بقلم: محمد علي لعموري
في 21 مارس من عام 2021 رحلت عنا الكاتبة الكبيرة والناشطة الحقوقية الدكتورة نوال السعداوي عن سن ناهز التسعين سنة، بعد صراع طويل مع الفكر الذكوري والفكر الديني السائد، إذ تصعب الإحاطة بمسار كاتبة جبارة مثل نوال السعداوي في مقال متواضع كهذا، فكتبها كفيلة بأن تخلد اسمها في التاريخ، وأن تجعل منها امرأة استثنائية قلما يجود الزمان بمثلها في دنيا العرب والمسلمين، فقد فاقت شهرتها ؛ قيد حياتها ؛ حدود الوطن العربي والعالم الإسلامي، بل ترجمت كتبها إلى لغات حية في الغرب والشرق، وحضيت بتكريمات وتشريفات من بلاد أجنبية تحترم نضال المرأة ولا تضعه ضمن قوائم الإزعاج.
هي نوال زينب السعداوي كما كان يحلو لها أن تسمي نفسها ؛في تحد صارخ للتقاليد الذكورية التي تولي للأب مكانة الانتساب دون الأم التي لا تحظى بهذا الترتيب على الأوراق الثبوتية. فأمها زينب وهي من أسرة ميسورة، ومثقفة تزوجت أباها السيد السعداوي الفلاح بن الفلاح الذي كانت أمه تشتغل في حقول القطن لتطعم أبناءها.
كان أبو نوال متعلما ويشتغل موظفا بوزارة التربية والتعليم، وكان محبا للعلم، وكان يلقنها أصول النقاش الحر والجدل في كل شيء، فأصبح هذا الجدل سلاح كتاباتها حتى لقبت بالمرأة المثيرة للجدل.
تحكي نوال السعداوي أنها كانت تطرح أسئلة محيرة منذ صغرها، بل إن أول رسالة كتبتها كانت إلى الله تستفسره عن سر هذا التفضيل الذي كان يعطى للذكر على حساب الأنثى؟ طارحة قضية العدل كمطلب إنساني إلى الرب كي يرى اللاعدل في العلاقة المتوترة دوما بين الذكر والأنثى؟.
وتحكي نوال واقعة جعلتها تتشرب الكرامة ضدا عن سلطة الرجل حين وقع شجار بين أبيها وأمها، لينهر أبوها أمها، فما كان من أمر أمها إلا أن حزمت أمتعتها مغادرة البيت صونا لكرامتها كأم قوية الشخصية في أعين أولادها. وبعد ذلك الحادث ولما تصالحا لم تسمع نوال السعداوي صوت أبيها يرفع في وجه أمها، وظل يحترمها ويقدرها حتى وافته المنية.
كما أن حادثا ثالثا جعلها تفهم الله دون فهم الفقهاء وتجار الدين وأصحاب السلطة الدينية، وذلك حين ذهبت جدتها الفلاحة متزعمة بعض الفلاحات اللواتي كن يشتغلن بالحقل ( الغيط) لمواجهة ظلم العمدة الذي كانت له أراضي شاسعة وكان يستغل اليد العاملة لجني القطن من عرق جبين الفلاحين والفلاحات ليذهب به إلى الملك، فكان هذا الأخير يبيعه للإنجليز، فاحتجت جدتها وصاحت في وجهه أن يتقي الله في المزارعين، ليسخر منها العمدة، منكرا عليها أن تكون قد قرأت القرآن وهو يلوح به في وجهها وكان يحمله بين يده، فقالت قولتها الشهيرة التي حفظتها حفيدتها نوال السعداوي عن ظهر قلب، وكانت قد حضرت الواقعة، إذ قالت الجدة للعمدة وهي ترد على سؤاله الإنكاري الذي يتهمها فيه بالجهل: ” من قال لك أن الله هو القرآن؟!، الله هو العدل عرفه الناس بالعقل” ، فكانت تلك الحادثة درسا بليغا لهذه الكاتبة الكبيرة لتتشرب مفهوم الله ومفهوم العدل ومفهوم التمرد ضد السلطة الحاكمة أيضا.
بعد أن كبرت وتعلمت، تم تعيينها طبيبة بوزارة الصحة، فتمردت على سلطة الوزير، ومما زاد الطين بلة صدور كتابها المثير للجدل ” المرأة والجنس” الذي دعت فيه إلى وقف ختان الإناث فورا لأنه مضر بالصحة وانتهاك لحرمة جسد المرأة، منتقدة ثقافة الذكور تجاه المرأة ، فكان كتابها سببا في إقالتها من وزارة الصحة، لتتفرغ طيلة سنوات عمرها للكتابة في مجال الرواية والقصة والفكر والنقد، بل إنها هاجرت إلى أمريكا بحثا عن فضاء أرحب لاحتضان فكرها المزعج، وهناك درست للطلبة بالجامعات الأمريكية أدب التمرد ضد القولبة الثقافية الذكورية، وكيف ينبغي للمرأة أن تتحرر وأن تنتفض ضد الفكر الذكوري والفكر الطبقي والفكر الرأسمالي الذي يحول المرأة إلى سلعة.
عادت نوال السعداوي إلى مصر دون أن تطوى صفحة صراعها مع الفكر الذكوري المغلف بالدين وبالتدين الزائف والمتطرف، لتواصل معركتها ضد الجهل المركب والجهل المقدس والجهل المؤسس.
فاقت كتبها الخمسين كتابا أهمها : “المرأة والجنس”، “مذكراتي في سجن النساء” الذي دونت نصفه داخل أسوار السجن بعد أن اعتقلها الرئيس المصري السادات هي والعديد من المثقفين والمفكرين الذين كانوا ضد التطبيع ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في إطار ما سماه الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل في كتابه الشهير الذي يحمل نفس العنوان ب” خريف الغضب”.
ولها سيرة ذاتية في ثلاثة أجزاء بعنوان : ” أوراقي حياتي”، ورواية “سقوط الإمام” التي أثارت الجدل بعد مقتل السادات في حادث المنصة، بل إن جرأتها الفائقة في مجال الأدب والإبداع قد دفعت بها إلى كتابة مسرحية ممنوعة من النشر إلى اليوم بعنوان ” الإله يقدم استقالته في اجتماع القمة”، وهو العمل الإبداعي الذي أثار جدلا واسعا مرة أخرى وجعل أعداءها يشهرون سيف التكفير في وجهها، كما أشهره قبل ذلك عدد من فقهاء الوصاية الدينية على الإبداع والفكر.
ستظل نوال السعداوي رمزا لتحرر المرأة في الوطن العربي والعالم الاسلامي، ستظل منارة الثوريين والرادكاليين الذين يجهرون بالنقد وقول لا كبيرة في وجه الظلم والقهر، وفي وجه التمييز الذكوري وفي مواجهة فكر ذكوري اتخذ من الدين دريعة لإخراس صوت المرأة وحجب عقلها أن تكون له بصمة في الأدب والفكر والعلم والمعرفة.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=15819