16 يوليو 2025 / 18:04

أزمتنا الأخلاقية

محمد زاوي
هناك أزمة أخلاقية عالمية، لها حقيقتان: حقيقة في المجتمع، وأخرى في النفس. أنتجها النظام الاجتماعي الرأسمالي في “المراكز”، ثم صدّرها إلى “الأطراف”. هدفه منها تحويل الإنسان إلى وسيلة (“حوسلة” بتعبير عبد الوهاب المسيري)، إلى كائن استهلاكي مجرد من أي قيمة أخرى، إلى وعاء معلوماتي لا يتحيز إلى أي قضية إنسانية عادلة.. هذا من حقيقة الأزمة في المجتمع. أما في النفس فالأزمة تجمع بين قابلية بشرية وفعل اجتماعي، بين قابلية الرجوع إلى ما قبل التكليف وسيطرة النموذج الأخلاقي للاستغلال.

إن للأزمة الأخلاقية عدة مظاهر لعل أبرزها:

السيولة: فحل “اللامعيار” محل “المعيار”، وألقى الإنسان بنفسه في “سيولة كاسحة” و”هوة ليس بعدها قرار” بتعبير عبد الوهاب المسيري (الفلسفة المادسة وتفكيك الإنسان). لا نظام يضبطه في التفكير، ولا نظام يضبطه في التعبير، ولا في مختلف أنشطته المادية والمعنوية. في حين بنيت منظومة الإسلام على معيار من قواعد العقيدة والفقه والسلوك، شاملة لكل مناحي الحياة إما بأحكام مخصوصة لأفعال مخصوصة، وإما بأصول اجتهادية مخصوصة لقضايا مستجدة ممكنة.

ولذلك جاء في القرآن: “إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا” (سورة الإسراء، الآية 9). وشرط الهداية الالتزام، فيبشَّر المؤمنون بها وبنتائجها من تمدن وقسمة عادلة.

الأنانية: فبقدر ما كانت النزعة الفردانية نزعة ثورية زمن الثورة البورجوازية، أرجعت الاعتبار للإنسان بدل اغترابه خارج ذاته وشروطه ومصالحه. إلا أن هذه النزعة سرعان ما احتكرت من قبل الرأسمال يبتغي بها خلاصه المادي الربحي، لا على حساب الحقوق المادية للأكثرية فقط، بل على حساب قيمها المعنوية أيضا.

فلم تعد الفاقة والندرة تنتجان تعاون ذوي قلة اليد، بل تفرقهم وتنافرهم واستلابهم في ذواتهم ومصالحهم الخاصة؛ وذلك لسببين: كثرة تكاليف سوق الرأسمال، وتشجيع النظام الاجتماعي السائد (الرأسمالية) لعبادة الشهوات والأهواء والمطالب الخاصة. ويقول الله تعالى في القرآن: “أفرايت من اتخذ إلهه هواه وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله” (سورة الجاثية، الآية 23)؛ بذلك ألّه رغبته وخلاصه الفردي في مكاسب الأرض، فزادته أنانيته رهقا، ودخل بها في دائرة “تأليه الهوى”.

النكران: لم تعد الحضارة السائدة اليوم قائمة على قيم الوفاء، لا للإنسان ولا لتاريخه. الإنسان مجرد “تروس في آلة أو كرات بلياردو” (بتعبير مصطفى محمد، في “علم نفس قرآني جديد”)، يملأ حيزا في مجال للربح والخسارة، لا يستحق الوفاء، بل توظيفا نفعيا حسب مصلحة مالكي وسائل الإنتاج. التاريخ مجرد تراكم لفائض القيمة في خزائن الرأسمال، فلا اهتمام إذن بالذاكرة ولا بأبعادها الراهنة. والله تعالى يقول: “ولا تنسوا الفضل بينكم، إن الله بما تعملون بصير” (سورة البقرة، الآية 237)؛ وردت هذه الآية في سياق أخلاقيات الطلاق بين الزوجين، إلا أنها ذات أبعاد أوسع.

فالفضل يوجب الاعتبار بين الناس جميعا، وهو من سواء النفس وصفاء سريرتها إذا ما اتخذه الناس سبيلا. أما بين الإنسان ووطنه، بينه وبين تاريخه العام، فهو مستمر لا ينقطع. من أرضه وسمائه ومائه العيش، من سلطته الأمن، من ساكنته التعاون والتراحم، فوجب الوفاء.

التبذير: وهذه مفسدة خلقية تشمل اليوم كافة مناحي الحياة، من مسكن وملبس ومطعم، بل إن التبذير لحق مشاعر الإنسان وانفعالاته، وهذه من تلك. هوة اجتماعية واسعة، تفاوت في الثروة كبير بين الطبقات الاجتماعية، وبين شمال وجنوب؛ إلا أن الاستهلاك الفاحش أخذ حظه من كافة الفئات، ولو أنه في الطبقات العليا، بورجوازية وبورجوازية صغيرة، أكثر تركيزا. بالمفهوم القرآني هذه “حضارة شيطانية”، “ولا تبذر تبذيرا، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وكان الشيطان لربه كفورا” (سورة الإسراء، الآية 27).

العنف: بشتى أنواعه، المادي والمعنوي، في ظل احتدام التنافس والصراع بين ثلاثة تناقضات: تناقض رئيس بين من يملك ومن لا يملك إلا قوة عمله، وآخر بين المالكين يتنافسون على الأسواق والأرباح والاستثمارات، وتناقض ثالث بين الذين لا يملكون أو تقل يدهم فيكون صراعهم تناحريا على الفتات. يتخذ هذا العنف مخرجات شتى، منها الطائفي ومنها القبلي، منها الإسلامي ومنها العلماني، في حين أن مصدره واحد هو التفاوت، وأقنعته ومحفزاته إيديولوجيات متعددة.

والأصل في الإسلام سلم الوسيلة والقصد، فكان السلام جزاء في الجنة (“سلاما سلاما”، أي “طيبا طيبا” وليس العنف أو ما ينتج عنه كذلك/ سورة الواقعة، الآية 26)، وكان الجنوح للسلم واجبا بعد عنف اضطراري تقرره “الجماعة” (في زمننا هي “الدولة”) لحماية مصالحها (“وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله”/ سورة الأنفال، الآية 61).

الكذب: وهو سلوك يقوم على أساس نفسي، إما من خوف وإما من رغبة في الاستغلال. وكلاهما منتشران في عالم اليوم، بهما يبسط مالكو الرأسمال سيطرتهم على العالمين. فلم تعد الحضارة حضارة حقيقة، بل حضارة إخفاء للحقيقة ولو كان من قدرها الانكشاف البديهي والعفوي؛ كما هي حضارة خوف أريد للنفس فيها أن تخفي حقيقتها وكافة مشاعر الكره والحقد والحسد تجاه مستغليها.

مهما تقدمت العلوم والتقنيات، ومهما اكتشِفت الثروات الطبيعية وروكمت الأرباح الرأسمالية، ومهما تقدم العلم في فهم النفس البشرية وتفكيك أمراضها واضطراباتها؛ يجب إخفاء كل ذلك على الناس ليستمر الاستغلال بيد من “كذب وتزييف للحقائق”. “قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون” (سورة يونس، الآية 69)؛ لا يفلحون بنظام التفاوت سرعان ما يذوقون عذاب أزماته واضطراباته الداخلية، ولا في “جنة” هي مصير العالمين جميعا لا مكان فيها للمفترين والظالمين، “وقد خاب من افترى” (سورة طه، الآية 61).

الكسل: فإذا كان الإسلام يشجع العمل بالتساوي بين الناس، فإن الحضارة السائدة تتخذ خطابين، خطاب يشجع الكسل حد الخمول، وخطاب آخر يشجع العمل حد الإجهاد. الراحة للأقلية المالكة لوسائل الإنتاج، والتعب للأكثرية العاملة أو الكادحة. ورغم هذا، فقد انتشر الكسل بين أفراد جميع الطبقات والفئات، نظرا للانتقال الذي عرفته الرأسمالية نفسها، بانتقالها من رأسمالية منتجة زراعية أو صناعية أو خدماتية إلى أخرى مالية ربوية فاحشة. تتفاوت وتيرة العمل بين الشمال والجنوب، بل بين قطاعات العمل في المجتمع الواحد، والقاسم المشترك تعويض الإجهاد وقت العمل بالراحة والكسل وتعطيل القدرات الإنسانية خارجه.

والواجب أن يعمل الناس قدر مستطاع كل أحد، ودون نهب أقلية لمجهود الأكثرية تحت أقنعة شتى؛ ذلك هو السبيل لراحة سليمة يتراوح فيها الإنسان بين جهد يسد به رمقه وجهد ينمي به جسمه وعقله. فكما شجع الإسلام على العمل والتكسب (“اليد العليا خير من اليد السفلى”/ حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، متفق عليه)، فقد نهى عن الإلقاء باليد إلى التهلكة (“ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة”/ سورة البقرة، الآية 195).

العقوق: إنها حضارة “اللاأصل”، طمس للذاكرة وهي أصل العقل، وطمس للطبيعة وهي أصل الجسد، وطمس للدين وهو أصل الروح؛ وكذلك هي طمس للأصول، للعلاقة بالوالدين والأجداد، وهؤلاء هم أصل الفروع. لا قيمة للذاكرة ولا للطبيعة ولا للدين في هذه الحضارة، فكيف تكون فيها للعادات والتقاليد وعلاقات الأهالي والجيرة قيمة؟ وكيف يكون لبر الوالدين وذوي القربى قيمة؟! حضارة قائمة على الهدم في منحيين، للأصول بنشر ثقافة العقوق واستهداف الذاكرة الخاصة والعامة، والفروع بنشر ثقافة الشذوذ وإفراغ الوالدية والأسرة من قيمتهما الحضارية.

يُكسِب الإسلام مناعة أخلاقية ضد هذا النوع من العقوق، فيوجب برّ الوالدين (“وبالوالدين إحسانا”/ سورة الإسراء، الآية 23) حتى وإن كفرا بالإسلام (“وصاحبهما في الدنيا معروفا”/ سورة لقمان، الآية 15)، ويدعو إلى إعطاء الأولوية لذي القربى في الصدقة (“وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين”/ سورة البقرة، الآية 177)، ويحفظ المودة بين زوجي “الرباط المقدس” (“ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة”/ سورة الروم، الآية 21).

الخيانة: وهي من العقوق، فكيف لمن عق أصوله ولم يحسن معاملة فروعه وذوي قرباه؛ كيف له أن يبر بوطنه؟! وبمفهوم الموافقة الأولوي، فإذا كان برّ الوالدين واجب، فبر الوطن واجب من باب أولى. إذا كان من ثدي الأم الحليب، ومن ماء الأب النطفة، فمن تراب الوطن الجسم ومن ثروته العيش ومن سلطته الأمن.

الخيانة إذن شكل خاص من العقوق، ومن خان فهو داخل في حكم “وبالوالدين إحسانا”. هناك اليوم آلة إعلامية و”أكاديمية”، تجارية ومالية، تشجع على الخيانة وتصورها في صورة الشجاعة والتفرد؛ وما هي كذلك، إن هي إلا آلهة جديدة تسوغ فساد الأخلاق، فيصبح المرء “ذرة تائهة” (بتعبير سيد قطب، في “السلام العالمي والإسلام”) يجترح الآفات الأخلاقية تحت مسميات جديدة (“إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان”/ سورة النجم، الآية 23).

النهب: يحدث النهب في عالم اليوم في ثلاثة اتجاهات: نهب فاقة واضطرار، نهب استغلال، نهب استعمار. الأول يحدث بين عناصر من نفس الطبقة الاجتماعية، أو بين عناصر من طبقات متفاوتة؛ أما الثاني فيحدث تحت أقنعة من “السخرة والتشغيل”، تحتها نهب مقنّع لفائض القيمة وفق ما تفرضه قوانين النظام الاجتماعي الرأسمالي؛ والثالث ناتج عن “التبادل اللامتكافئ” بين الشمال والجنوب، تستنزف فيه ثروات “الأطراف” ومؤهلاتها ويدها العاملة لمصلحة “المراكز” (سمير أمين).

تغمض حضارة اليوم عينها عن النهبين الثاني والثالث، فيما تنبري لمعاقبة من سقط في جريرة النهب الأول، الذي هو نتاج النهبين الآخرَين. في شركة لتعليب البيض مثلا، قد يعاقب عامل سرق بيضة، فيما يستفيد صاحب ذات الشركة من فائض قيمة هذا العامل دون أن يمسه عقاب. التفاوت كبير بين بيضة وفائض قيمة العامل الذي علّبها، إلا أن حضارة اليوم تحتكر “تعريف النهب” كما تحتكر “وسائل الإنتاج”. (“لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”/ رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها)

التهتك: الخروج عن المنهج طريق إلى الخروج عن الفطرة، وبقدر ما توسعت “حضارة الرأسمال” في الخروج عن المنهج فقد ألقت بقدراتها وتقدمها في واقع من الشذوذ والخلاعة والغابوية، وإن كانت الغابة تتبرأ من فواحش هذا الزمن. تسودها الفطرة والطبيعة، فيما يأبى إنسان هذا العصر إلا أن يخرج عنها بجعل الشذوذ طبيعة. الزوجية طبيعة وفطرة، قانون لجميع الأحياء، نباتات وحيوانات؛ وأرادها إنسان “حضارة الرأسمال” أن تكون “مثلية”.

ينظم الإسلام المنهج بقواعد لعل أبرزها “ولا تقربوا الزنا، إنه كان فاحشة وساء سبيلا” (سورة الإسراء، الآية 32)، ويحفظ الفطرة بقواعد لعل أبرزها “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا” (وليس أمثالا/ سورة الروم، الآية 21). دون هذا رجوع إلى الوراء في الزمن، تخلف بعد تقدم، تهتك بعد حضارة.

الخباثة: تعفَّن الرأسمال فأنتج القذارة، لا قذارة ظاهر فقط، بل قذارة باطن أيضا. كثرت المساحيق والعطور والمنظفات والأصباغ، إلا أنها عوض أن تقف عند حد ما تحصل به طهارة البدن، أساء الإنسان استعمالها فحالت بينه وبين طهارتيه، الظاهرية والباطنية..

وهكذا اسنبِثت الخباثة داخل “حضارة المساحيق والعطور”.. بوهيميون لا يحلقون ولا يستحمون يحاكون الحيوان “وهو أنظف منهم”، عبدة للشيطان يختارون من الألبسة والمساحيق ذات اللون الأسود ومن العطور أسوأها رائحة، “متمدنون” استغنوا بحمام الصباح أو المساء عن التنظف الدائم (الوضوء).. عوضوا النظافة المائية المقتصدة بأخرى تبذيرية (للماء والورق والمطهرات الاصطناعية)، وشموا الجسد وشوهوا الخِلقة، تشبهوا بالكلاب عيشا وحالا (حالة غريبة ظهرت في الغرب)، وجعلوا العري فلسفة في وفرة من الملبس (الطبيعيون في أوروبا)..

ناهيك عمّا تنفثه المصانع من غازات وأدخنة كل يوم، يموت بها الإنسان ألف مرة ليعيش مرة واحدة، يموت بسموها في مداه البعيد ليعيش من منتوجها في يومه القريب.. وكأنه ينفق على موته من جسده، وعلى حتفه من قوة عمله.. تحسنت ظروف عيش الإنسان، وأتيحت له نظافة جسده أكثر من ذي قبل؛ إلا أن الحداثة سرعان ما انقلبت خباثة.. خباثة في نفسه يحتكر بها الحياة والمصالح ويبذرها، وأخرى في بدنه بعد استلاب في الجسد. “ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار” (رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه)، وذلك بإخراج الثوب من مقصده الذي وجِد الله، وهو الستر والوقاية؛ فلما اتخِذ “خيلاء” وكبرا (وبهذا قيِّد المطلق: “في النار”) أخذ حكم التحريم.

وكذلك الطهارات الواجبة كالغسل والوضوء، أو المستحبة كالتطيب والتسوك، إذا خرجت عن مقصدها اقتربت من حكمي المكروه والمحرم. أما الطهارة في حدودها، فهي من الدين، بل هي الدين كله. و”الطهور شطر الإيمان” كما جاء في الحديث الشريف (رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه). (“الدين: توسيع دائرة النظافة”؛ عبد الصمد بلكبير).