هل تنتهي حدود حرية التعبير عند المقدسات الدينية؟

ذ محمد جناي
آراء ومواقف
ذ محمد جناي28 يناير 2021آخر تحديث : الخميس 28 يناير 2021 - 1:23 مساءً
هل تنتهي حدود حرية التعبير عند المقدسات الدينية؟

ذ. محمد جناي
ما تلبث الجدلية المتواصلة حول “حرية التعبير” وازدراء المقدسات الدينية أن تهدأ حدتها، حتى تندلع مرة أخرى،وفي هذا الشهر اشتعل السجال مجددا مع الأحداث التي وقعت في مبنى الكونغرس الأميركي ، وما تلاها من ردود أفعال داخل أمريكا وخارجها ، والتي تظهر لنا بشكل واضح أن حرية الرأي والتعبير لا يمكن أن تترك على إطلاقها، فقد دعا الرئيس الأميركي السابق ، دونالد ترامب، في تدوينة له قبل هذه الأحداث ، إلى “مظاهرة عظيمة” في العاصمة الأمريكية، زاعما أن نتيجة الانتخابات الرئاسية تعرضت للإحتيال والخداع، وأن الفوز بالانتخابات من نصيبه، قائلا: “سنكون متوحشين” مرت التدوينة مثل مئات تدويناته الأخرى التي ألفناها في السنوات الأربع الماضية، حتى جاء يوم الأربعاء 6 يناير من هذا الشهر الجاري، وبالفعل شاهدنا مشهد الحشود المتظاهرة أمام “مبنى الكونغرس الأميركي”، واقتحمه أنصار ترامب الغاضبون، و”المتوحشون” على حد تعبيره، حينئذ تحولت كلمات ترامب إلى أحداث شغب وعنف أسفرت في نهاية اليوم عن مقتل خمسة أشخاص، منهم ضابط بوليس وأربعة آخرون من المتظاهرين من مؤيدي ترامب، وقد قرر بعدها مارك زوكيربرغ، الرئيس التنفيذي لموقع فيسبوك، استخدام سلطته لمسح منشور ترامب الذي أنكر فيه نتيجة الانتخابات ودعا فيه إلى التظاهر، قائلا إنه أزال منشورات ترامب، لتقديره أن تأثيرها يمكن أن يثير العنف،ثم تلته شركة تويتر التي لم تكتف بإزالة تدوينة ترامب، بل علقت حسابه.

وهنا يستغرب المرء حين يجد أن مقدسات المسلمين وحدها المستباحة ،التي لا يعاقب عليها القانون مقترفه بأية عقوبة، بل يُرد عليه بممارسة الأسطورة المشروخة أي الحق في حرية التعبير وقد شاهدنا مثالا حيا آخرا لهذا التحيز الفاضح هو موقف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إبان أزمة الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم في أكتوبر الماضي، والتي صعد فيها “حرية التعبير” بإطلاق لا يقف عند أي حدود، وأما في بريطانيا فيتم التعامل مع المقدسات وفق قانون خاص يسمى ( LAW BIASPHEMY) الذي يمنع سب المقدسات ، إذ يسري العمل بالقانون في كل من إنجلترا و ويلز ، ولكنه خاص بالمقدسات المسيحية وحدها ، ولذلك فعندما أعلن المخرج الدانماركي “جينز ثور سن” اعتزامه إخراج فيلم في إنجلترا عن الحياة الجنسية للمسيح فقد أدى ذلك إلى موجة غضب عارمة في المؤسسات الدينية الأوروبية وعلى رأسها الفاتيكان و أسقفية ( كانتر بري )، وعلى الفور قام رئيس الوزراء البريطاني حينذاك ( جيمس كالاهان ) بالتحذير من أن أي محاولة لإخراج ذلك الفيلم في إنجلترا سوف تكون عرضة للمحاكمة تحت طائلة قانون ( سب المقدسات ) مما أثنى المخرج عن إتمام إنتاج الفيلم.

ومن هنا نستنتج أن مسألة “حرية التعبير” عندهم ليست مطلقة كما يزعمون، فحرية التعبير في القانون الفرنسي مثلا مقيدة بالمنع من الإهانة العامة، وجاء على لسان أكثر من مسؤول في الاتحاد الأوروبي قولهم: إن حرية التعبير يجب أن تكون لها حدود ، كما أن حرية التعبير هذه لها حدود معروفة عندهم وليست مطلقة؛ فقد كانت فرنسا من أوائل الدول التي تجرم من يشكك في الهولوكوست، وأقرت في هذا المنحى قانون “غيسو” الذي يجرم إنكار الهولوكست أو مجرد التشكيك في أي من تفاصيله بحسب روايات إسرائيل ، بل وصل الأمر في فرنسا بأن أدانت محكمة فرنسية في 2019 رجلين بتهمة الازدراء بعد أن أحرقا دمية تمثل ماكرون ، وحاليا يناقش البرلمان الفرنسي قانونا يجرم تداول صور المسؤولين على وسائل التواصل مما جعل منظمة العفو الدولية تعتبره تناقضا، وأنه من الصعب التوفيق بين هذا التوجه وبين دفاع فرنسا الشرس عن حق تصوير النبي محمد في رسوم ساخرة ، واعتبرت أن معارضة الرسوم الكاريكاتورية لا تجعل المرء انفصاليا، أو متعصبا، أو إسلاميا»، حسب ما ورد في بيان المنظمة،كما أن العديد من المسائل الفكرية والاجتماعية والسياسية تضع لها الدول الغربية حدودا، وتمنع الخوض فيها أو تناولها إلا وفق قوانين وضوابط عديدة،وبهذا يظهر أن التذرع بمسألة حرية التعبير ليس إلا “شماعة” لتبرير الموقف.

وأما الإسلام فقد أقر على الحرية في زمن كان الناس فيه مستعبدين: فكرياً، وسياسياً، واجتماعياً، ودينياً، واقتصادياً، فأقر حرية الاعتقاد، وحرية الفكر، وحرية القول، والنقد، وهي أهم الحريات التي يبحث عنها البشر، ولم يكن مبدأ الحرية الذي دعا إليه الإسلام- عندئذ – قد جاء نتيجة تطور في المجتمع، أو ثورة طالبت به، أو نضوج وصل إليه الناس، وإنما كان مبدأ أعلى من المجتمع في ذلك الحين، جاء كمبدأ من السماء، ليرتفع به أهل الأرض و ليرقى بالبشرية جمعاء.

فالإسلام لم يصادر الآراء، وإن خالف أصوله ومبادئه، ولا كمم الأفواه وإن نطقت بما يعارض أسسه ومقوماته، وإنما واجه هذه الآراء بقوة المنطق، وسداد الحجة، ونصاعة البرهان، لذا نجد القرآن الكريم يعرض حجج مخالفيه، دون بتر أو اجتزاء، ثم يحللها، مفندا مضمونها، مبينا مغالطات أصحابها، فهذا النمرود الذي ادعى الربوبية، يفسح له القرآن الكريم الفرصة ليعلن ما يناقض أصول الإيمان، وما يخالف جوهر التوحيد، ثم يذكر كيف ألجمه إبراهيم عليه السلام إلجاما، وكيف بدد ادعاءه تبديدا، كما في قوله سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة:158]. القضية منتهية، ولن نناقشك فيما تدعيه لنفسك، إنك تحيي وتميت، ولكن إن كنتَ إلهاً قادرا، وربًّا مسيطرا، فاخرق قانون الكون، وغيِّر ناموسه، وأطلع لنا الشمس من المغرب، على غير ما يفعل الله بها، وأما إذا عجزت عن ذلك، فهناك مدبر لهذا الكون غيرك، وإله لهذا الوجود سواك ،فبهت الذي كفر ولم يستطع أن يقول شيئاً.

ومن هنا يتضح لنا وبدون أدنى شك أن الحديث عن حرية التعبير في الغرب مجرد أسطورة باهتة، ووهم طغى بسبب طغيان الحضارة الغربية على تفكيرنا ومسالكنا في كل اتجاه، حتى بات بعض المشتغلين بالثقافة والفكر والسياسة عندنا، يعتقدون حقيقتها، ومما يعزز هذه الحقيقة الصادمة هي تصريحات لأحد القساوسة الفرنسيين في مؤتمر بفرنسا بداية عام 2019، قال فيه: (نحن الآن في أزمة ومعضلة كما كنا في عام 1944م ليست النازية هذه المرة ولكن ما هو أسوأ بكثير إنها “فاشية ” أخرى والتي قررت أن تغزو أوروبا، في الواقع هناك نوعان من الفاشية: الفاشية المالية والفاشية الإسلامية إنها الحقيقة أنا أعرف جيدا ما هو الإسلام ولقد عشته يوميا، فرنسا ستصبح دولة مسلمة غدا هؤلاء الأطفال سيكونون مسلمين في المستقبل، هؤلاء الأطفال سيكبرون وسيكون الإسلام منتشرا في كل مكان، الاسم الأكثر تداول للمواليد في بروكسل هو ‘محمد” أكثر من 50% من المواليد “محمد” في بروكسل، وكذلك في أغلب مدن بريطانيا حاليا وغيرها من الدول الأوروبية، والكنيسة هنا تراقب كل هذه الكوارث بكل برود وسذاجة، والكنيسة هنا تراقب كل هذه الكوارث من دون فعل أي شيء! ولكنني سأضع “خطة” سوف نبدأ غدا، غدا سنضع “خطة واستراتيجية للتغيير”) وهذا المقطع موجود على منصة يوتيوب.

قال السياسي الهولندي “أرنود فان دور ” -الذي أسلم بعد أن أخرج فيلمًا مسيئا للإسلام – في مقابلة له مع صحيفة الرأي الكويتية عن دوافعه لإنتاج الفيلم: «كان سبب إقدامي على إنتاج هذا الفيلم مع مجموعة آخرين، هو ظننا وقتها أن الإسلام يشكل تهديدا وأن له آثارا سلبية على الحياة في أوروبا»، وعن الجهة التي دفعته لإنتاج الفيلم المسيء قال: «إن لوبيا أميركيا – إسرائيليا نصح بإنتاج فيلم “فتنة” للتخويف من الإسلام».

ختاما: فالإسلام قد قدس حرية التعبير شريطة أن تكون منضبطة حفاظا على أمن وتماسك المجتمع، والإسلام يقرر أن إنسانية الإنسان هي رهن حريته، إذ لا يمكن أن تتحقق إنسانيته بدون حريته، فإن تحكم الآخرين عليه باستعباده بغير صورة شرعية وتدخلهم في شؤون حياته فيه إلغاء لحقوقه، فهو من منطلق هذا يعيش حياته آمنا على نفسه وأسرته الكبيرة ، ولا يخشى عدوان ولا بطش ظالم، وحرية الكلام والتعبير حق فطري لأن التعبير عما في الضمير فطرة فُطِرَ عليها الإنسان لابد ألا يتم منعه منها، فلكل إنسان أن يعبر عما يجيش به صدره شريطة عدم الإساءة لأحد وعدم المساس بثوابت الدين المعلومة من الدين بالضرورة، وهذا لأن القاعدة تقول إن التصرفات التي تصدر من دون مراعاة حقوق الآخرين هي فوضى قد تؤدي إلى اختلال التوازن في موازين الحياة وفي السلم والأمن في المجتمع الإنساني، وهكذا فللإنسان أن يعبر ويبدع كما يشاء شريطة احترام مبادئ الأخلاق وآداب الإسلام، فلا بد عند السعي للتعبير أو الإبداع أن يتحرى الإنسان الخطاب الأخلاقي الذي يحترم خصوصيات الآخرين مع النأي عن إطلاق العنان لحرية الرأي على حساب هدم المصالح الإنسانية أو المجتمعية، إعمالاً في ذلك لمنطق العقل الذي اقتضى أن يكون التفكير في التقريب بين الأفكار لا في خلق حالة من التصادم والشقاق بينها.
ــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1): د.عبد الله عبد العزيز الزايدي، حرية التعبير عن الرأي في الشريعة الإسلامية التأصيل والضوابط ،مؤتمر الانحرافات الفكرية بين حرية التعبير ومحكمات الشريعة ، رابطة العالم الإسلامي ،المجمع الفقهي الإسلامي.
(2):صناعة العداء مع الإسلام: الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم نموذجا،مجلة رواء العدد السادس ، بتاريخ :17 دجنبر 2020 للكاتب : كلمة التحرير.
(3):الدكتور يوسف القرضاوي ،حدود حرية التعبير في الدولة الإسلامية، وقدم هذه الورقة في ندوة “الأخلاق الإسلامية والسياسة “التي عقدها مركز دراسات التشريع الإسلامي بالدوحة في الفترة من 8 إلى 10 يونيو 2013

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.