محمد عسيلة، أستاذ باحث في الهجرة والدين والثقافة
جل إن لم أقل كل الأسر التي لها دخل شهري من عمل ولايتقاضون مساعدات اجتماعية، يتحسسون رؤوسهم هذه الأيام بسبب فاتورات الغاز والكهرباء السنوية التي تُلقى في صناديق بريدهم الخاص. فلقد تضاعفت الى ثلاث مرات تقريبا فاتورات الطاقة والاستهلاك الكهربائي والغازي الخاص بالتدفئة والانارة والاستهلاك اليومي، مما أثر وسيؤثر لاحقا على السلم والسلام الاجتماعي. فكثير من المواطنين الذين يعيشون على القليل ولكن سيتعين عليهم دفع المزيد من المال في هذا الشتاء ، يشعرون باليأس والغضب.
إن جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا يبقيان الاقتصاد في قبضة خانقة: التضخم والارتفاع الشديد في تكاليف الطاقة والغذاء يخيفان المواطنين في الوقت الحالي.
إن هاشتاج Twitter #IchBinArmutsBetreff ، الذي يتحدث الناس بموجبه عن مشكلتهم في القدرة على تمويل الإيجار وفاتورة الهاتف والتسوق الأسبوعي ، دليل على ذلك.
يقع معظم استهلاك الطاقة المباشر للأسر الخاصة في القطاع السكني. هناك ، على سبيل المثال ، يتم استخدام الغاز والنفط للتدفئة والماء الساخن ، وكذلك الكهرباء للإضاءة ، والأجهزة الكهربائية ، وبشكل متزايد ، في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
الشتاء والبرد المرافق له والصقيع – وارتفاع الاسعار، كل هذا سيؤدي الى فوضى داخلية وبرودة في العلاقات الانسانية وتشويش على النسيج الاجتماعي ويقوض صرح و مفهوم الدولة الاجتماعية في ألمانيا كرؤية وفلسفة ونظرة وتوجه سياسي يعقد عليه المواطنون آمالا كبيرة.
فالذين لهم ما يكفي من المال، يمكنهم تغطية نفقاتهم ولو لفترة، لكن الأسر ذات الدخل المنخفض ستتضرر بشدة. فهل بهذا نواجه «شتاء الغضب»؟ أم أن “تجميد التضامن” يشكل الخطاب الحالي المفروض على الدولة والمجتمع؟ ما هي الحالة المزاجية على الشبكات الاجتماعية؟
إن العدالة الاجتماعية تتعرض في الوقت الحالي الى المساءلة خصوصا في أوقات الندرة وتصبح تحت المحك.
في اعتقاد وتصور الكثير من الخبراء والمختصين أن الأزمة لن تنتهي بعد شتاء واحد ، فلدينا مشكلة عالمية أساسية وقد عرفناها منذ فترة طويلة. سيبقينا نقص الموارد وتغير المناخ وأزمة الغذاء العالمية مشغولين لسنوات عديدة مقبلة ، ومعها مسألة التوزيع العادل للسلع النادرة والمساعدات العينية والمالية. كثير من الألمان على استعداد لقبول القيود بحكم ولائهم اللامشروط للدولة الاجتماعية وايمانهم القوي بكفاءتهم ومكانتهم الدولية، وهذا اقتناع بدأ يخف الايمان به قبل الحرب الروسية- الأوكرانية ، وهم يرون رغم كل هذا أن حماية المناخ أو “العولمة الاجتماعية العادلة” كما يسمونها فرض عين وليس فرض كفاية.
لكن حماة الطبيعة والموارد و دعاة الحفاظ على الموارد والتوازن البيئي يرون منذ عقود من أننا نستخدم موارد أكثر مما يمكن أن يجدده الكوكب ويرون أنه يمكن أن تكون أزمة الطاقة الحالية والحاجة إلى الادخار فرصة لإعادة النظر في الاستهلاك وترشيده. وهناك من بدأ يستشعر الأزمة التي اخترقت نفسيته وأصابته بالضيق وبدأ يبحث عن الفرحة والسعادة و الحياة المقتصدة قي الصداقات والراحة المُستجلبة من الروحانيات والدين. يبدو أن هذه الأزمة قد أعادت الدين رواجه وحضوره وقيمته ووظيفته الروحية لدى العديد من المواطنين والأسر.
لكن هل استكشاف الدين مرة أخرى سيقوي الاستعداد لقبول الندرة الوجودية الحقيقية بعد عقود من الوفرة في الموارد والتنافر العلائقي المجتمعي؟ كيف يمكن لمجتمع ديمقراطي أن يتعامل مع النقص الذي لم نشهده منذ الحرب العالمية الثانية؟ كيف يمكننا توزيع المصاعب بشكل عادل من أجل الحفاظ على السلام الاجتماعي؟ وما هي الظروف التي يجب أن نهيئها من أجل تعزيز مرونة مجتمعنا الديمقراطي في التعامل مع الأزمة؟
كلها أسئلة تبقى مطروحة وتفرض وجودها على المجتمع برمته.
كما نتساءل عن كيفية التعامل مع ارتفاع الأسعار وآثار ذلك على نفسية الافراد والمجتمع والاسر ذات الدخل المحدود ومدى الاستعداد الشخصي للادخار وموقف المواطنين اتجاه إدارة الأزمة السياسية الحالية بطريقة تعكس تحمل المسؤولية من الدولة والاحزاب السياسية والمجتمع المدني؟
الى أي مدى تتحمل مقاربة العدالة الاجتماعية في أوقات شح الموارد والنظر في الموارد التي يجب استخدامها في الحفاظ على السلام الاجتماعي؟
ما هي فرص الحفاظ على السلم الاجتماعي و الحفاظ كذاك على الموارد والتوسع في جلب واستعمال الطاقات المتجددة الأجنبية و استقلالية سياسة الطاقة وحملة التحديث التي تسعى الدولة الاجتماعية في ألمانيا القيام بها؟ .
إن الحالة المزاجية في شبكات التواصل الاجتماعي الى جانب المظاهرات وما نسمع من نقاشات وحوارات تشكل تيرمومتر يمكن أن نجس به الاستقرار الاجتماعي والنفسي والذي بسبب هه الازمة يعيش توترا خطيرا قد يعصف بالاستقرار والسلم والسلام والانسجام الاجتماعي.
نتساءل كذلك من داخل المنظومة الدينية: هل يستطيع المتدين أن يتعامل بشكل أفضل مع هذا الوضع الاستثنائي؟ ما هي الإجابات التي تقدمها الأديان لتجارب الموت والعجز والخوف والأزمة؟
هل يمر الروحانيون المتدينون بالأزمات بشكل أفضل؟
بالنسبة للكثير من المتدينين في كل الاديان يبقى الإيمان هو أساس وجودي ، سواء في الحياة العملية أو من الناحية النظرية والمهنية. إن الإيمان هو القدرة على الثقة والتوجه نحو الحياة كيفما كانت الظرفية بثقة وهذا يعطي للإنسان دعما قويا، خاصة خلال هذا الأزمات والحروب. فالايمان يساعد في إعادة تنظيم نفسي باستمرار من خلال طرح السؤال التالي: “ما هو الأهم وما هو المهم الآن؟”
وفي هذا السياق هناك العديد من الدراسات التجريبية التي تثبت ذلك بالضبط. لذلك ، من الواضح أن الأشخاص النشطين دينياً وروحياً هم أكثر مرونة و أكثر مقاومة ، ولديهم استراتيجيات أفضل للتعامل مع أحداث الحياة الحرجة.
فالامر يتعلق باحتياجاتنا الإنسانية الأساسية ، من بين أمور أخرى. وهذا يشمل ، على سبيل المثال ، الحاجة إلى التعلق بطاقة ربانية علوية وهنا أتحدث عن كل المتدينين داخل كل الاديان حيث تُمكِّن الطوائف الدينية والروحية الناس من تكوين روابط ، والدخول في شبكة من العلاقات والشعور بالانتماء وخدمة الآخر لتحقيق التجلي الانساني وإظهار أننا مجتمع متماسك بغض النظر على المرجعيات الضيقة المحصورة في المجال الجغرافي المحلي مثلا. وهذا قد يقودنا لفهم ولاء مغاربة العالم للمجتمعات التي يعيشون فيها وكذلك لوطننا الأصلي المغرب حيث في ظل الجائحة قد حولوا الملايير من الدولارات الى المغرب من أجل مساعدة أسرهم.
هذا الأمر أبان حقيقة الاستعداد الفطري لدى الإنسان المغربي للبذل والعطاء دون انتظار أي مقابل، الانخراط بكل حماس وتلقائية في المسلسل التضامني، مقدمين بذلك صورا رائعة للتعايش السلمي داخل بلدان الإقامة، ومؤازرة إخوانهم داخل المغرب.
لقد أظهر مغاربة العالم في أزيد من مائة دولة في أنحاء المعمور أن التكافل الاجتماعي من وعيهم الفطري الديني الاسلامي عطاء إنساني متجدد مؤكدين على تلاحمهم مع مجتمعاتهم ومع المغرب – الوطن العزيز المحمول في قلوبنا: وهذا هو التميز المغربي والعلامة المغربية لمتغربيت العابرة للقارات، الذي أردت به أن أختم به هذا المقال الذي عالج إشكالية الأزمة في ألمانيا وعرج على دور الدين والولاء الى الوطن والمجتمع كمتنفس أبلوا فيه المغاربة البلاء الحسن.
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=19318