المرتكز على “الفضائل” تحصيلاً لها، وهذه الفضائل هي التي سأذكر ما بيّنه النقاري.
– في مجال الشرعيّات، في المجال التداولي الإسلامي، جوبه العقل النظري بشكل بيّن واضح، لاتصاله بأهم المباحث، وهو “مبحث الإلهيات” وما تعلق بالنبوات والغيب، أي صميم الإيمان. في حين “العقل العمليّ” لم يكن له مثل هذا الحظ من المجابهة، بل تسرّب وتغلغل بشكل عجيب، حتى إن أهم كتاب يطبع في العالم الإسلامي بعد “صحيح البخاري” هو “إحياء علوم الدين” للإمام الغزالي -رحمه الله- قد تغلغل فيه العقل العملي الإغريقي تغلغلاً رهيباً.
الفضائل في الفلسفة الخُلقية الغربيّة (في أصلها وفق العقل العملي وإن لم يخل منها العقل النظري)، يقول النقاري: “يتمثل الأصل اللغوي لهذا المفهوم في المفهوم اللاتيني “virtus” الدال على الصفة التي يتصف بها “vir” أي “المرء”، والتي بها يَفْضُلُ “المرأة”، ومن هنا تم استخدامه غربياً للدلالة به على: “المروءة”، “الشجاعة”، “القوة الجسدية”، “الطاقة الروحيّة”، “الطاقة الخُلقيّة”، “قوة النفس موصولة باستقامتها”…، “الحكمة”…” ٨٢-٨٣.
تعليقي:
لا أعلم هل دلالة “الفضائل” في اليونانية لغوياً هي دلالة “الفضائل” في الأصل اللاتيني كما ذكر النقاري؟ لكن أعلم أن ما قرأته من تفاصيل “العقل العملي” اليوناني سواء عند أفلاطون وأرسطو أو غيرهما، في مسالك تدبير النفس، البيت، المدينة… تفاصيل في أصلها لذكر حرّ له مكانة، والنساء من ضمن ما يُدبّر له، لكنهن لا يُدبّرن، وهذا تغلغل وسرى مع كتب “الأخلاق” التي دخلت بعدّها منتجاً إسلامياً فلسفياً، كما عند العامري، مسكويه، الأصفهاني، وهي في أصلها من كتاب الأخلاق الذي كتبه أرسطو أو أملاه، وتممه ابنه أو تلاميذه. فضلاً عن اختلاط هذه المدونة الخُلقية بغير ما كتبه أرسطو -خصوصا العامري-. ومبناها الفصل في تصنيف الفضائل والتدابير الخُلقية بين “الذكر” و”الأنثى”! (وهذه كررتها عشرات المرات).
في حين النظر للأصل اللغوي، والاجتماعي عند العرب في زمن التنزيل لا ينطلق من هذا المنطلق الفاصل بين “الذكر” و”الأنثى” في أصل الخلقة، وإن كان له منطلق عنصري آخر، لكنه أخف حدّة من منطلق اليونان العنصري، وهو تصنيف الأخلاق بين “أخلاق الأحرار” و”أخلاق العبيد” (يمكن مراجعة ما يسر الله كتابته عند دلالة لفظ الحرية في مقال كتبته مؤخراً في صحيفة الرياض).
فالمرأة الحرة كالرجل الحرّ، والناظم ليس المنطلق الفردي، وإنما المنطلق القبلي. فالإطار غير الإطار، والمعيار غير المعيار.
ولكن الذي حصل في التراث الإسلامي بعد تغلغل علوم اليونان، خصوصاً “العقل العملي” هو تسرب التعنصر ضد النساء بهذه الطرائق، ودخول آليات عدّة تعيد تشكيل “الإنسان” على غير “الإنسان” وفق بيئة التنزيل العربيّة. حتى صارت دلالة الإنسان في أصلها مخاطبة الذكر! والمرأة ولو بدون وعي مدبّر لها، لا مدبّرة بذاتها. ولن يعدم أحد نصاً قرآنيا، ولا حديثاً نبوياً يستعمله لذلك. كما يمكن لأي امرأة تريد أن تكرر ذات القراءة المتحيزة للوحي والتراث أن تستعمل النصوص القرآنية والحديثية لذات الغرض، بل ستجد ما يرفع مكانة المرأة عالياً، والتعنصر ضد الرجال أيضاً. وكلاهما طريقا اختلال لا اعتدال.
هذه من المفارقات في دلالة “مفهوم العدالة”، وفق شبكة دلالية منها دلالة “الفضائل” في أصلها الغربي العنصري، الذي يأخذ المرأة في تعريف الرجال بالكمال، ولا سبيل لتعريفه بالكمال إلا بتفوقه عليها! فوضعها من حيث لا يدري معياراً. في حين الفضائل عربيّا مسلكها لا يفرق بين ذكر وأنثى، بل بين الناس في أنسابهم وأحسابهم، لذا جاءت النصوص الكثيرة المعالجة لتلك العنصريّة في زمنها، وأن لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى. ولا يعني هذا استقدام عنصريات أخر وتثبيتها محلّ الأولى!
في النهاية: الخطاب الفلسفي في أصل نشأته يستبعد النساء، ويحتقرهن، إن في العقل النظري أو في العقل العملي، وكثير مما علق بتأويلات علماء المسلمين مرتبط بهذا التأثر.
والله تعالى أعلم.
*هناك نقطة أخرى أيضا سأكتب عنها مقالاً إن شاء الله تعالى، وهي أحد مقتضيات الدلالات عند حمو النقاري هي أساس لفلسفة العطاس. والعطاس على عظيم قدره لكنه لم يتحرر من “الخطاب الثالث” الجامع بين خطاب عربي إسلامي، وإرث إغريقي وإنساني. -كما سماه سعيد بنسعيد العلوي.
**********************
رابط صفحة الكاتبة على فيسبوك: https://www.facebook.com/profile.php?id=100031617949207