دين بريس ـ سعيد الزياني
تعيش بريطانيا هذه الأيام نقاشا معمقا حول معنى الوطنية بعدما تحولت أعلام “صليب القديس جورج” والراية البريطانية من رموز للاحتفالات الرياضية والسياسية إلى أدوات تحمل رسائل إقصائية ضد المسلمين ومؤسساتهم الدينية.
وهو تحول يعكس أزمة أعمق في تحديد الهوية الوطنية داخل مجتمع متعدد الثقافات.
وكما هو متعارف عليه، فإن رفع العلم في الملاعب والمناسبات الرسمية يمثل رمزية الوحدة، لكنه يتحول في سياقات أخرى إلى وسيلة لإقصاء فئات بعينها.
وقد شهدت مناطق مثل إسيكس وليفربول وبيركنهد إلصاق الأعلام على جدران المساجد ومنازل المسلمين مرفوقة بعبارات من قبيل “لا للإسلام” و”هذه إنجلترا” في محاولة لإعادة تعريف من ينتمي للوطن ومن يُستبعد منه.
ويظهر الاعتداء على المساجد كفعل عدائي يحمل أيضا رسالة سياسية، إذ يستهدف المسلمين كمجموعة دينية ويختبر قدرة الدولة والمجتمع على حماية قيم التعددية.
ويمكن اعتبار رد مسجد في بيركنهد، حين علق علم إنجلترا داخل قاعته، تعبيرا عن مقاربة مختلفة تهدف إلى كسر هذا الاحتكار وإعادة تقديم العلم كرمز جامع يشمل الجميع بدلا من أن يكون أداة للإقصاء.
ويرتبط وجود المسلمين في بريطانيا منذ السبعينات بالنقاش حول التعددية الثقافية، فقد اعتمدت الحكومات سياسات تعترف بالتنوع غير أن هذا الاعتراف ظل مثار جدل بين من يراه ضمانا للتعايش ومن يعتبره تهديدا للوحدة الوطنية.
واليوم تعيد أزمة الأعلام طرح سؤال جوهري: هل الوطنية إطار جامع للجميع أم مفهوم ضيق يختزل في ثقافة الأغلبية؟
يعكس الجدل البريطاني سياقا أوسع في أوروبا، ففي فرنسا تحولت قضية الحجاب إلى رمز للصراع بين قيم الجمهورية والعلمانية وحق المسلمين في التعبير عن هويتهم، وفي ألمانيا أثار النقاش حول “الثقافة المهيمنة” جدلا مشابها حول التزامات الوافدين الجدد، وهو ما يؤكد أن القلق بشأن الهوية يمتد إلى القارة كلها في ظل العولمة والهجرة.
وتكشف هذه الحوادث هشاشة التماسك الاجتماعي، خاصة في المناطق الفقيرة التي تعاني البطالة، حيث يجد الغضب منفذا في استهداف الأقليات، بينما يشحن صعود الشعبوية النقاش السياسي، لتتحول الشعارات القومية إلى غطاء لخيبات اقتصادية واجتماعية متراكمة.
وتضع أزمة الأعلام بريطانيا أمام اختبار صعب، فإما أن تبني وطنية شاملة تعترف بالتنوع وتستوعب جميع المواطنين، أو تسمح بانزلاق الرموز الوطنية إلى أدوات للإقصاء والانقسام.
وهو ما يستدعي أكثر من إجراءات أمنية إذ يحتاج إلى نقاش سياسي ومجتمعي واسع حول معنى الوطنية اليوم.
وينتهي المشهد البريطاني إلى خيار مصيري، فإما أن تعزز البلاد نموذجها كدولة متعددة الثقافات أو تنزلق إلى مسارات استقطابية تُهدد نسيجها الاجتماعي والسياسي.
ويظل العلم رمزا للوحدة عندما يُستخدم للتعبير عن الشمول والانتماء المشترك، لكنه يصبح أداة خطيرة إذا جرى توظيفه للإقصاء واستبعاد الآخرين..