عمر العمري ـ مدير النشر:
أصدر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في خضم المأساة التي تعصف بغزة وفي لحظة إنسانية فارقة تتعالى فيها مشاعر الغضب والحداد، بيانا يفتتحه بـ”الدم”، ويختمه بنداء “الجهاد المسلح” ضد الاحتلال الإسرائيلي، داعيا الدول الإسلامية إلى تدخل عسكري فوري، وفرض حصار شامل، وقطع للعلاقات، ومقاطعة اقتصادية، بل واعتبار من لم يستجب لهذا النداء متواطئا أو آثما أو حتى مرتدا، كما ورد في الصياغة اللاهبة الملتهبة للفتوى.
ولئن بدا الموقف مشحونا بعاطفة التضامن، فإنه لا يعفي أصحابه من مسؤولية الكلمة حين تتحول إلى فتوى، ولا من تبعات التاريخ حين يعيد نفسه بنفس الأيدي التي لم تتعلم من دروسه، إذ إن دعوات مماثلة، بعبارات لا تقل حماسة ولا استنفارا، صدرت قبل سنوات بشأن الأزمة السورية، ففتحت أبوابا سريعة إلى الجبهات، وأوهمت شباب الأمة أن الجهاد فرض عليهم فردا فردا، فانطلقت جموعهم تحت رايات غير موحدة، دون تخطيط ولا فهم لمآلات الطريق، فكان أن وجد كثير منهم أنفسهم أسرى لجماعات متطرفة أو ضحايا لصراعات عبثية، وانتهى بهم المصير بين القبور أو المعتقلات، بينما من أفتى لم يغادر موقعه، ولم يرسل أبناءه، ولم يتحمل ثمن الدم الذي أريق بلا غاية واضحة.
اليوم، يعاد المشهد بنبرة أعلى، لكن بالسياق ذاته: دعوة عامة، بلا مؤسسة سياسية جامعة، ولا جيش موحد، ولا تنسيق إقليمي، تحمل الأمة بأكملها تبعات فتوى تفتقر إلى مقومات “الرشد الفقهي والسياسي”، ولا تراعي الواقع العسكري الإقليمي، ولا موازين القوى الدولية، ولا تعقيدات الجغرافيا، ولا توازنات المصالح الوطنية للدول المعنية.
إن الجهاد، في مضمونه الشرعي، لا علاقة له بالمواقف التعبوية المنبرية المستعجلة، إنه فريضة لها شروطها الدقيقة، وميزانها الدقيق بين القدرة والعجز، بين دفع الظلم وتفادي الهلاك، بين غلبة الظن بالنصر ومخافة الوقوع في فوضى تضاعف الخسارة.
ولهذا، فإن التحقق من مآلات النفير الى الجهاد جزء لا يتجزأ من الفتوى نفسها، والسكوت عنها خيانة للمقصد الشرعي قبل أن يكون تهورا سياسيا.
ثم إن التناقض الفج بين مضمون الفتوى وموقع إصدارها لا يمكن تجاهله: فالاتحاد الذي ينادي بالمواجهة الكبرى يصدر بيانه من عواصم تحتضن قواعد عسكرية أجنبية، وتنسق أمنيا مع قوى داعمة للاحتلال، وهو في الوقت ذاته لم يوجه فتواه إلى من يملك القرار أو القدرة، بل يحمل الشعوب التي لا تملك “غير الخيبة والحزن” مسؤولية الحرب، أليس من السخرية الساخرة أن توزع ـ أيها العالم ـ التكليف على من لا يملك أدوات التنفيذ.
إن الموقف الرشيد لا يقاس بعلو الصوت ولا بحدة العبارات، بل بمدى عقلانيته، ومراعاته لسنن التاريخ والجغرافيا، وقربه من الواقع الممكن، لا من الخيال العاطفي، الذي تحفزه الكراسي الوثيرة والفنادق الفاخرة والصالونات المكيفة..
إن ما تحتاجه فلسطين اليوم ليس دفع الشعوب إلى الانتحار السياسي والعسكري، وإنما هي في حاجة إلى دعم منظم، وتنسيق عربي وإسلامي يعيد بناء أوراق القوة، ويوظف الضغط الدولي، ويدير المواجهة بعقلانية تؤمن الثبات، وتطيل أمد المقاومة دون أن تستهلك ما تبقى من “الأمان القومي” لشعوب تحاول النهوض من كبواتها.
إننا في هذه المرحلة الحرجة والمصيرية بحاجة إلى علماء راسخين، لا خطباء حماسة، وإلى فقه للواقع لا شعارات للمنابر، وإلى قيادة تسأل قبل أن تحمل، وتقدر قبل أن تفتي، وتفكر في المصير قبل أن تطلق الدعوة إلى الفداء، لأن الكلمة قد تشعل نارا، ولكنها لا تطفئها إذا لم تكن على قدرها.
كيف تفتي ـ أيها العالم ـ بالجهاد وأنت لا تملك قوت يومك، بل تأتيك أجرتك من يد عدوك؟
كيف تفتي ـ أيها العالم ـ بالجهاد ومنبرك لا يبعد خطوات عن قاعدة عسكرية تحمي صوتك ومحرابك وتؤمن مقامك؟
كيف تفتي ـ أيها العالم ـ بالجهاد وأنت وأهلك أول القاعدين والمخلفين والمتحصنين خلف المنابر الخشبية؟
إن من لا يملك قراره ـ أيها العالم ـ لا يملك الحرب، ومن لا يحمل السلاح لا يعلن الجهاد..