موقف العلماء تاريخيا من الصراعات الفكرية

الإمام أبو الحسن الأشعري (ت : 324 هـ) نموذجاً (1/2)

ذ محمد جناي
2021-05-12T11:51:43+01:00
آراء ومواقف
ذ محمد جناي12 مايو 2021آخر تحديث : الأربعاء 12 مايو 2021 - 11:51 صباحًا
موقف العلماء تاريخيا من الصراعات الفكرية

ذ. محمد جناي
الاطلاع على تاريخ الأمم والشعوب، وسيرة العلماء والمفكرين والمسلحين والزعماء والأبطال والقادة ،يساعد العاقل على التبصر والتحلي بفضائل الأخيار ، وسلوك طريق النجاح، والتخلي عن الرذائل ، فإن فائدة التاريخ وسير الرجال عظيمة وجليلة ، قال الله تعالى :”لَقَدْ كَانَ فِے قَصَصِهِمْ عِبْرَةٞ لِّأُوْلِے اِ۬لَالْبَٰبِۖ” (يوسف:111) ، بينت الآية أن الغاية والفائدة من التاريخ هي التحلي والتخلي ، وكل ماأورده القرآن الكريم من قصص كان لهذه الغاية، غاية العبرة والاتعاظ وإعجاز المعارضين ، بأخبار ثابتة قاطعة يقينية، أخبر بها القرآن لهداية الخلق للحق عن طريق استعمال فطرهم وعقولهم في هذه القصص التاريخية .

في هذا السياق وامتثالا لخطاب الوحي بدراسة التاريخ عموما، فإنه من المفيد جدا إعادة قراءة تراث علمائنا السابقين والبحث عن فلسفة فكرهم ، ومناهجهم التي اعتمدوها في بناء آرائهم وربطها بواقعهم ، واستخلاص النتائج الخالية من الانطباعات أو المواقف الشخصية ، والأغراض والمصالح التي تكرس واقع الصراع والنزاع، بل الغرض الوقوف على حالة الفكر كما هي ، للاستفادة منه ، ووضعه بين يدي الأجيال الجديدة للاستفادة منه وخصوصا الباحثين المشتغلين بالدعوة والإصلاح ، من أجل استيعاب هذه الأفكار والاجتهادات الفكرية ، ومن أجل تحقيق التواصل الفكري حتى لا يقع انقطاع في العمل الإصلاحي والنهضوي ، ليبنى اللاحق على عمل السابق، لصياغة مشروع نهضوي يأخذ بعين الاعتبار التجارب السابقة ، وخصوصا كيفية معالجة الصراعات الفكرية ، لإعادة بناء جسور التواصل من جديد.

والعلماء ورثة الأنبياء ، ورثوا العلم والحكمة والمنهج، ورثوا وظيفة الدعوة والإصلاح ، والمقصود بالعلماء ((العلماء الربانيون)) وهم عماد الناس في أمور الدين والدنيا، يقول الطبري في تعريف ((الرباني )) في سياق تفسير قوله تعالى :”إِنَّآ أَنزَلْنَا اَ۬لتَّوْر۪يٰةَ فِيهَا هُديٗ وَنُورٞ يَحْكُمُ بِهَا اَ۬لنَّبِيٓـُٔونَ اَ۬لذِينَ أَسْلَمُواْ لِلذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّٰنِيُّونَ وَالَاحْبَارُ بِمَا اَ۟سْتُحْفِظُواْ مِن كِتَٰبِ اِ۬للَّهِ… (المائدة :46). هو: ” الجامع إلى العلم والفقه، البصر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية، ومايصلحهم في دنياهم ودينهم ” (1)، فهم النبراس الذي يضيء ظلمات الجهل ، فإن صلاح المجتمعات والدول بصلاح علمائها وفسادها بفساد علمائها، بل جعل طاعة الأمراء تابعة لطاعة العلماء ، يقول ابن القيم :” فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول ، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء ، ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء ، وكان الناس كلهم تبعا، كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين ، وفساده بفسادهم “(2).

ونشير هنا إلى ثلاث واجبات للعلماء:

الأول: واجبهم تجاه الناس
يكون بتذكيرهم بواجباتهم ومسؤولياتهم الدينية والدنيوية وتوعيتهم وكشف الحقائق لهم ، قال تعالى :” فَذَكِّرِ اِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞۖ ” (الغاشية :21)، وزرع الأمل في قلوبهم ، ومحاربة اليأس والتواكل، والنظر في شؤون الفقراء والمظلومين والدفاع عن قضاياهم ، والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشجاعة وإرادة قوية، والتربية والتعليم، وبيان الحلال والحرام، ومن واجب العالم أن يساعدهم على التقرب من ربهم ؛ لأن غاية الشرع هو دوام الاتصال بين العبد وربه، قال ابن تيمية في “الاستقامة ” :(( الفقيه كل الفقيه لا يؤيس الناس من رحمة الله ولا يجرئهم على معاصي الله ، واستحلال المحرمات كفر ، واليأس من رحمة الله كفر )).

الثاني: واجبهم اتجاه الحكام
فيكون بنصحهم والتعاون معهم في كل عمل خيري إصلاحي، ومساعدتهم على تسيير الشأن العام، ونقدهم ومقاومة ظلمهم وبيان الحق لهم، ومواجهتهم ومقاومة فسادهم وطغيانهم وظلمهم وفضح مكايدهم ومجابتهم بقوة من غير خوف ولا تردد يقول الله تعالى لسيدنا موسى :” اَ۪ذْهَبَ اَنتَ وَأَخُوكَ بِـَٔايَٰتِے وَلَا تَنِيَا فِے ذِكْرِيَۖ (41) اَ۪ذْهَبَآ إِلَيٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُۥ طَغ۪يٰ (42) فَقُولَا لَهُۥ قَوْلاٗ لَّيِّناٗ لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْش۪يٰۖ (43)”(سورة طه).وقال تعالى في بيان أن القوة والشجاعة والتضحية في سبيل الله من صفات العالم الحق : “اِ۬لذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ اِ۬للَّهِ وَيَخْشَوْنَهُۥ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً اِلَّا اَ۬للَّهَۖ وَكَف۪يٰ بِاللَّهِ حَسِيباٗۖ (الأحزاب :39)”.

الثالث: الحفاظ على وحدة المسلمين
ومن أهم واجبات العلماء في كل زمان العمل على جمع الكلمة وتوحيد المسلمين، وحماية الجامعة الإسلامية ، وتدبير الاختلاف بين المسلمين على اختلاف فرقهم ومذاهبهم ومدارسهم الفكرية والسياسية والطائفية ، وهذه مهمة جليلة وواجب عظيم للعلماء الربانيين ، لأن وحدة المسلمين وجمع كلمتهم مقصد عظيم من مقاصد الوحي ، فقد خاطب القرآن الكريم المسلمين بالاعتصام بحبل الله المتين ، وعدم التفرق في الدين ، وهذا مافقهه الإمام الشافعي فقام -بما وضعه من منهج أصولي- بتضييق دائرة الصراع العلمي والفكري بين مدارس الفكر الإسلامي ، (( قال أحمد بن حنبل مازلنا نلعن أهل الرأي ويعلنوننا حتى جاء الشافعي فمزج بيننا)).

لكن إذا ترك العالم هذه الواجبات : وظيفته اتجاه الناس، ووظيفته اتجاه الحكام، والحفاظ على وحدة المسلمين، فترك التوعية والبيان وتعلق بالدنيا ، وتودد إلى الأمراء والسلاطين وتقرب إليهم على حساب مصالح ومنافع الناس، فيكون إلى جانب الحكام المستبدين داعما لفسادهم ، بعيدا عن هموم الناس ومظالمهم وانشغالاتهم اليومية ، مثيرا للنزاعات والصراعات ،مفرطا في وحدة المسلمين، غير مشتغل بتأليفها واجتماعها ، يكون قد فرط في مهمته وواجبه ، فلا يستحق وصف ((العالمية)) التي شرفه الله بها.

كان دورهم ينطلق من المسجد والمدرسة أساسا وابتداء، لكن نورهم كان يشع على كل المجتمع، والدولة بكل مؤسساتها، ولم ينسحب العلماء من وظيفة التأثير في المجتمع والفعل فيه بشكل جلي إلا بعد الاستعمار ، أو على الأصح بعد خروج الاستعمار، وقيام الدولة الحديثة، واكتساح الفكر العلماني بلاد المسلمين، حينها أبعد العلماء من مواقع التأثير ، والتفكير في الشأن العام.

كان من نتائج سقوط الخلافة العثمانية ومارافقها من دخول الاستعمار الفرنسي والبريطاني والإيطالية… معظم البلاد الإسلامية ، أكل خيراتها ، وتشويه فكرها، وتلويث ثقافتها ، وتغيير منطلقاتها، ولما خرج ترك أذنابه خلفه في دويلات متصارعة على بدائل قدمها لهم الاستعمار، متنكرين لبدائلهم الإسلامية ، فتم فصل الإسلام بقوانينه وآدابه وأخلاقه عن الحياة ، مكتفين بقانون الأحوال الشخصية فقط، كما تم تغييب العلماء وإبعادهم عن مواقع القرار، وتحجيم دورهم وقصر مهمتهم في المساجد ،ووزارات الأوقاف، والكليات الشرعية ، والإفتاء في الفقه الفردي من وضوء وحيض ونفاس..،لا يتجاوزونها إلى الفقه العام : فقه الدولة وسياستها ونظام حكمها ، وبذلك تمت علمنة الدولة.

وبناء على هذا الوضع قام علماء مصلحون ملؤوا الفراغ الفكري والفقهي باجتهاداتهم وآرائهم الفقهية الجامعة بين فقه الفرد وفقه الدولة وسياستها، وفقه العلاقة مع الآخر ، ونقده ورد شبهه ، وتقديم بدائل حضارية ومشاريع فكرية أعادت الاعتبار لدين الأمة ولهويتها، وبثت الثقة في نفوس أبنائها، وعلى إثر أعمال هؤلاء المصلحين تأسست الحركات الإسلامية ،وبذلك نشأ فكر إسلامي جديد مؤسس على الاجتهاد الإنشائي من الوحي، والاجتهاد الانتقائي من التراث، فكانت صحوة إسلامية حقيقية أعادت الاعتبار للدين ولعلمائه على اختلاف تخصصاتهم، ودعمها العديد من العلماء ، ورفضها بعضهم وخصوصا الموالون للحكام المستبدين أذناب الاستعمار.

ونسأل الصراع من جديد بين علماء الصحوة الإسلامية والأنظمة الشمولية المستبدة، ـ بعد ما كان الصراع قديما مع الاستعمار والفكر الدخيل ـ لأن هذه الأنظمة اعتبرت هذه الصحوة منافسة لها على حكم البلاد والعباد، لأنها تقدم بدائل سياسية لإدارة الشأن العام، على خلاف ما كان عليه الفقهاء التقليديون، فامتلأت السجون بآلاف المعارضين السياسيين والعلماء وأزهقت في سبيل بقاء هذه الأنظمة الشمولية أرواح زكية، وضاع شباب يافع، وذاق الناس مرارة السجون، وضياع الحقوق، لا لشيء إلا أنهم قالوا: ربنا الله، إلا أنهم قالوا: نريد أن نرجع لهويتنا وأحكام ديننا، وهذه بدائلنا ومشاريعنا، فخيرت الأنظمة الشمولية الناس بين الفقر والحاجة وضياع الهوية، وبين الاستبداد والتحكم، ولا خيار ثالث.

تمتعت اللوبيات الحاكمة وزبانيتها بخيرات البلاد، ومعهم علماء البلاط على حساب عموم الشعب وقواه الحية، وفي ظل هذا الوضع لعبت الأنظمة على الصراع الطائفي والمذهبي، زكت هذه الصراعات وحرصت على عدم تسويتها وإدارتها وتدبيرها، بل استعملتها لصالحها، من أجل إلهاء الشعوب بمعارك هامشية عن قضاياها الجوهرية المصيرية، نشبت الصراعات واتسعت دائرة الاختلافات، وفشا الجهل والأمية والفقر والحاجة ،والسبب واحد هو الاستبداد.

لكن أين علماء الأمة ؟ ، أغلبهم -إلا من رحم الله- تحت رعاية وإمرة الحاكم ، يسبحون بحمده ويسجدون السجود القبلي والبعدي له ، رضي العلماء بأن يعيشوا على الهامش ، مكتفين بما حدد لهم من وظائف، ولا يتطلع أحدهم إلى أن يشارك برأيه أو يقول كلمته خوفا من بطش الحاكم ، وإذا تكلم عالم، ذكروه بأحاديث الطاعة وما جاء فيها، وحذروه من الفتنة وضباع بيضة الإسلام ، وسارت وصية عمرو بن العاص رضي الله عنه لابنه عبد الله: “سلطان غشوم ظلوم خير من فتنة تدوم” قاعدة مقدسة في فقه السياسة الشرعية.
ـــــــــــــ
هوامش
(1):جامع البيان في تأويل القرآن ، الطبري (ت :310 هجرية ) ، تحقيق :أحمد محمد شاكر ،مؤسسة الرسالة ، الطبعة الأولى ، 2000، الجزء السادس صفحة 544.
(2):إعلام الموقعين عن رب العالمين ، ابن القيم الجوزية (ت :751 هجرية)، الطبعة الأولى، 2003 الجزء الثاني ، الصفحة 16.
(3):د. محمد الصادقي العماري، موقف العلماء من الصراعات الفكرية – دراسة في الفكر والمنهج – الطبعة الأولى 2020، إصدارات منتدى العلماء.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.