محمد الربيعو. باحث من سوريا
ثمّة أزمة يعيشها الجميع اليوم، تتجلى في مشاعر الشك والخوف، وتغذّيها أساطير وصور نمطية عن “الآخر”. لكن ما أود التوقف عنده هنا هو المخيال الإسلامي السوري، وتحديدًا مخيال أبناء الجماعات الإسلامية.
للأسف، أظهرت الأزمة الأخيرة أن هذا العقل، رغم انغماسه في الواقع، لا يزال عاجزا عن التعبير عنه بلغة هذا الواقع وأدواته. لا يمكن إنكار أن الخطاب الاسلامي في ردوده ينطلق من أزمة الواقع، ولا يعبر عن رأي اسلامي متطرف عابر للتاريخ ، لكنه هذا العقل للاسف في رده غالبا ما يتنبى مخيالاً سلطانيا ، وفق تعبير عبد الله العروي. يستقي مفرداته من معجم ما قبل حديث؛ معجم الدولة الأموية، والغزو، والطوائف.
يتحدث هذا الخطاب عن احترام الآخر وعظمة الاسلام في تقبل الآخر، لكنه في العمق لا يرى الآخرين إلا بوصفهم طوائف. وكأننا ما زلنا نعيش في زمن السلطنة العثمانية، أو حتى قبلها.
خذ مثلًا الأزمة الأخيرة: لم نجد في الخطابات الصادرة عن أبناء تلك الجماعات، وحتى من شرائح سنية أخرى، أي استحضار لتاريخ سوريا المعاصرة، الممتد على مدى مئة عام، والذي احتوى على محاولات جادة لتجاوز التقسيمات الطائفية، وتأسيس تجربة جديدة. أحداث عام 1925 ليست مجرّد “فزعة ثورية”، بل شارك فيها مقاتلون كانت تجمعهم سابقا صداقات في مدرسة العشائر بإسطنبول، أو في المدارس الأخرى. تلك الصداقات، وتكوين الخبرة المشتركة، وتجربة الدولة الوطنية لاحقًا، كلها أسهمت في بلورة وعي آخر غير وعي القرن التاسع عشر.
هذه السرديات – وغيرها – نحن بأمس الحاجة لاستعادتها اليوم، إلى جانب مفاهيم المواطنة والدولة الحديثة. لكن النكوص كبير، حين يأتي أحدهم ليقول إن “كل مفاهيم الغرب كاذبة”. والغرب كاذب ومحافظ . طيب . لكن لولا أميركا يوم أمس . لكنا دخلنا جميعاً في أزمة أعمق . هذا الخطاب لا يزيد المخيال الإسلامي الحركي إلا تقوقعا وانعزالا، ولن يسهم في أي تقدم جاد، وللامانة علينا الاعتراف أنه يأزم أيضا من واقع السنة في البلاد.
والأمر ذاته ينطبق على سائر الجماعات الدينية الحركية في سوريا، التي لم تنج من هذا الأمر، وتعيش أيضا معزولة بدعوى الخوف من الأغلبية. يعني من الغريب مثلاً أن لا يمثل الدروز أو باقي الطوائف إلا رجال الدين. هذا الأمر ايضا يجب تجاوزه . الطوائف السورية مليئة بأبنائها الوطنيين وأصحاب الخبرة والرأي .
المؤلم حقًا، أن سوريا قد انقسمت، في الأشهر القليلة الماضية، إلى تركيبات تاريخية: بني أمية، وزبيد والقبائل العربية، وبني معروف، وغيرها من التصنيفات التي تستخرج من أعماق الماضي.
السؤال هو: هل يعقل، بعد أكثر من 1400 سنة، أن يختار الإنسان أن يكون “أمويا” أو “معروفيا”؟. أكيد هي رموز تاريخية نعتز بها. لكن معقول بعد كل تجارب العيش في دول أخرى( أعني المثقفين بالأخص) والاطلاع على كتابات وترجمات، نبقى عند نفس اللحظة.
الحاجة اليوم ماسة لخطاب مختلف، ولسرديات بديلة، تقوم بها جامعات، ودراما تلفزيونية، ومثقفون (ليس دورهم يقتصر في التحريض على السوشيال ميديا) وغيرها من الأمور. هذه القوى الناعمة يمكن أن تساعد في ترميم المخيال الجمعي، وتحريره من أَسر الطوائف والأساطير، لكن بشرط أن تكون الدولة أيضا مدركة لدورها كدولة وليست كجماعة ، أو فئة ضيقة.