5 يونيو 2025 / 10:25

أبو القاسم حاج حمد وحُلم “العالمية الإسلامية الثانية”

منتصر حمادة

أبو القاسم حاج حمد مفكر سوداني، وأحد أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، عمل مستشارا علميا لمؤسسة “المعهد العالمي للفكر الإسلامي” في واشنطن، والتي كانت تراهن على ما اصطلح عليه حينها “أسلمة المعرفة”، بمشاركة العديد من المفكرين، قبل أن تأخذ العديد من الأسماء مسافة من المشروع، ونذكر منهم أبو القاسم حاج حمد أو عبد الوهاب المسيري.

في غضون 1982، سوف يؤسس حاج حمد “مركز الإنماء الثقافي”، حيث سيقيم أول معارض الكتاب العربي المعاصر بالتعاون مع العديد من دور النشر اللبنانية، كما أسّس في قبرص “دار الدينونة” لإعداد موسوعة القرآن المنهجية والمعرفية، ومجلة “الاتجاه” التي تعنى بشؤون الفكر والاستراتيجيا في نطاق الوسط العربي والجوار الجغرافي.

ساهمت أعمال الرجل، وخاصة عمله الهام الذي يحمل عنوان “العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة” (1979)، في خلخلة الأفكار التي كانت متداولة عند جيل من أجيال الحركات الإسلامية، على غرار التأثير الذي قام به خالص جلبي وجودت سعيد، وليس صدفة أن مضامين هذه الكتاب، وأعمال أخرى لمفكرين آخرين كما سلف الذكر، كانت مقدمة أو سببا نظريا لكي يتحرر بعض هؤلاء من أتباع الإيديولوجية المعنية، في نسختها الدعوية أو السياسية، كما عاينا ذلك على سبيل المثال في الحالة المغربية، حيث تأثر بعض أبناء “تيار أكادير” الإسلامي الحركي سابقا، بأعمال الرجل، وساعدوا أنفسهم في التحرر النهائي من الخطاب الإسلامي الحركي، حتى لو كان ذلك بشكل نسبي عند البعض، وإن كانت أحداث 2011 امتحانا كشف طبيعة مراجعات هذا التيار.

مما يُلاحظ في المسار العلمي للراحل، أنه درس بداية في الكتّاب والتحق بمدرسة إعدادية في بورتسودان وحصل على دراسته الثانوية من مدرسة في عطبرة، أكمل تعليمه في كلية الأحفاد بأم درمان، ولم يحز على أي شهادة جامعية، ولكن في نهاية 1963 بدأ في التثقيف الذاتي أو قل العصامي، ولذلك، مما يروى عنه، أنه وجد نفسه عضوا كبيرا من المجامع العلمية ومستشارا للمعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن، وعضوا مشاركا وباحثا في العديد من المؤتمرات، ولكن كان يسحب كلمة دكتور من قائمة المشاركين من الورقة المطبوعة ليرسلها لهم ويقول لهم إنه لا يملك شهادة جامعية.

كما حاضر الفقيد في العديد من الجامعات العربية والإسلامية، وكانت لديه نشاطات مكثفة بين شيكاغو وواشنطن في إعداد محاضرات في العديد من المسائل الفلسفية الشائكة، وذات الصلة بما يُصطلح عليه الفكر الإسلامي.

نذكر من أهم أعماله، الكتاب سالف الذكر والصادر في عدة طبعات، “منهجية القرآن المعرفية”، “الحاكمية”، “القرآن والمتغيرات الاجتماعية”، “تشريعات العائلة في الإسلام”، “جذور المأزق الأصولي”، “حرية الإنسان في الإسلام”، “حركات الغلوّ الديني في الخليج العربي: جذور النشأة والتكوين والآفاق المستقبليّة”، وقد تمت إعادة إصدار بعض هذه الأعمال عن دار الساقي.

في سياق اشتغاله على تحرير أهم أعماله، أي كتاب “العالمية الإسلامية الثانية”، انعزل في إحدى جبال لبنان، وكانت هذه مرحلة أشبه بمرحلة “عصف ذهني” ذاتي، أنتجت لنا قيمة علمية عربية وإسلامية، حيث سيشتغل حينها على قراءة أمهات النصوص الفلسفية والصوفية، وتلت المرحلة إصداره مجموعة من الأعمال، بعد “العالمية الثانية”، منها “جدلية الغيب والإنسان، والطبيعة” وأعمال أخرى.

لاحظ أحد الباحثين أنه “رغم المحاولات التي بدلها الحاج حمد على مستوى التأسيس النظري لمفهوم إسلامي كوني للإنسان انطلاقا من رؤيته الخاصة للمرجعية القرآنية التي ينطلق منها، فإنه تأويليته لم تذهب بعيدا في التأسيس لإنسان كوني يتعالى على كل الفوارق والمحددات العرقية والإثنية والدينية، بحيث ضاقت عالمية الحاج حمد على نفسها، مما جعلها لا ترقى حقا إلى مستوى العالمية، بحيث لم يستثمر تحليلاته للمرحلة الآدمية، المتناثرة في مواضع مختلفة من كتابه، وما فيها من إشارات مهمة”.

أطروحات الرجل جعلته يتحول فجأة في “علماني جديد” حسب خطاب الإسلاموية في نسختها السودانية والعربية بشكل عام، لأنه انتصر لشعار “السلم كافة”، مفادها أن الدين الخاتم مؤسَّس على قاعدة عامة، تدعو وتحث على سلام دائم، يحكم علاقات المجتمعات والدول البينية، لأنه أساساً دين سلام، وليس دين غزو وحروب، مستشهدا بمضامين الآية القرآنية الكريمة التي جاء فيها: “الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من المساء ماء”، وهي آية تخول لأي قارئ ينطلق من الفطرة السليمة، أن يطرح السؤال التالي: كيف يفكر في قتل حشرة، أو يقطف زهرة، فالأحرى قتل الناس، وسبي النساء، كما يحدث اليوم والأمس باسم الدين. على الأقل في تعامل المسلمين مع الغير، أثناء فترة السلم، لأن الأمر مختلف بالطبع كما هو معلوم، في فترة الغزو الاستعماري، بدليل إنه في الحالة العربية على سبيل المثال، حتى الطرق الصوفية انخرطت في مواجهة المستعمر.

لعل أحداث السودان الأخيرة، في ربيع 2019 بداية، وما نعاينه منذ 2023، فرصة لإعادة النظر في مجموعة أعلام فكرية سودانية أصلية ووطنية أيضا، ومن هنا أهمية تسليط الضوء على أهمية ونوعية أعمال هذه الأعلام، والتي لا تحظى بمتابعات بحثية نوعية وعديدة، ومن باب الإنصاف والاعتراف، يجب التنويه بما اشتغل عليه الباحث المغربي عبد العزيز راجل، الذي يُعتبر، في الساحة المغربية على الأقل، وربما الساحة المغاربية، أهم باحث متخصص في أعمال أبو القاسم حاج حمد، وهو للتذكير رئيس “مركز أفكار”، وهو مركز بهثي مغربي.