16 مايو 2025 / 12:05

أحكام الناس على الناسك  

المحجوب مزاوي

انزوى الناسك الصوفي في بيته وخلوته الروحية، يتأمل ويدعو ويذكر الخالق، ويقرأ آيات من الذكر الحكيم، ويصوم ويقوم الليل. ويسجل في دفتره ما يتلقاه بواسطة الكشف والمشاهدة. ويراوح بين تدبير شؤون أسرته الصغيرة وبين الخلوة.

ولبث كذلك لمدة سنوات وعقود. فانقسم الناس في شأنه إلى طائفتين:

1/ طائفة ترى أنه سلبي ورجعي وأنه بعيد عن قيم الحداثة والعقلانية والتمدن والتقدم. يعيش خارج التاريخ، ويكرس الجهل والخرافة والدروشة والتواكل والانهزامية، ويحاول تسلية نفسه بالتأمل والخلوة، ويختبئ في المقدس (المزعوم) من أجل إخفاء هزيمته الاقتصادية والاجتماعية والحضارية، وعقده النفسية وعجزه عن الانخراط في العمل الاجتماعي والتنموي والسياسي البناء.

وترى أن كل ما يفعله لا أثر له في الحياة والواقع باستثناء إعطائه نوعا من العزاء، والطمأنة المخادعة والأمان الزائف. وأنه كان واجبا عليه أن ينزل إلى معترك الحياة والمجتمع من أجل النضال والتغيير.

2/ وطائفة أخرى ترى أنه ليس سلبيا ولا رجعيا، وأنه ليس منزويا على التحقيق بما أنه متصل روحيا وجسديا بطاقات الآخرين. وأنه يعمل بـ”طريقة أخرى” لتغيير الواقع لها أهلها والمهندسون العارفون بتقنياتها.

وترى أنه يصنع بتطبيقاته أشكالا فكرية Des formes pensées، ويقوم بتركيز وتكثيف طاقات شفافة سيكون لها انعكاس إيجابي على الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي (تسمى بالإيغروغورات les égrégores)، وأنه ليس خارج التاريخ كما تزعم الطائفة الأولى، وإنما هو في قلب التاريخ وبؤرته الرئيسية. فهو على اتصال مع الطاقات اللامرئية التي تحدد مسار السياسة والاقتصاد والاجتماع وأمور المعاش. كما أن عمله ينضاف إلى أعمال أشخاص منعزلين مثله، يتواصلون عن بعد وتتحد أعمالهم في العالم الباطني اللامرئي لتخرج إلى الظاهر – بعد ذلك – في صيغة أحداث وأحوال وظروف ومصادفات ومبادرات وحلول.

وترى أنه ليس هاربا ولا منهزما، وأنه على العكس من ذلك يحمل هموم الناس والأمة، والإنسانية جمعاء، ويساهم بطريقته الخاصة ذات الفعالية الخاصة (التي تخفى عن عموم الناس) في تغيير الواقع وتحقيق التقدم والرخاء والازدهار والسلم والأمان والاستقرار.

وأخيرا ترى أنه قد يتلقى بواسطة تأملاته وكشوفه ومشاهداته أفكارا ورؤى وحلولا تطبيقية، يمكن أن تفيد في حل المشاكل الظاهرية واتخاذ القرارات الصائبة.

أنتَ مع أي طائفة من هاتين الطائفتين؟

أم أن كل واحدة منهما أصابتْ بشكل جزئي؟

 

**********************************************

جوابي الشخصي عن السؤال:

طرحتُ في بوست سابق حالة رجل ذي كشف ومشاهدات، يشتغل باطنيا في خلوته من أجل عبادة الله وتغيير الواقع وإصلاح الأمور.

قلت أن للناس في شأنه رأيين: رأيا يقول إنه خارج التاريخ ومتخلف ومتقاعس عن النضال والمساهمة في التنمية والتغيير الاجتماعي والسياسي. ورأيا آخر يقول إنه ليس هاربا وليس خارج التاريخ بل يعمل بطريقة مختلفة لها قدرة هي الأخرى على صناعة “الأشكال الفكرية” و”الإيغريغورات” التي ستساهم في تغيير الواقع، لكن العقلانيين والعلمويين les scientistes وكثيرا من الأشخاص العاديين لا يعرفون شيئا عنها. لذا فهم يبخسون عمله رغم أنه يفرز قوى باطنية بإمكانها تحقيق ما يحققه الآخرون بواسطة العمل الملموس والنضال الفكري والاجتماعي والسياسي. وسألت القراء الأعزاء عن موقفهم الشخصي إزاء الرأيين.

فجاءت أجوبتهم مختلفة بطبيعة الحال لأن لكل واحد تصوره الخاص حول الموضوع، وله تجارب وقراءات ساهمت في صياغة وتحديد موقفه.

وهذا جوابي الشخصي على مضمون البوست:

********************************************

أنا أرى أن الناسك، لكي يعيش نسكه وعزلته بهذا الشكل فلا بد أن يكون عنده مال موروث أو مكتسب ومجمّع، يكفيه قوت يومه وقوت أطفاله وإلا فعليه أن يعمل ويخرج إلى معترك الحياة. ولكن دعونا نفترض الآن أن الرجل لديه أموال موروثة وكافية، واختار أن يعيش حياة التأمل.

أولا ليس من الضروري أن يصل إلى الكشف والمشاهدة. فقد يكون مجرد مطبق أو متدين معتكف عادي كسائر الناس البسطاء. وكم من شخص سعى إلى الكشف والمشاهدة ولم يصلْ قط إلى هدفه رغم قيامه بتطبيقات دامت سنوات وعقودا.

ولكن لو افترضنا أنه بالغٌ (واصلٌ)، وأن له مشاهدات كما جاء في البوست وأنه متصل بشكل واع بقوى لا مرئية فإن السؤال الذي يطرح نفسه كالتالي: هل سيكون لما يفعله أثر في الواقع أم لا؟

أنا أقول: إنْ كان لدى المرء إيمان قوي وإخلاص وقوة عقلية تركيزية، وكان يدعو الله، فإنه سيؤثر في الواقع، حتى ولو كان مكتفيا بالدعاء (ودون تطبيق باطني ” ودون بلوغ إلى كشف أو مشاهدة. فالتطبيق والخلوة والكشف والمشاهدة كلها من الكماليات.

أما إنْ توصّلَ إلى الكشف والمشاهدة الواعية وكان يعرف القوى الباطنية (الخفية) وأنواعها وخصائصها ويتصرف فيها كما يتصرف المهندس في الطاقات والمواد وقطع الغيار، وكما يتصرف الرياضي والفيزيائي في المعادلات، وكما يتصرف الكيميائي في السوائل والغازات والتركيبات، فإنه بالتأكيد سيكون مؤثرا في الواقع ولو عن بعد، وهذا شيء أكيد يشهد به أهل العلم.

بل إنه يوجد بين الصلحاء من دعا على قبيلة أو منطقة، فانطبق عليها مضمون الدعاء لسنوات وعقود. كالدعاء بالجفاف أو المرض أو الدعاء بموفور الصحة والعلم والرخاء، وهذه أمور مذكورة في كتب التاريخ والسير والتراجم الخ.

غير أن ما لم أشرْ إليه في البوست هو مسألة تضارب القوى. إذ أن المتصلين بالباطن البالغين إلى الكشف والمشاهدة، لا يتصلون بنفس “الجهة الباطنية” التي تمد بالطاقة والمعرفة. وبالتالي فإن قواهم المستمدة من التطبيق لا تنسجم فيما بينها.

فإذا كان المتدين يوحد الله تعالى ويعبده ولا يشرك به شيئا، ويتوجه إليه بإيمان وإخلاص ويرجو الخير للجميع، ويرجو أن يمن بالشفاء على الجميع وأن ينزل الغيث ويصلح الأمور، ويرسي دعائم السلام والأمن في العالم، فإن الساحر يعمل بعكس ذلك – فيسعى إلى إيذاء الناس وتحقيق مآربه وأهدافه الشخصية ولو على حساب القوانين الإلهية، ويتمنى الحروب والقلاقل والكوارث، لأن الشياطين يفرحون لها.

وإذا كان المتدين المتصل بالعالم اللامرئي يستخدم في اتصاله قوى النور النابعة من الأماكن المقدسة كالكعبة والقدس، فإن الساحر الذي توصل إلى الكشف والمشاهدة، يتعامل مع قوى الظلمات ويكره الناس وينتقم منهم ويستخدم الطلاسم والدم والبخور الخبيث الكريه الرائحة ويستعين بالجن والشياطين، ويهيج الناس إلى المعاصي، ويسعى إلى السلطة بغير حق، ويركز ذهنه على الخصوم من أجل تدميرهم باطنيا وبالتالي ظاهريا، ويسعد بالجفاف واستتباب الشرور والآفات وانقطاع الأرحام، وضياع الحقوق، وانتشار الحزن والتوتر، وضياع الأموال.

فمثل هذا الشخص ستتضارب قواه باطنيا- بطبيعة الحال – مع قوى المتدين الذي يرجو الخير للناس ويتصل بقوى النور ويهفو إلى الإصلاح وتحقيق الوفرة للجميع.

بل إن العاملين في معسكر الظلمات والشر والسحر ليست مبادئهم ولا قواهم منسجمة فيما بينها. إذْ أن الظلمات ليست معسكرا واحدا وإنما هي معسكرات متنوعة ذات تطبيقات ومعتقدات وأهداف مختلفة لكنها كلها تواجه معسكر النور في النهاية. وهذا هو أكبر قاسم مشترك بينها في حقيقة الأمر.

وقد تعتبر هذه المعسكرات المنحرفة نفسَها ” نورانية ” من أجل طمس حقيقة المعسكر النوراني الحقيقي الذي – كثيرا ما يبقى صامتا وفي عزلة فلا يعلن عن نفسه ولا يمارس دعاية ولا دعوة.

فإذا كثر المتصلون بالنور والمؤمنون والطيبون في مجتمع ما فإن قوى النور تتدخل -تلقائيا – في الواقع من أجل إصلاحه. فتظهر علامات الخير والصلاح والانفراج والتيسير والرزق الوفير.

أما إنْ كثر الأشرار والسحرة والمطبقون للطرق الظلمانية فإن الواقع يسير في اتجاه الفساد والشر. فتنتشر الأمراض والجرائم والحروب ويكثر الكذب والخداع والمكر والغدر والخيانة. وهذا كله مما ينعكس سلبيا على الاقتصاد والاجتماع والسياسة والإدارة وعمل والمؤسسات.

إذاً فهناك ” ميزانُ قوىً” في الباطن، تماما كما أن هناك ميزان قوى في الظاهر، كميزان القوى ” السياسي”، و”الاستراتيجي ” وميزان القوى “الاقتصادي” الخ. فالله تعالى لم يَعِدِ المؤمنين بأنْ ينتصر النور في كل جولة. لكنه وعدهم بأن ينتصر في النهاية.

لذا فقد قتل كثير من الأنبياء والصلحاء ظلما وعدوانا. وقتل كثير من الحكماء والناصحين لأممهم عقابا لهم على التفكير السديد والدعوة إلى الخير والصلاح والتقوى.

غير أن ما يميز عصرنا الحالي هو إعطاء الانطلاقة لقوى النور من جديد، لكي تشتغل بطرق قد تكون مبهمة وغير مفهومة في البداية. فمعسكر النور كثيرا ما يخلط الأوراق من أجل إعادة ترتيبها.

وكثيرا ما يستخدم معسكر النور طاقة “الظلمات” ليجعلها تحطم نفسها بنفسها، أو يتصرف بطريقة تشبه تصرفات الخضر حين رافقه موسى عليهما السلام. وهذا من العلوم التي يصعب فهمها بغير تلقين روحي (باطني) initiation ésotérique أو إلهام رباني inspiration divine.

إذا فقد ينتصر النور تارة وتنتصر الظلمات تارة أخرى على طول التاريخ، وبإذن الله. وهذا ما يسمى باطنيا “” لزوم التطوير”.

ذلك أن الظلمات كلما حققت إنجازا مهما، كلما حفّزت معسكر النور فأتى بإنجاز مضاد يتجاوز إنجازها. وكأن “الظلمات أرنب سباق” بالنسبة للنور يساعده على تطوير لياقته البدنية واستراتيجيته ومهاراته في مجال الصراع.

ومثال ذلك أن سحرة فرعون ألقوا حبالهم وعصيهم أمام النبي موسى عليه السلام فأصبحت ثعابين من باب التخييل فقط. أما عصا موسى التي ألقاها بعد ذلك، فقد انقلبت إلى أفعى حقيقية. ولم يكن ذلك مجرد تخييل أو توهيم. وهذا مما أعجز السحرة فآمنوا، لأنهم كانوا يعرفون سقف الإمكانيات السحرية التخييلية، وأدركوا أن ما أتى به موسى يتجاوز ذلك. وهو مما يثبت الفرق الشاسع بين المعجزة والسحر).

أجلْ. قد تنتصر الظلمات حين تكون طرقها فعالة، وحين يكون متبعوها وأنصارها كثرًا، وحين يكون رصيد النور في الباطن ضعيفا وحين يكون المؤمنون والطيبون غافلين وسطحيين في تفكيرهم وتكون معتقداتهم أو تطبيقاتهم مشتملة على تحريف أو انحراف لا يشعرون بوجوده.

فطاقة الظلمات ذكية جدا (حتى ولو كانت تستخدم أشخاصا أغبياء أو مغفلين أو جاهلين وتتلاعب بهم وتتحكم في تصرفاتهم، وتوجههم ضد النور ومكاسبه وعمّاله وفرسانه).

وطاقة الظلمات لا يدبّر شؤونَها البشر وحسبُ، بل يتدخل فيها الجن والشياطين والدجال وأعوانه. وهي طاقة تتمتع بذكاء خارق يتجاوز بكثير ذكاء الإنسان العادي. ولا يجزئ معها أن يتعلم الإنسان الفلسفة والهندسة والكيمياء والرياضيات والعلوم الإنسانية.

فالصراع معها يتطلب الإلمام بعلم آخر وهو العلم الباطني.

أعود إلى موقف الطائفة الأولى. فأقول إنه موقف مصيب في نقطة، ومخطئ في نقطة أخرى.

فهو مصيب حين يقول بضرورة النزول إلى الواقع، ومخالطة الناس، والمساهمة في التغيير الإيجابي والدفاع عن الحق والعدل والعدالة الاجتماعية وحقوق الفقراء والمستضعفين.. إلخ، أي حين يدعو إلى النضال الظاهري، والأخذ بالأسباب الظاهرية في كل ما يتعلق بشؤون الإٌنسان.

لكنه مخطئ حين يرى أن ما يفعله الناسك المتصل بالباطن لا أثر له إطلاقا في الواقع.

فالصحيح أن “عمل” الناسك يجري بطريقة أخرى مختلفة عن الأعمال التي ألفنا أن نسميها كذلك. ولكن شريطة أ ن يتوفر المطبق على إيمان صادق أو قوة باطنية حقيقية. فليس كل ذي خلوة متمكنا من القوة والطاقة المؤثرة، وليس عند كل ذي خلوة أهداف مقبولة عند الله.

ولو تأملنا مساعي الناس لوجدنا أن هناك من يعمل أو يشتغل بيده

ومن يعمل بكلامه،

ومن يعمل برأيه أو بقراره،

ومن يعمل بعقله، ونشاطه الذهني

ومن يعمل بواسطة نيته،

ومن يعمل بواسطة قواه الروحية (الباطنية). أي بالتأمل والتركيز والدعاء والاتصال الباطني، ونشاط الجسم الثاني اللامرئي الموجود في العالم الباطني.

وكلهم عاملون. ولعملهم أثر بالتأكيد.

فموقف الطائفة الثانية مصيب في نقطة معينة وهي:

أن العمل الباطني البناء يغير الواقع ومجرى التاريخ، وقد تحدث المؤرخ العالمي أرنولد توينبي Arnold Toynbee عن التاريخ بوصفه “انعكاسا لرؤى الأفذاذ”، فاقترب بذلك من الفهم الباطني للأمور.

لم تتحدث الطائفة الثانية عن التغيير بواسطة العمل الظاهري. لكنه وارد جدا، وهي لا تنفيه، بل لا ينفيه إلا جاهل، غير أنه في نهاية المطاف يتحول إلى عملة باطنية (وهي ما يسمى بالأجر والثواب) إضافة إلى ما ينتج عنه من تغير ملموس لا ينكره عاقل.

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عمل ظاهري وباطني في نفس الوقت. فقد يكون النهي عن المنكر باليد أو اللسان فيعتبر ظاهريا وقد يكون بالقلب فيعتبر باطنيا. لأن صاحبه يسجل نقطة في الباطن حتى ولو ظل صامتا لا يعلم بنيته أحد. والصدقة تدفع البلاء علما بأن البلاء أمر قد يكون ظاهريا وقد يكون باطنيا.

وكثيرا ما يسقط العقلانيون والماديون والحداثيون في أخطاء الطائفة الأولى، فلا يعطون قيمة إلا للأعمال الظاهرية الملموسة، والمبادرات الفعلية، والإصلاحات المادية، ويحتقرون العمل الديني والروحي والتأملي، ويظنون أنه لا يستطيع التأثير الفعلي الملموس على الأحداث والظروف الظاهرية.

ولا شك أن للعمل الظاهري (الخارجي) أثرا في التغيير. ولكن إذا لم تسنده قوة باطنية فإنه يتبخر ويتلاشى، ويخمد تأثيره. وهذا ما لا يعيه أصحاب الموقف الأول (حيث ينقصهم الوعي الروحي والتكوين الباطني والعلم بالتأثيرات الخفية للأوضاع والرموز والأفكار والنوايا).

وقد كان القدماء يستعينون بالمنجمين والوسطاء الروحانيين والصوفية أثناء الحروب والهجرات والتحركات الكبرى ويستشيرونهم عندما يرغبون في اتخاذ قرارات مصيرية صائبة، لأن السياسة تنطوي على أبعاد مجهولة كثيرة وأسباب ومتغيرات يرغب الإنسان في ضبطها والسيطرة عليها حتى لا يفاجأ بشيء لا يسرّه.

وفي المقابل، كثيرا ما يسقط الروحانيون والمثاليون وبعض المتدينين في فخ الموقف الثاني. وذلك حين يكتفون بالتدين الشخصي، والصلاح والأخلاق، ولا يفكرون في الواقع وإصلاحه.

لذا فقد عِيب على كثير من الروحانيين والصوفية أنهم يكرسون الجمود والخرافة والتخلف الاقتصادي والاجتماعي ولا يطالبون بتغيير الواقع، ويتحدثون عن فضائل الفقر والحاجة والحزن والانكسار والعزلة والهروب من المخلوق إلى الخالق، والانزواء في الكهوف، ويُشِيدُون بثقافة الجوع الحرمان والبكاء، مما يجعل السياسة الماكرة تستغل هذه القيم (رغم أنها واردة وليست باطلا) وتركب عليها لتضييع الحقوق وأكل أموال الناس بالباطل والإبقاء على التخلف والجهل والمرض واستغلال الشعوب.

*****************************************

فما هو الموقف السليم إذا؟

إنه الجمع بين حسنات كل من الطائفتين: أي الاشتغال على الواقع، واستمداد الطاقة الروحية (الباطنية)، أو بلغة أخرى: التغيير الظاهري والتغيير الباطني. وإذا تنوعت أعمال الناس فبها ونعمتْ. فــ”كل يعمل على شاكلته” ولكل عامل أجر ولكل مجتهد نصيب في الدنيا والآخرة، والله هو الحكم بين الناس في النهاية، وهو الذي يحكم بين الناس فيما هم فيه مختلفون.

غير أن “التغيير الحقيقي” والإيجابي يتطلب “العلم” حتى لا يكون عشوائيا وينقلب إلى فوضى، أو صراع تربح فيه الظلمات.

فالحل يوجد في “العلم” و”التوعية”. ولكن أي علم نقصد هنا؟ فالعلوم كثيرة وقد تعلمها الناس ولم يصلوا إلى شيء. فهناك من درس الفيزياء والرياضيات والفقه والقانون والفلسفة والاقتصاد وعلوم إلإدارة والتدبير لكنه يسرق ويكذب ويتخذ قرارات غير سديدة تضر المجتمع، ولا يقضي مصالح الناس بل ينشغل بتوجيه ضربات إلى خصومه السياسيين، ويصرف وقته في اللهو والملذات. فأي علم نقصد إذا؟

نقصد “العلم الروحي”، و”علوم الحكمة “، التي يحتاج إليها الأصوليون والعلمانيون، والماديون والمثاليون، على حد سواء. ويحتاج إليها “اليمين واليسار السياسيان”، والمحافظون والمجددون. لأنها ضرورية لفهم ما يقع في الدنيا وفي العالم.

فإذا فهمنا ما يقع. اتضحت الأمور، وسهل علينا التغيير.

وإذا لم نفهم ما يقع. فسيصعب علينا التغيير. وقد يؤدي إلى الأسوأ، وسيكون المصلحون وأصحاب القرار كمن يضرب عشوائيا على ملامس حاسوب، وهو يرغب في كتابة نص لشكسبير. وكلما فشل في مسعاه كلما ازداد عنفا وكسر الملامس بضربات كفه القوية.

إن مشاكل المجتمع تشبه آلام الظهر. حيث لا يوجد “الخلل” بالضرورة حيث يوجد “الألم “.

وميزة علوم الحكمة أنها تعلمنا كيف نرى الخلل في “مكان آخر” غير المكان الذي تتواجد فيه “الأعراض”.

وإن قال المتدين – على سبيل الاحتجاج والرد -” إن كل هذه الأمور بدعة وإن المهم هو اتباع الكتاب والسنة ولا حاجة لنا بأي شيء آخر”. قلنا نعم، على الرأس والعين، ولكن هل اهتم الناس بالقرآن حقا؟ فليتدارس المؤمن القرآن ولينظر إلى ما قاله الله تعالى عن القوانين والسنن والطبيعة والكون وخواص الأشياء والرموز، وليفك الألغاز الموجودة في القرآن. ولينظر في سبب الاختلاف بين المسلمين في فهم الكتاب والسنة وفي درجة الأخذ بكل منهما.

وليعلم أنه إن شاء أن يكون بسيطا ويفكر بعقلية العجائز الأميات ويحصر عقله في أموره الشخصية (على سبيل الاستقامة وعدم الدخول فيما لا يعني)، فإن معسكر السحر (المنتشر في العالم) ليس ساكنا ولا مسالما. ففيه أشخاص خبراء يعرفون كيف يحاربون النور وكيف يسيطرون على الظاهرة الدينية، وكيف تتسلل قراراتهم إلى قلب المعسكر الديني دون أن يدرك المؤمنون حقيقة ما يحدث.

ذلك أن الظلمات حين تتقوى ويضعف النور، فإن بإمكانها أن تتسلل إلى فضاء الدين وتدخل إليه عناصر تبدو محايدة، لكنها عناصر (تخدم المعسكر الآخر خفية) ولا تسمح بتطوير النور.

ألم تتسلل عناصر سحرية في الماضي إلى الدين، فكتب الناس القرآن بالدم، وصرعوا المرضى بالدخان والطلاسم، ووشموا آيات قرآنية على الجسد، وخلطوا بين الآيات ووضعوها في الجداول، وقرؤوا القرآن بالتنكيس، وذبحوا حيوانات وقرابين على عتبات المنازل الجديدة تقربا للجن، ونشروا “البرهتية” و”الجلجلوتية”، و”دعوة السباسب الكبرى” والأشعار التوسلية والدعوات المشبوهة والتعازيم التي تنطوي على أسماء الجن والشياطين وأسماء الله المحرفة، ووضعوا في كتبهم رموزا سحرية سموها “اسم الله الأعظم” ثم اعتبروا كل ذلك من العلوم والتطبيقات الدينية، ومارسوا التغيير الخفي والتحريف المستور، واستدلوا على مشروعية أعمالهم وتطبيقاتهم بما تعطيه من نتائج وتأثيرات ملموسة. فعشش السحر في فضاء الدين ومارس تأثيره السلبي مع مرور الزمن، وجاء بالتخلف والجمود والأمراض الاجتماعية والحضارية؟

لذا وجب الوعي بأن المتدين، يبقى في مواجهة قوى السحر شاء أم أبى. وإن لم يعرف ذلك، فالسحرة يعرفونه جيدا. وإن قال إن السحر غير موجود وغيرُ فعّالٍ خالفَ ظاهر القرآن، وسهّل باطنيا على “الطرف المعاكس” أن يسيطر عليه.

فمن الصعب على إنسان أمّي ومظلوم أن يتغلب في المحاكم على خصم ظالم وضليع في مجال القانون والحيل القانونية. وكذلك من الصعب على مؤمن بسيط أن يتغلب على ساحر ضليع في مجال القوى المؤثرة وعارف بالقوانين الكونية التي تحكم العالم اللامرئي، ما لم يشأ الله العكس فيتدخل لنصرته، لسبب آخر وجيه علمه عند الله: “وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله “(249.البقرة).

لكن هذا لا ينفي الأصل وهو كالتالي: “أن القانون هو القانون” و”أن الأخذ بالأسباب ضروري”، وأن الإعداد للمواجهة ضروري أيضا استجابة لقوله تعالى: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل”. (الأنفال، 60).

وقد ذكر الله تعالى في القرآن الأسباب وضرورة الأخذ بها لتحقيق الأهداف المنشودة تماما كما اتبع ذو القرنين عليه السلام أسبابا للبلوغ إلى مطلع الشمس ومغربها. علما بأن إرادة الله ومشيئته فوق الأسباب كلها، وهذا مما لا ينكره مؤمن بأي حال من الأحوال.

 

رابط صفحة الكاتب على فيسبوك:

https://www.facebook.com/elmahjoub.mazaoui