معتز شاكر حسن
أفتتحُ مقالي ببيت شعر للحكيم وأستاذ الأساتيذ العلّامةُ الدكتور عبدُ اللَّه مُصطفى-عليه شآبيب الرحمات تتقاطرُ من لدُن ربّ الأرباب- الذي نادى الأجيال ببيت الشعر الخالد في ذكرى العلم والأُمم، إذ قال في مطلع ديوانه-ديوان نفحات الحياة- في فقرة الإهداء من بين المُهدى إليهم:
“إلى العقول : النيّرة بالعِلم والحِكمة”
وطرّز هذا العلّامة الجليل القدر في أحد قصائده دور العالم الذي يرنوا ويريد نهضة أمّته فقال:
إيهٍ شباب المَجدِ نحنُ مدادكُم
فلكُم خذوها أضلع و ايادي
إن خاننا وهنُ المشيب فهاكُمُ
منّا البنين و أفلذَ الأكبادِ
لا قُرَّ خاطرُ والدٍ مالَم يذُق
شهد الشهادةِ من جنى الأولادِ
نرى إنّ العلّامة الدكتور يرسم حلقة التواصُل والتكامُل بين الأجيال و الأساتذة الذين يصنعون مجد الأُمّة عبر أبناء وشباب هذه الأمّة؛ ويقرّر انّ من الوفاء والإخلاص بقاء ترابُط هذه السلسلة بطريقة جماليّة وأكاديميّة؛ إذ نراهُ قد وضع جمال الوفاء في قلب الاستشهاد الأكاديمي، فكأنّه يقولُ لنا العلم والاخلاق والجمال شجرة واحدة في حضارة الإسلام الرشيدة.
ندلفُ الآن لنرى صنيع عالمٍ رصين من علماء المسلمين الذي عاصر قرنين من العلوم الطبيعيّة والفيزيائيّة والكونيّة الأستاذ الدكتور محمّد باسل الطائي-فيما اقتبسناه أدناه من كتابه الموسوم -اللَّه الطبيعة السبب- مشروع نهضة أُمّة-الصفحة الثامنة والسبعين- نظرتهُ في السببيّة عبر توظيف فرضيّة تجدّد الخلق؛ إذن نراه يُقارب المُحاكاة الكموميّة للعالم المادّي الذي يتلّمسه العقل الناظر للمنظور لما يُسمى بالمُمكِن الواقع.
النصُ المُقتبس بعد مُحاكاة وتحليل مواقف الغزّالي و كارناب و هانز ريشنباخ الفيزيائي الكبير وفيلسوف العلم الرائد.
“ومن الجدير الإشارة إلى أن إعادة صياغة تفسير السببية من قبلنا اعتمد توظيف فرضيّة تجدد الخلق، وفيها نجد أنّ حصول المعجزات ممكن ضمن إطار القوانين الطبيعيّة نفسها. ذلك أن ميكانيك الكم يبيح حصول خرقٍ للمعهود من السببيّة الكلاسيكيّة فيبيح مثلًا (من الناحية النظريّة على الأقل) أن أضرب بيدي كرةً على جدارٍ سميكٍ فأجدها تخترقه. ومن المعروف أنّ خرق السببيّة والحتم السببي المعهود في القوانين الكلاسيكيّة من قِبل الجسيمات الذريّة وتحت الذريّة ممكن على نطاقٍ واسع، وهو ما يحصل مليارات المرات كل ثانية في بلورات هواتفنا الخلويّة، ولولا ذلك ما أمكننا تكوين هذه الهواتف من الأجزاء التي فيها.”
****************
ينطلق النص من إعادة تعريف السببيّة في ضوء ميكانيك الكم، مُبرهناً أنّ ظاهرة “خرق المعهود” أو النفق الكمّي تقع داخل الحدود نفسها التي ترسمها القوانين الطبيعيّة. هذا الدمج بين فرضيّة تجدّد الخلق والرؤية الفيزيائيّة الحديثة يفتح مجالاً واسعاً لبناء قاعدة معرفيّة جديدة؛ إذ يوفّر خطاباً يتجاوز الثنائية التقليدية بين الإيمان والعلم، ويحفّز الجامعات ومراكز الأبحاث على معالجة موضوعات الكمّ، لا بوصفها شطحات نظرية، بل كأدوات عملية يمكن توطينها وتطويرها محليّاً.
على المستوى الأكاديمي، يستدعي هذا الطرح تحديث المناهج الجامعيّة لإدراج مقرّرات فيزياء كمّية تطبيقية، وهندسة الإلكترونيات القائمة على ظاهرة النفق، وحوسبة كمّية مدمجة. مثل هذا التحديث سيخرّج جيلاً من الباحثين القادرين على الانتقال مباشرة إلى الصناعات عالية التقنية، كما سيولّد احتياجاً طبيعيّاً لإنشاء كراسي بحثية ومراكز تَميّز في مجالات المواد الكمّية وأشباه الموصِّلات. ومن خلال شراكات استراتيجية مع مختبرات عالمية، يمكن نقل الخبرات الدقيقة في التصنيع النانوي والشرائح الإلكترونية إلى الداخل، لتتحول الجامعات من مجرّد كيانات تعليمية إلى محركات ابتكار فعليّة؛ هنا ستكون الجامعات هي العِماد والعُمدة بخلاف ماهي عليه الآن!!!
أمّا في القطاع الصناعي، فإنّ استيعاب النفق الكمّي باعتباره أساس عمل الترانزستورات والثنائيات النفقية يعني أنّ توطين سلسلة القيمة لأشباه الموصِّلات ليس رفاهية، بل شرط لترسيخ سيادة تقنية واقتصادية. يضاف إلى ذلك أنّ الحوسبة الكمّية وأجهزة الاستشعار المعتمدة على خصائص فيزيائية فريدة (كالتشابك الكمّي) تمثّل سوقاً متصاعدة-وهذا ما ناقشناه وعرضناه في منشورات كثيرة في السنوات الأخيرة على صفحتنا-، تُقدَّر عائداتها بمليارات الدولارات في غضون عقد واحد. الاستثمار في هذه القطاعات يخلق مجالاً للبطاريات والأنظمة الكهروكيميائية ذات الكثافة الطاقية العالية، ويضع البلاد على خريطة حلول الطاقة الخضراء والمركبات الكهربائية.
ريادة الأعمال بدورها تكتسب زخماً عندما تُنشأ حاضنات متخصصة في التقانات الكمّية، وتُوفَّر صناديق سياديّة لتمويل الشركات الناشئة مع إلزاميّة توطين المعرفة. ويمكن لتشريعات المشتريات الحكوميّة أن تمنح الأولوية للمنتَج المحلي الذي يحتوي مكوِّناً أو تصميمًا كمّيًا، ما يخلق طلباً مستقراً يدعم بقاء الشركات الفتيّة ويشجّعها على التوسع. إنّ ريادة الأعمال هي عصب المُستقبل وليس التوظيف؛ لاتبقوا هكذا ولات ساعةَ مندَمِ.
ثقافيّاً، إنّ البرهنة على إمكانية وقوع ما يشبه “المعجزة” بلغة العلم الحديث تُعيد الثقة إلى الخطاب الديني-العلمي، فتجذب الشباب نحو التخصّصات العلميّة بدلاً من النفور منها. هذا الانجذاب ليس مجرّد ظاهرة اجتماعيّة، بل هو رافد لرأس مال بشري قادر على توليد ابتكارات مستقبلية، وتأسيس سوق عمل تُقدّر المعرفة وتثمّن البحث.
نرى انّ النص-لمن يفقهون لغة العلم العميق وليس العقيم- يقدم رؤية فلسفيّة-علميّة قابلة للتحويل إلى برامج تعليم متطور، وبنية بحثية راسخة، وصناعة أشباه موصِّلات وحوسبة كمّية متقدمة. بتحقيق هذه المكوّنات، نستطيع الانتقال من اقتصادٍ تقليدي إلى اقتصاد معرفة رائد-بعيدا عن رتابة البُنيان الاقتصادي القاصر عن تلبية حاجات الجامعات في توظيف طاقات البلد البشريّة من الشباب والأساتذة واركّز على الركون للعُلماء الرصينين القادرين على بناء هكذا بُنية، ومنهم عالمنا الجليل الطائيّ-، يوفّر فرص عمل نوعيّة، ويضمن للأمّة نهضة علمية وصناعية شاملة.
وللَّه الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ ولاحول ولاقوّة الّا باللَّه.