عبد الحي السملالي
يشكل كتاب مفهوم العقل: أطروحة في المفارقة (1996) لعبد الله العروي محطة بارزة في مسار الفكر العربي المعاصر، إذ يسعى المؤلف إلى مساءلة مفهوم العقل في التراث العربي الإسلامي عبر أدوات النقد الفلسفي الحديث. ويأتي هذا الكتاب ضمن مشروعه الفكري الواسع المعنون بـ “سلسلة المفاهيم” (الدولة، الحرية، التاريخ، الإيديولوجيا)، الذي يهدف إلى تفكيك البنى الذهنية الموروثة وإعادة بنائها على أسس عقلانية.
ينطلق العروي من مفارقة جوهرية تتمثل في التناقض بين حضور “العقل” بوصفه قيمة عليا في الخطاب الإسلامي، وبين تقييده في الممارسة التاريخية والاجتماعية، حيث ظل عاجزًا عن ممارسة دوره الكامل كأداة للتحرر والإبداع. وتتمثل أهمية هذا المشروع في دعوته إلى عقل عربي معاصر قادر على تجاوز الجمود التقليدي والانخراط بوعي في تحديات الحداثة.
الذهنية الكلامية
يرى العروي أن التراث الإسلامي تأسس ضمن ما يسميه بـ”الذهنية الكلامية”، التي تمنح المعقولية أولوية على العقل الفاعل، وتجعل المعرفة أقرب إلى المعطى الثابت منه إلى الإنتاج الحر. ووفقًا للعروي، أدى هذا إلى تحول العقل إلى أداة لتأكيد العقائد وضبطها بدل أن يكون وسيلة للتفكير النقدي والتحرري. كما يشير إلى التناقض بين ادعاء بساطة العقيدة وعقلانيتها وبين تقييد ممارسة العقل ضمن حدود مسبقة.
ثنائية العقل النظري والعقل العملي
يؤكد العروي على التمييز بين، العقل النظري: المختص بالمطلقات، الماورائيات، والعقائد؛ العقل العملي: المختص بالواقع، التجربة، والفعل.
ويخصص اهتمامًا بابن خلدون، الذي حاول تأسيس “علم العمران” على الملاحظة والتجربة. ورغم ذلك، يراه العروي حبيس الذهنية الكلامية لأنه قصر دور العقل على الواقع المتحقق وأغلق الباب أمام الاحتمالات والممكنات، مما حد من قدرته على الابتكار.
معنى النقد عند العروي
في تصور العروي، النقد لا يقتصر على كشف الأخطاء أو تفنيدها، بل هو تحديد مجالات الصلاحية ورسم الحدود بين الممكن وغير الممكن. ويرى أن الخلاف المنهجي اليوم يعكس جوهر الصراع الفكري، إذ يكشف عن صلاحية البداهات نفسها ويتيح إعادة التفكير فيها.
العلاقة بين الممكن والمتحقق
يولي العروي اهتمامًا بالغًا للتمييز بين “الممكن” و”المتحقق”. فالعقل التقليدي ظل مقيدًا بالمتحقق، بينما العقل الحديث جعل من الممكن أساسًا للإبداع والابتكار. ويخلص العروي إلى أن تجاوز الذهنية الكلامية يتطلب تحرير العقل من أسر المتحقق والانفتاح على أفق الممكنات التي تتيحها التجربة والتاريخ والعلم.
لا يكتفي كتاب مفهوم العقل بالتحليل التاريخي، بل يقدم مشروعًا نقديًا يسعى إلى إعادة بناء العقل العربي الإسلامي ليصبح فاعلًا، قادرًا على مواجهة تحديات الحداثة والانخراط بوعي في المستقبل.
يدعو العروي إلى تملّك التراث نقديًا، لا رفضه، بحيث يصبح مصدر قوة لفهم الحاضر والتعامل مع الممكنات المستقبلية. وفي هذا السياق، يشكل الكتاب إطارًا أساسيًا للتفكير العربي المعاصر، حيث يضع العقل في قلب معركة التجديد الثقافي والسياسي.