أدوار هيئات المجتمع المدني.. رؤية إسلامية

ذ محمد جناي
2021-07-08T13:06:04+01:00
آراء ومواقف
ذ محمد جناي8 يوليو 2021آخر تحديث : الخميس 8 يوليو 2021 - 1:06 مساءً
أدوار هيئات المجتمع المدني.. رؤية إسلامية

ذ. محمد جناي
مفهوم هيئات المجتمع المدني، من أكثر مفاهيم العلوم الاجتماعية، المثيرة للجدل، سواء عند دراسته نظريا أو معالجته تطبيقيا على أرض الواقع، ذلك أن البعض، يوسع المفهوم، حتى يشمل معظم مؤسسات العمل العام الواقعة بين الأسرة والدولة، والسوق بمختلف أنواعها التقليدية والحديثة؛ والبعض الآخر يقصره على مؤسسات عصرنا الحديثة، ويستبعد تلك المؤسسات التقليدية الموروثة من الماضي.

والمجتمع المدني ، كتجربة إنسانية وليس كمصطلح ، وجد عند كل الأمم التي عرفت أشكال التعاون والتكافل الاجتماعي بين أبناء المجتمع، فما نطلق عليه اليوم (المجتمع المدني )، لم يكن هو ذاته على مر التاريخ، فقط تطور المفهوم، وتراكمت المحاولات لتعريفهم وبيان حدوده وأهدافه ومجالاته، حسب ظروف كل عصر، وكل مفكر وتقلبات مجتمعه واحتياجاته ، حتى وصل إلى ماهو عليه اليوم في عالمنا المعاصر.

أولا : الجذور التاريخية لمفهوم مؤسسات المجتمع المدني
مفهوم مؤسسات المجتمع المدني، قديم قدم وجود الإنسان على الأرض ، لكن المفهوم ،بشكله الحديث، مفهوم غربي ، حيث يرجع المفكرون الغربيون أصوله إلى الفكر اليوناني، على يد أفلاطون وأرسطو، اللذين بحثا عن أفضل السبل لتنظيم المجتمع الإنساني الغربي، لكنهما لم يميزا بين المجتمع المدني وبين الدولة، ثم جاءت الكنيسة، متحالفة مع الملوك في العصور الوسطى الأوروبية، فكانت محور الحركة الاجتماعية، فقد ظلت الكنيستان «الكاثوليكية» و«البروتستانية»، هما القوة المحركة الرئيسية في إنشاء حركات الجمعيات، خلال تلك الفترة، حيث انتشر العمل الخيري المسمى «pia causa »في بيزنطة، وفي الغرب المسيحي، والتي بموجبها كانت الهبات والتبرعات تعطى للكنيسة لتتولى توزيعها على الفقراء.

وكما قلنا سابقا، فمؤسسات المجتمع المدني، بشكلها الحديث، مفهوم غربي، ينتمي لتاريخ أوروبا الغربية، فقد نشأ المفهوم، في خضم الجدل الاجتماعي والسياسي، الذي شهدته أوروبا ابتداء من القرن السابع عشر، وعلى مدى تطوره، حتى لحظة كتابة هذه المقالة، حيث اكتسب مضامين مختلفة، واسُتخدم للإشارة إلى ظواهر متباينة، واختلف حظه من الذيوع والأهمية، وقد كانت الأزمة التي تواجه المجتمعات الغربية، والتطور الذي يصير إليه المجتمع والدولة، هما المفتاحان الموجهان لفهمه، وإعادة بنائه وإحيائه على مدى تاريخ أوروبا، فقد جاء اشتقاق مصطلح المجتمع المدني، في الفلسفة السياسية اليونانية من مجتمع المدينة، القائم على مفهوم المواطنة والدولة والمدينة، كمقابل لمجتمع القرية القائم على روابط الأسرة والعشيرة والقبيلة.

ومع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، التي شهدتها أوروبا خلال الثورتين الصناعية والسياسية في القرنين السابع عشر والثامن عشر ، وتخلص أوروبا من ترسبات العصور الإقطاعية ومن سلطة الكنيسة، والتمييز الحاسم مابين الدولة وبين المجتمع المدني، أُتيح للجمعيات المدنية أن تأخذ دورا أكبر في النضال من أجل مصالح المجتمع والدفاع عن حقوقه، والحد من تسلط الحكومات واستئثارها بكل شيء، كما كان أمرها في العصور الخالية.

وخلال القرن التاسع عشر، حدثت تحولات جديدة، بلورت مفهوم المجتمع المدني وميزت بينه وبين المجتمع السياسي ، وبدأت بذور الفصل بينه وبين الدولة في الواقع والفكر الأوروبي، حيث كان السجال بين الإشتراكية والرأسمالية، إيذانا بتحول جديد للمفهوم، على الجانبين، فبينما اتسعت رقعة المفهوم داخل النموذج الرأسمالي الليبرالي، نظرا لطبيعة دور الدولة المحدود، نجد أن حدود وتطبيقات المفهوم قد ضمرت على الجبهة الاشتراكية الماركسية، حيث سيطرت الدولة على المجال العام بأكمله عبر الحزب الحاكم.

فقد استخدم المفهوم ، للتخفيف من تسلط الحزب الواحد في الدول الاشتراكية، والرد على البيروقراطية وتراجع دور دولة الرفاه الاجتماعية في الدول الرأسمالية، أما في الدول النامية فقد أصبحت مؤسسات المجتمع المدني، أساس المواجهة ضد الديكتاتورية والحكومات الشمولية، بالإضافة لدورها في تخفيف حدة الاختلالات الاجتماعية الناجمة عن انسحاب الدولة من أدوارها الاجتماعية والاقتصادية.

ثم انتقل المفهوم – بعد فترة سبات طوال فترة الحرب الباردة ، وصعود نجم دولة الرفاه في أوروبا الغربية وأمريكا ودول العدالة الاشتراكية في المعسكر السوفيتي ودول التنمية المستقلة في معظم دول الجنوب الفقير حتى السبعينيات من القرن الماضي – لمرحلة جديدة من الذيوع والانتشار والعودة بقوة في مجال النظرية والتطبيق، مع الموجة الثالثة للديموقراطية، التي ابتدأت في الثلث الأول من سبعينيات القرن الماضي ، واشتد عودها في نهاية الثمانينيات وما تلاها من سبعينيات القرن الماضي حتى اليوم، عندما انهار الاتحاد السوفيتي وجمهوريات أوروبا الشرقية، وتبعهم الحكم التسلطي العسكري في أمريكا اللاتينية ، ولينتشر في بقية أنحاء العالم مع الصعود السريع للمنظمات غير الحكومية على الساحة العالمية، ومن ضمنها مجتمعاتنا العربية، كصيغة تحاول أن تربط بين الديموقراطية والتنمية ، والتسوية الشاملة للصراعات داخل المجتمعات ، وتدعي القدرة على حل كثير من المعضلات الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية.

وأخيرا، كان سقوط جدار برلين وتحولات الدولة في أوروبا وأمريكا وتغيرات أدوارها، وسقوط الإتحاد السوفيتي، في نهايات القرن الماضي، له الفضل في عودة المفهوم ومؤسساته بقوة للمشهد السياسي والثقافي والاجتماعي على المستوى المحلي في معظم بلدان العالم وعلى المستوى العالمي، لدوره في عمليات التحول الديموقراطي، والتنمية والدفاع عن حقوق الإنسان، وتبني القضايا العالمية ذات الاهتمام المشترك بين أبناء آدم، مثل : قضايا البيئة والسكان والتلوث، والمرأة وحقوق السكان الأصليين، والفقر، والعدالة الاجتماعية ، وغيرها.

ليصبح المجتمع المدني، فضاء وساحة التعاون بين الناس داخل مجتمعاتهم ، وفي مختلف مجتمعات العالم حول قضاياهم المشتركة ، بدون أو بالتعاون مع الحكومات والهيئات الدولية الرسمية، وانتشرت الفكرة، عبر العالم كله، لتصبح الفكرة المهيمنة والقوية في السياسة والممارسة، وباتت مؤسسات المجتمع المدني ، تلعب أدوارا كبيرة، اقتصادية ، وسياسية، واجتماعية، متنوعة على المستويين المحلي والدولي والعالمي.

ثانيا : التطور التاريخي لمؤسسات المجتمع المدني في البلدان العربية والإسلامية
ليست مؤسسات المجتمع المدني، نبتة غريبة عن مجتمعنا العربي والإسلامي، فجذورها تمتد إلى بدايات الإسلام والتجربة النبوية في مكة والمدينة ، خلال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وتطوراتها ونموها من بعده وحتى يومنا هذا وإلى أن يشاء الله ، وقد ظهر في تاريخ المجتمعات المسلمة ، العديد من التنظيمات التطوعية ، والتي يمكن اعتبارها نواة لمؤسسات المجتمع المدني الإسلامي ، والتي توافقت مع واقع المجتمعات المسلمة في ذلك الزمان والمكان ، فقد كان بيت النبي صلى الله عليه وسلم وبيت الأرقم بن أبي الأرقم ، في مكة، نواة حقيقية لمؤسسات المجتمع المدني في التجربة الإسلامية، والتي تطورت فيما بعد متمثلة في مؤسسة النقباء الإثني عشر ومؤسسة مصعب بن عمير وعبد الله بن مسعود ، قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وبناء مؤسسة المسجد التي كانت مركز كل حياة المجتمع المسلم طيلة سنوات عشر قضاها فيها الرسول ، ومنه انبثقت كل مؤسسات مجتمع الإسلام الأول.

وكانت المساجد ، بالإضافة إلى الدور الديني التعبدي، ذات دور ثقافي وتعليمي وتربوية بما كانت تبثه من قيم أخلاقية ، بالإضافة لدورها الاجتماعي والسياسي ، كما لعبت الأوقاف ، التي كانت مؤسسات مستقلة أقامها الناس بعطائهم ، الدور الكبير في تلبية مختلف المتطلبات الاجتماعية والثقافية للمجتمع من المدارس ، والمكتبات، والمساجد، إلى الملاجئ والمستشفيات ، والفنادق، وغير ذلك من جوانب الحياة الأخرى، وكانت نقابات الحرف والصنائع والتجار، تدافع عن حقوقهم وتفض خلافاتهم ، وتنظم علاقتهم بالدولة عن طريق مشايخ الحرفة أو التجارة ، بالإضافة إلى نظام الحسبة ، الذي كان جزءا أصيلا من الفضاء العام في مجتمعاتنا الإسلامية ، يقاوم الظلم ويحقق العدل.

وقد انتكست حركة المجتمع المدني الإسلامي ، طوال النصف الثاني من القرن العشرين ، بسبب نزعة الدولة الوطنية المستقلة ، وميلها للاستئثار بكافة وظائف المجتمع، خاصة مع التخوفات التي رافقت بنائها نتيجة للتنازع السياسي بين أبناء الأمة مختلفي التوجهات الأيديولوجية، لكنها عادت ، مرة أخرى، بقوة إلى الحياة، مع فشل الدولة الوطنية الحديثة في تحقيق مهماتها التي قامت من أجلها، واندراجها في النظام العالمي الجديد، الذي مال مع نهاية السبعينيات إلى عدم الاعتراف بدور الدولة في المجتمع، وبدأت صيحة إعادة بناء أدوار الدولة ، التي كانت تعني انسحابها من الكثير من أدوارها ليقوم بها القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني.

ومع خضوع معظم دول مجتمعاتنا الإسلامية ، لوصفات البنك وصندوق النقد الدوليين في العقدين الأخيرين من القرن الماضي ، والذي ترافق مع علو نجم الاستبداد، وانسداد أفق الحكم الراشد والمشاركة الشعبية دفع بالكثيرين من الناشطين في المجال العام ، لمؤسسات المجتمع المدني بكافة صيغها لمحاولة إيجاد أعمال ومؤسسات يمكنها رفع وطأة الاستبداد وترسيخ أنواع من المشاركة الشعبية ، والحفاظ على تماسك المجتمعات، وتحقيق قدر من التكافل الاجتماعي الحقيقي بين أفرادها.

ثالثا: أدوار هيئات المجتمع المدني
تتنوع أدوار هيئات المجتمع المدني، من مجتمع لآخر، كما تتنوع أساليبها في تحقيق أغراضها.

أولا: التكافل الاجتماعي والمساندة الإنسانية وذلك من خلال مساعدة الفئات الفقيرة والمهمشة اجتماعيا ، ويبرز دور هيئات المجتمع المدني ، في مجال المساعدة الإنسانية في حالات الحروب الأهلية وعجز الأجهزة الحكومية عن مواجهة الآثار المترتبة عليها، وقد كانت الجمعيات الخيرية ، هي أول أشكال هيئات المجتمع المدني ظهورا في العالم العربي، وازدادت أهمية هذا الدور مع إتباع الحكومات سياسات التحرر الاقتصادي وتراجع مسؤوليتها في توفير الخدمات الاجتماعية ، مما أسفر عن تدهور في الأوضاع الحياتية لشرائح كبيرة من المواطنين.

ثانيا: التمكين وتنمية رأس المال الاجتماعي ، من خلال الدور التنموي لهيئات المجتمع المدني ، العاملة في حقول التعليم والصحة والتدريب ،والتي تنمي قدرات الأفراد ومهاراتهم على الدخول في سوق العمل.

ثالثا: تمثيل المصالح والتعبير عن مصالح الطبقات والمهن المختلفة عبر الوساطة بين الأفراد والمؤسسات الحكومية ، والتعبير عن مصالحهم ، بينما تقوم الأحزاب السياسية في مرحلة تالية بتجميع تلك المصالح وتحديد أولوياتها وصياغتها في سياسات عامة.

رابعا: نشر فضائل الثقافة المدنية والمواطنة وذلك هو الدور الثقافي والتنوير لهيئات المجتمع المدني التي تهدف إلى :تنمية الوعي ونشر المعرفة بقضايا الشأن العام، وبالحقوق والواجبات ،وتنمية قيم الثقافة المدنية ، كما توفر أنشطة هيئات المجتمع المدني ومبادراته ، مجالا عمليا للاهتمام بالشأن العام ، وانخراط المواطنين في أعمال جماعية بهدف تحقيق منافع عامة، ويتضمن ذلك :تدريب العناصر النشطة من الشباب ، وصقل قدراتهم وتأهيلهم لمهام القيادة، وتزويد المجال العام بفاعلين جدد ، ويتم هذا الدور من خلال تشجيع المواطنين على التسجيل في اللوائح الانتخابية والمشاركة في الانتخابات المرتقبة.

خامسا: الدفاع عن الحقوق المدنية وذلك من خلال مؤسسات المجتمع المدني، ذات الطابع الحقوقي والدفاعي، التي تهدف إلى حماية المواطن من عسف الدولة وجورها، والتأكد من التزام مؤسساتها بالقانون، ومن أمثلتها جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان : السياسية ، والاقتصادية ،والاجتماعية، أو التي تركز على قضايا محددة مثل: حماية حقوق الطفل، والمرأة ، وذوي الاحتياجات الخاصة ،والمساجين، وتلك المناهضة للتعذيب، وهي تمارس هذا الدور من خلال ثلاثة سبل: السعي للتأثير على توجهات السياسات العامة عن طريق الاتصال مع الجهات الحكومية، خلق رأي عام مؤيد للأفكار التي تدافع عنها ، من خلال أدوات الإعلام ، وإقامة المؤتمرات ، وعقد الندوات، وإلقاء المحاضرات ،ومن أمثلة ذلك دور النقابات في الدفاع عن الحقوق السياسية والاقتصادية للعمال ،ودور المنظمات الحقوقية في حماية حقوق الإنسان.

وختاما، فمؤسسات المجتمع المدني ، سواء في نموذجها الغربي أو الإسلامي ، أو غيرهما من النماذج الحضارية ، تعد محضنا طبيعيا للتنشئة الاجتماعية الشاملة لأفراد المجتمع ، والمجال المفتوح لحواراتهم، والفضاء الذي يناقشون فيه قضاياهم، ويقترحون المؤسسات والأفعال التي تهيىء سبل اجتماعهم ، وتحقق العدالة والإنصاف للجميع، وتحفظ عليهم هويتهم وقيمهم وقوة اجتماعهم ، وتمكنهم من اختيار حكومات تدير شئونهم العامة ، دون أن تجور على مجالهم العمومي أو تضيقه.
ـــــــــــــــــ
هوامش
(1): عماد الدين عشماوي، مؤسسات المجتمع المدني مفهومها ، وأهميتها .. دراسة تأصيلية ، الطبعة الأولى 2018، منتدى العلماء

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.