ذ. محمد جناي
تعتبر عملية النقد قضية مهمة بالنسبة لتطور ونماء المجتمعات النامية ، حيث أنها ملاصقة لجميع الأفكار والمبادرات والمعتقدات والممارسات، فمتى كان العمل أو الإنتاج الإنساني سوف تجد النقد، وقديماً قيل “من أراد ألا تمر عليه رياح النقد فليلزم بيته”، وهذا غير ممكن بالطبع، ولهذا يعتبر التعاطي إلى ثقافة النقد بشكل إيجابي وفعّال ضرورة ملحة ،لأن العبرة منها هي تحقيق الكثير من المصالح للفرد والمؤسسات والأوطان، والغاية هي المصلحة العامة وتيسير حياة البشر وتمكينهم من حقوقهم، إضافة إلى أن النقد يصقل الأفكار والمنتجات والمشروعات ويطورها فهو يمثل التغذية الراجعة لها.
وما من شيء في عالم الإنسان يتصف بالكمال المطلق، وكل شيء في حياته يحتاج إلى المراجعة والتنقيح والتصحيح والتسديد ، هذا من جانب ومن جانب آخر فنحن الآن في القرن الحادي والعشرين في عصر المعلوماتية، وبلا شك فقد حدث تغير كبير في أنحاء شتى من الحياة وفي جميع مجالاتها الاجتماعية والنفسية والفكرية ،وعلى إثر هذه التغيرات ظهرت أراء واجتهادات في معظم الأمور الداخلة في المتغيرات ،فما تكاد تخلو مسألة اليوم إلا وفيها أراء واجتهادات مختلفة ، إضافة إلى دخول أفكار دخيلة على الإسلام، وهكذا فإن النقد ظاهرة صحية بل هي جزء أساسي من عملية التطوير ، فما أحوج المجتمع الإسلامي إلى ثقافة النقد ليبصرها بعيوبها ويخلصها من مرضها.
ومن أبرز أسباب ضعف الحاسة النقدية (ثقافة النقد) في المجتمعات النامية مايلي:
أولا : توجيه النقد إلى الأشخاص بدلاً من نقد الأفكار والرؤى
الإنسان بفطرته مجبول على الخطأ ، وهذه حقيقة مهمة لا بد أن يعيها كل ناقد أن الخطأ سنة بشرية جبل عليها الإنسان ، وعليه يكون النقد ضرورة بشرية من أجل الوصول للكمال الإنساني ، وبالتالي فإن النقد للأشخاص يقع على مايصدر من أفعالهم من أخطاء لا على ذواتهم ، قال الله تعالى :(فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون )سورة الشعراء 216، فالنقد البناء هو الذي يبحث عن الأخطاء والعيوب من أجل التصحيح ، وإصلاح العيوب ، والنقد الهدام هو النقد الذي يبحث عن الأخطاء والعيوب من أجل كشفها وإظهارها لتحقير صاحبها أو الاستهزاء والتشفي به.
فالنقد إذن هو عملية ذهنية يؤديها الفرد عندما يطلب إليه الحكم على قضية أو مناقشة موضوع أو إجراء تقويم ،وإنه الحكم على صحة رأي أو اعتقاد وفعاليته عن طريق تحليل المعلومات وفرزها واختبارها بهدف التمييز بين الأفكار الإيجابية والسلبية ، دون المساس بشخص صاحب الفكرة .
ولهذا دائما نؤكد أن من حق كل إنسان أن يقول رأيه ويصرح بوجهة نظره، ما دام ذلك في الإطار المعقول وبأسلوب راق ومتحضر، ومن حق الطرف الآخر أيضا أن يرد على كافة الرؤى ووجهات النظر تجاه كل مايصدر عن الآخر ، لكن ما بين هذا وذاك هناك أصول وقواعد وضوابط للنقد البناء، بحيث يكون أقرب إلى النصيحة منه إلى العداء، وهنا نورد أبياتا قالها الإمام الشافعي «تَعَمَّدني بِنُصْحِكَ في انْفِرَادِي وجنِّبني النصيحة في الجماعة/فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ من التوبيخِ لا أرضى استماعه/ وَإنْ خَالَفْتنِي وَعَصَيْتَ قَوْلِي فَلاَ تَجْزَعْ إذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَة».
ثانيا: نقد القضايا الصغيرة والفرعية
و إذا أردنا أن تُحترم أفكارنا وآراؤنا وتنال التقدير فعلينا أن نقدر أفكار الآخرين وآراءهم حق قدرها، وإن كنا نريد مقابلة المعقول بطريقة معقولة فعلينا أولًا أن ننظر إلى أفكار الآخرين غير المعقولة وكأنها معقولة، وبمعنى أصح: يجب علينا أن نبحث عن جانب معقول في هذه الأفكار؛ ففي مثل هذه القضايا ينبغي التخلي عن الإساءة والفظاظة، ولا بد من مراعاة اللين والدفء في تصرفاتنا وسلوكياتنا، وفتح صدورنا حتى للأفكار التي تبدو مخالفة لنا.
والحقيقة أنه لا مكان في الإسلام للأفكار القاسية غير المهذبة ولا المنقحة، لقد تناول الإسلام بعض الأفكار وعالجها وجعلها على نحو يسهل دخولها منه إلى كل قلب، هذه هي الطريقة التي يجب أن نستخدمها في النقد، فإذا استطعنا أن نكون رَحْبِيِّي الصدور، ونتبنى مبدأ احترام الحق، ونتحمل الأفكار المختلفة فسنحول دون أن تكون بعض الانتقادات سببًا للصراع والشجار، وخصوصاالتي يسوغ فيها الاجتهاد والاختلاف.
ثالثا: النظم المستبدة التي تحد من حرية الرأي
أغلب الحكومات في المجتمعات النامية هي استبدادية وقامعة للحريات ، وتستخدم من أجل ذلك سياسة الترهيب والاعتقال من أجل منع أي شخص عن التعبير خصوصاً إذا كان رأيه معارضاً لسياسة الدولة ،فهذه النظم الاستبدادية ، تستخدم سياسة تكميم الأفواه وقمع حرية التعبير، والمخيف هنا أن المافيا الحاكمة تعتقد بأن هذا هو الطريق الأمثل لمنع الانقلابات الداخلية مثلما حدث في الكثير من الدول ،إلا أننا قد وصلنا إلى زمنٍ يُفترض بأنه وقت لحرية التعبير وطرح الآراء لبناء مجتمع إيجابي يسعى للتطور على جميع الأصعدة، بل العكس الآن هو الحاصل فقد أصبحت ثقافة النقد تشكل خطراً على حياة هؤلاء الأشخاص الذين يقومون بالتعبير عن آرائهم، وذلك للحد من عدد المعارضين لكي لا يثيرون على الحكم أو على النظام ، ويمكننا الاستشهاد بما سمعناه مؤخراً عن الشيخ «سلمان العودة» المحتجز في المملكة العربية السعودية، وقد كانت تهمتهُ أنهُ كان يدعو لاحترام حقوق الإنسان في أُطر الشريعة الإسلامية، إلا أن ما طلبهُ الإصلاحي سلمان العودة كان لا يتوافق مع رؤية المملكة وهذا ما دفعهم لاحتجازه وإصدار أمر بإعدامه.
رابعا: ادعاء الكمال الدائم وتمجيد الذات مما يولد الإحجام عن النقد
إن ممارسة النقد الذاتي هو شرط لتجاوز راهنية الذات ، أي أنه شرط أي تقدم وتطور ،ولهذا فالمجتمعات في جميع الأحوال في أمس الحاجة إلى ممارسة كافة أنواع ومستويات النقد الذاتي.
فنحن ككائنات اجتماعية نتقزز ونكره ، بل ونعادي من يمارس التوعية الفكرية على ذواتنا الثقافية ، ولنتأمل موقع كل من : الجابري وابن تيمية والعروي وأدونيس وأركون والطيب تيزيني وجورج طرابيشي وعبدالرحمن بدوي ونصر أبو زيد وهشام جعيط ومطاع صفدي وعلي حرب وصادق جلال العظم ونصيف نصار …إلخ تأمل موقعه من خريطة القبول الاجتماعي والفكري ،فهؤلاء هم نقادنا الذاتيون (وطبعا لايعني إيراد الأسماء التوافق معها بالجملة ، بل يستحيل ذلك ؛ لأن كثيرا منها في تضاد وتعارض ، ولا يجمعها هنا إلا الطبيعة النقدية) الذين لايحظون منا بالتقدير الكافي ، بل ولابالمناقشة الفكرية على الأقل ، فهم كنقاد ثقافة ، مُحتاجون قبل غيرهم إلى من يمارس النقد عليهم وعلى أعمالهم . لكن ، هناك فرق بين النقد القائم على المساءلة الفكرية وبين الوضع على طاولة التشريح الإقصائي الذي لا يحسن الغوغائيون غيره ؛ لأنه هذا هو ما تمنحهم إياه ثقافتهم : ثقافة التقليد والتبليد والشيخ والمريد .
خامسا: اقتصار النقد على ذكر السلبيات فقط
إنَّ النقد البنَّاء لا يقصد به الثناء والمديح، ولكن هو ذلك الأسلوب السلمي الذي يستخدمه النقَّاد بهدف تحسين العمل وتلافي الأخطاء، بشرط ألَّا يكون هذا الانتقاد لتسليط الأضواء على الجوانب السلبية؛ ولا يمكن لأيِّ شخصٍ أن ينتقد إذا لم يكن على درايةٍ كاملةٍ بهذا التخصص، فمن الضروري أن يكون النقد والمعرفة متلازمان، إذ أنَّ الناقد يتمتَّع بعدَّة صفاتٍ منها: قدرته العالية على انتقاء المصطلحات الأدبية التي تجعل السامع يتقبَّل هذا النقد برحابة صدر، ومناقشة هذه الأفكار النقدية، وكيفية تطوير الفكرة دون أن يدمِّرها، والارتقاء بالعمل؛ فلا يكون هدفه إسقاط الآخرين أو إبراز ذاته من خلال نقده.
وصفوة القول
تبقى الحاسة النقدية مهارة وحكمة يجب أن نتحلى بها، وفي نفس الوقت هي شكل من أشكال حسن المعاملة وتحقيق المواطنة الحقة ، وهو ما أكده رسولنا الكريم بقوله «لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه ثلاث خصال: رفيق بما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه، عدل فيما يأمر به عدل فيما ينهى عنه، عالم بما يأمر به عالم بما ينهى عنه» صدق رسول الله.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=12268