نظرات في خصائص ومميزات أصول المذهب المالكي
ذ. محمد المهدي اقرابش
عضو أكاديمية نيم الفرنسية وعضو منتدى الإسلام بفرنسا.
عضو مؤسس للجامعة الشعبية للأديان بنيم الفرنسية.
قبل أن ننظر في خصائص ومميزات أصول المذهب المالكي، لا مناص من التذكير بأن الإمام مالك هو إمام دار الهجرة “المدينة المنورة” و نجم في سماء الحديث و الفقه والديانة. وذلك بشهادة معاصريه من أهل العلم، كالإمام الشافعي الذي قال عنه “إذا ذكر العلماء فمالك النجم ومالك حجة الله على الخلق بعد التابعين”
لقد أجمع عليه أهل العلم بالفضل والعلم والديانة. وشهدوا له بإمارة المؤمنين في الحديث و الفقه معا،وقَليل من جمع الله له بين الإمامتين في العِلْمَين معا.
قدر الله لمذهبه الذيوع والانتشار في العالم. فهناك كتب تعد بالمئات ان لم نقل الآلاف، تشرح مذهب أهل المدينة بدءا من موطإ الإمام مالك ومرورا بالأمهات والمطولات والرسائل والمختصرات.
قد يقول قائل لماذا كل هذا التكرار في الشروح والحواشي والمتون والإكثار منها وقد طرق الأولون هذه المراجع الفقهية بالدراسة والشرح والتحليل؟
وإننا نجيب قائلين إن المذهب يحيى و ينمو ويساير المجتمعات في نموها واتساعها، فيصير المذهب بذلك واسع الارجاء والمناهج والطرق. وهي اجتهادات نافعة. والعلم أرزاق قد يفتح الله فيه للعلماء المتأخرين ما لم يتح للمتقدمين. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
إن المذهب عند أهل العلم هو الطريقة في الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
قال الحطاب: “المذهب حقيقة عرفية في ما ذهب إليه إمام من الأئمة للأحكام الشرعية الفرعية الاجتهادية المختصة به من الشروط والموانع والحجاج المثبتة له..” و ذكر القرافي من قبلُ أن هذا التعريف يخرج أقوال الأتباع والتلاميذ في المذهب. أما الإمام العدوي فقد نحا إلى القول بأن المذهب هو ماقاله الإمام واصحابه على طريقته وينسب إليه مذهبا لكونه يجري على قواعده وأصوله.
سئل الغبريني عن اختيارات المتأخرين كالامام اللخمي وابن بشير وغيرهما هل يحكى قولهم في المذهب؟ فقال نعم
إذن المذهب هو جامع لكل اقوال وفتاوى علماء المذهب.
و عند الحطاب والخرشي المذهب ينحصر في “ما به الفتوى”، أي أن المهم في المذهب هو الفتوى المعمول بها. كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث ” الحج عرفة” أي الأهم والباقي يدخل في المهم.
بعبارة أخرى قد يكون في المذهب اقوال كثيرة في المسألة الواحدة والأهم في المذهب هو ما صدرت فيه الفتوى كما هو الشأن في كتاب المختصر في الفتوى بمذهب مالك بن أنس رحمه الله و المعروف بمختصر خليل.
للمذهب المالكي خصائص جعلته من أيسر المذاهب و أغناها وأفضلها. وقولنا هذا لا يعني الانتقاص من مذاهب الأئمة الثلاثة الآخرين أبي حنيفة والشافعي وابن حنبل رحمهم الله تعالى أو المذاهب التي اندرست أو ضعفت كمذاهب الأئمة الليث بن سعد و الأوزاعي والثوري وغيرهم.فكلهم من رسول الله ملتمس غرفا من البحر أو رشفا من الديم. ولكن ارتباط المذهب ببيئة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعله يحتل الصدارة في وجدان وفكر وعقل الأمة الإسلامية.
خصائص ومميزات المذهب المالكي
– عمل أهل المدينة :
انفرد المذهب بأصل عمل أهل المدينة. وهو من أهم مصادر الفقه والأحكام عند الإمام مالك. وقد دافع عن هذا الأصل خاصة في رسالته الشهيرة إلى إمام مصر الليث بن سعد. وقد بسطتُ أهمية هذا الأصل في مقال سابق عنونت له ب: “المذهب المالكي..عين السنة وترجمة لعمل أهل المدينة”.
– واقعية المذهب المالكي:
يتميز مذهب إمامنا مالك بالواقعية إذ أنه يسلط النظر على ما هو واقع في المجتمع ولا يعير اهتماما للافتراض. فإذا سأل أحدهم بِ “أرأيتَ” أو “هَبْ أنَّ” قيل له “انتظر حتى تقع فنجيبك”. فالفقه ليس ترفا فكريا أو رياضة عقلية أو تزجية للوقت وإنما هو إخبار بحكم شرعي عن الله ثم عن رسوله صلى الله عليه وسلم وفق قواعد وضوابط شرعية محددة. كان الافتراض والتقدير شائعين في العراق فَسُمُّوا بالأرايتين إشارة إلى سؤال “أرأيت”؟
كان الإمام مالك يشنع و ينكر على من تأثر بمنهج أهل العراق كما فعل مع أسد بن الفرات عندما صاغ اسئلة افتراضية فقال له : « ما هذا ؟ هذه سلسلة بنت سليسلة اذهب إلى العراق!”. وينبغي أن نميز بين الافتراضات ومنهجية الفنقلة التي أخذ بها علماؤنا في المناظرات والحوار والحجاج أي “فإن قالوا قلنا”.
و من الأمثلة التي ساقها العلماء لبيان واقعية الفقه المالكي نذكر أن الزكاة عند المالكية واجبة في الغنم والبقر والإبل المعلوفة أيضا فلم يرتبط باللغة في شرحه لكلمة سائمة التي رويت في الحديث النبوي الشريف “في سائمة الغنم زكاة” وسائمة معناها في اللغة: الماشية التي ترسل للرعي.
– المصلحة المرسلة:
المصلحة المرسلة أصل من أصول الفقه عند السادة المالكية. وقد تعرضوا لنقد واعتراض في كثرة اعتمادهم عليه والاجتهاد فيه ولكن الصواب كان حليفهم. قد اهتمّ كثيرا الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي بهذا الأصل وقال : ” إن مذهب الإمام مالك في هذا محق والذين انتقدوه غير منصفين” والمصلحة المرسلة هي كل منفعة داخلة في مقاصد الشرع دون أن يكون لها أو من جنسها شاهد من الشرع بالاعتبار أو الإلغاء. وعليه فإن ضوابط العمل بالمصالح المرسلة كما ذهب إلى ذلك الإمام الشاطبي في كتابه الاعتصام ثلاثة:
-الملائمة بين المصلحةومقاصد الشرع.
-أن تكون معقولة في ذاتها لا نص فيها.
-أن تزيل الحرج وترفعه
مثاله:
-إجماع الصحابة على جمع القرآن في مصحف واحد خشية ضياعه.
-تضمين الصانع إذا تلفت الأمانة التي تحت يده كالخياط إذا أتلف الثوب أو السائق إذا أتلف سيارة مشغله والقانون قد أخذ على أية حال بالمصلحة و فصل في مثل هذه الأمور بدقة ولا إشكال فباب الاجتهاد مفتوح فقها وقانونا.
– سد الذريعة:
والذريعة هي الوسيلة وإذا كانت الوسيلة تؤدي إلى محرم فهي محرمة. لذلك قرر الفقهاء أن الوسائل لها حكم المقاصد
والعبرة بالنتائج ومآلات الأفعال. وليس لنا ان نأخذ بمقولة ميكياڤيلي “الغاية تبرر الوسيلة” إلا في ما استثناه العلماء وأهل الاختصاص من ما لا مجال لبسطه في هذا المقال.
مثاله:
قول الله تعالى “ولاتسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم” الآية 108 سورة الأنعام
-تاجر يرخص سلعته وهو مشروع. ولكن إذا قصد بذلك أن يضر بتاجر آخر فإنه يحرم. والقانون قد أخذ بهذا في ضبطه للأسعار مثلا.
وسد الذريعة يعني إمكانية الأخذ بمفهومه أي فتح الذريعة لمصلحة راجحة كدفع مال أو تنازل لقوة لا يستطاع مواجهتها حفاظا على النفوس والأعراض والأموال حتى يفتح الله و يقضي أمرا كان مفعولا.
الاستحسان:
يُنْسَبُ إلى الإمام مالك قوله:” تسعة أعشار العلم الاستحسان”. و قد ذكر الشاطبي الاستحسان فقال :” إن من استحسن لم يرجع إلى ذوقه وتشهيه وإنما رجع إلى ما عرف من قصد الشرع”.
لقد نظر الإمام مالك إلى الشرع نظرة كلية فوجده يهدف إلى مصالح الناس. وقد ذكر الشيخ أبو زهرة رفض الامام الشافعي للاستحسان مفضلا التقيد بالنص او حمل النص على القياس مخصصا بذلك بابا لإبطال الاستحسان في كتابه الأم آخذا على من استحسن في الشرع.
قال الامام الشافعي “من استحسن فقد شرع”. والحق أن الإمام مالك مصيب في أخذه بهذا الأصل لأن الشرع يتوخى دائما مصالح البلاد والعباد.
مثاله:
-أن يرى الطبيب عورة الرجل أو المرأة للعلاج.
-عدم اشتراط العدالة في الشهود في زمن قل أو غاب فيه الشهود العدول وذلك حفظا للمصالح.
– العرف والعادات:
كما يراعى في مذهبنا العرف في الزمان والمكان إذ لا يجوز الافتاء بما في الكتب خاصة كتب المتقدمين قال ابن القيم رحمه الله تعالى: “الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والعوائد والنيات”. والتقدير يكون للعلماء العاملين المخلصين المدركين لحقائق الأمور.
مثاله : إذا اتفق الشريكان على مشروع ولم يحدّدا نسبة كل واحد منهما واختلفا فإن العرف أن نحكم بالمناصفة لأن الشركة مناصفة إلا إذا صُرِّح بغير ذلك. والقانون قد أخذ بقواعد المذهب في مثل هذه الأمور كقاعدة “العقد شريعة المتعاقدين”. والأمر نفسه متعلق بالعرف التجاري عند التجار ورجال ونساء الأعمال.
– الأخذ بالأحوط:
من قواعد المذهب المعتمدة نجد الاحتياط المنضبط والغير مُتَوَهَّم لتلافي ضرر أو مفسدة قد تطرأ جراء إجراء معاملة أو التزام.
مثاله نظر الرجل إلى المرأة والعكس إذا أرادا الزواج والكلام لتخطيط الحياة الزوجية المستقبلية واشتراط عقد الزواج المبرم لدى المصالح المدنية ببلديات أو محاكم الغرب لحفظ الحقوق والواجبات وعدم التلاعب في الزواج.
-عدم زواج المريض في فراش الموت لانه يتهم بالإضرار بالورثة وغيرها من الأمثلة.
– مراعاة الخلاف
أصل مهم في المذهب وهو يقتضي الاخذ بقول المخالف في الآراء الفقهية المعتمدة في المذهب المالكي تحقيقا للمصلحة كجواز صلاة المالكي خلف الحنفي الذي يرى أن الفاتحة ليست ركنا وغيرها من المسائل المتعلقة بالعبادات أو المعاملات.
ومراعاة الخلاف هو دليل على التسامح والقبول برأي المخالف، طالما أنه في دائرة الشرع لأن الأساس هو تحقيق المصالح المعتبرة والحفاظ على الكليات الخمس أو الست المشهورة.
و في الختام، تجدر الإشارة إلى أن المذهب يأتي ليملأ الفراغات التي قد تعتري القانون الذي يصدره المشرع المغربي في كثير من المسائل. فالاجتهاد القانوني واجتهادات المحاكم قد تعتمد على المذهب وأصوله وقواعده للبث في مسائل وقضايا تعرِضُ للقضاء.
فمثلا القانون المدني و مدونة الأسرة وغيرها من القوانين تشير أحيانا إلى أن الفقه المالكي هو المعتمد في حال غياب نص قانوني. إن النصوص القانونية المغربية هذه تستوحي مادتها من الفقه المالكي وغيره من القوانين والتشريعات والاجتهادات المعتبرة. و للفقهاء والقانونيين درء التعارض بين الفقه المالكي والتشريعات الدستورية و النيابية
ليكون العقل الفقهي والقانوني منسجمين ومتلازمين.
هذا ماتيسر إيراده و أسأل الله أن يرحمنا ويرحم علماءنا الأفذاذ وسائر المسلمين والمسلمات وأن يبسط السلام والأمن على الناس جميعا. وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
والحمد لله رب العالمين.
التعليقات