18 أبريل 2025 / 19:36

من يمشي من أجل غزة ومن يغنم من مسيراتها

عبده حقي
إنني لا أهاجم النوايا الطيبة، ولا أستخفّ بدمعة حارة ذرفت بصدق من أجل أطفال غزة وهم يئنون تحت ركام وردم البيوت والمدارس والمستشفيات، لكنني، كمواطن مغربي حر ومستقل يرى في كل مسيرة ومظاهرة احتجاجية أيام الجمعة زخمًا من الشعارات وغيابًا للمساءلة الحقيقية، بدأت أتساءل: من يستفيد حقا من هذه المسيرات المتكرّرة التي تُقام تحت شعارات طنانة في طليعتها “نصرة فلسطين”؟

من يربح إذن وراء صراخ الحناجر وزخرفة ألوان اللافتات وتلويحات الكوفيات؟ هل لا تزال هذه الحشود العربية أصواتا لضمير شعوبها، أم تحوّلت إلى منصات للارتزاق والمزايدات السياسية !؟

لقد صرت أشاهد في كل مسيرة “للتضامن مع غزة” نفس الوجوه الطافحة بالثراء والنعمة التي تملأ شوارع العواصم بشعارات تفيض حماسة، لكن في خلفية الصورة، وخلف الأكمة ما خلفها ، تتخفى رائحة كريهة أخرى هي : رائحة الاستثمار السياسي والدعائي الذي لا يخجل من ركوب موجة الدماء الفلسطينية.

إنني لم أعد أصدق أن الكوفية المرفوعة في يد الزعيم الإخواني أو الحزبي تعبّر عن تضامن نقي وصادق، بل عن دعاية انتخابية سابقة لأوانها مغلفة بعبارات الجهاد والتحرير والنصرة، خصوصًا حين يكون هذا الزعيم من تيار إسلاموي، يستغلّ مأساة غزة ليعيد تصدير نفسه على أنه “المدافع عن قضايا الأمة”، في حين أن همه الحقيقي هو صناديق الاقتراع، وليس توابيت القتلى ومخيمات اللاجئين.

أعرف أن ما أقوله قد يُعتبر “تطاولًا” على مشاعر الحشود العربية ، لكنني أقوله من منطلق وعي يزداد مرارة كلما رأيت لافتة ممولة من جمعية تدّعي دعم الشعب الفلسطيني، بينما مكاتبها تعجّ بصور الرفوف الفارغة والملفات المغلقة… إلا من تقارير جاهزة للحصول على الدعم المالي من الحكومات.

نعم، الدعم المالي، تلك الكلمة المفتاحية في حكاية طويلة من الفساد الناعم والحربائي. تحت غطاء التضامن، تتدفق أموال دافعي الضرائب إلى حسابات جمعيات عربية تنفعل كثيرًا عن فلسطين، لكنها تفعل قليلًا، إن لم نقل لا شيء.

في كل عام، تمنح الحكومات العربية مبالغ ضخمة لما يسمى “النسيج الجمعوي”، القليل منها يضخ، كما يُقال، لدعم القضية الفلسطينية، لكن لا أحد يسأل: أين تذهب هذه الأموال بالضبط؟ كم من طفل في غزة استفاد من تبرعات جمعية “دعم الأقصى”؟ كم من مستشفى تلقى معدات طبية أو أدوية مستعجلة؟

الواقع أن كثيرًا من هذه الجمعيات العربية أصبحت شركات مغلقة تسوّق لنفسها عبر القضية، وتحجّ إلى الجرح فلسطيني في موسم الغنائم.

ثم هناك الأحزاب الإسلاموية، التي وجدت في حرب غزة فرصة نادرة للعودة إلى الواجهة. فهي لا تكتفي بالتظاهرات، بل تصنع من كل مسيرة استعراضًا لقوتها التنظيمية والشعبوية. تتلفع بفلسطين عباءة لها، وتخرج بخطابات نارية تعيد تدوير “روسيكلين” نفس المفردات: الأمة، الشهادة، الصمود، التحرير. لكنها لا تقول لنا كيف ستترجم هذه الخطابات إلى مواقف عملية على الواقع، ولا تكشف لنا مَن يموّل اللافتات ولا كيف تُصرف الميزانيات.

منذ بداية الحرب على غزة يوم السابع من أكتوبر المشؤوم ، وأنا أتابع كيف تحوّلت الساحات العربية إلى مسارح يرتدي فيها الجميع أدوار البطولة المهزومة .

وهناك دائمًا جمهور من البسطاء البؤساء ، يصدقون أن رفع العلم الفلسطيني في شوارع الرباط أو بروكسيل أو نيويورك هو نوع من المقاومة. لكنني أرى، بمرارة، أن المسألة لم تعد مسألة تضامن، بل باتت استغلالا للقضية ليس إلا. لقد صارت فلسطين، للأسف، مطيّة للربح، وسلعة تُعرض في بورصة السياسة العربية ، ويُزايد بها كل من فقد البوصلة البراغماتية .

وأكاد أصرخ: إن القضية الفلسطينية، يا سادة، لن تتحرر من خلال مهرجانات خطابية ولا من خلال مسيرات مليونية لا يعرف بعض المشاركين فيها موقع غزة ولا خان يونس على الخريطة. إن الحل ليس في الشارع، بل في عقول الفلسطينيين أنفسهم، في قدرتهم على التوحد، على بلورة مشروع سياسي حقيقي يفرض نفسه على المجتمع الدولي.

كما أن التحرير لا يأتي عبر خطب الجمعة المختومة برفع أكف الضراعة “لإغراق إسرائيل” في البحر أو بيانات الإدانة العقيمة . بل من قرار وطني مستقل يصنعه الفلسطينيون أنفسهم ، بعيدًا عن وصاية القوى الإقليمية التي تبيعهم في الكواليس، وتبكي عليهم في الشوارع.

إن الحق الفلسطيني لن يعود بمئات المسيرات في شوارع الرباط وطنجة وكازابلانكا، بل بقرارات شجاعة على الأرض، بمصالحة حقيقية بين الفصائل، ببرنامج مقاومة ذكي، لا خطابي.

أما نحن، فعلينا أن نخرج من دائرة النفاق الجمعوي والسياسي. علينا أن نسأل أنفسنا: كم مرة تظاهرنا منذ النكبة ثم النكسة ؟ وكم مرة تساءلنا فعلًا عن جدوى تلك التظاهرات؟ لا يمكن أن نظل نرقص على جراح الآخرين، ثم نعتبر أنفسنا “مناضلين”.

إن التضامن الحقيقي لا يكون بالشعارات، بل بالفعل وإن لم يكن فبالصمت المثخن بالوعي أنبل من صخب أجوف يملأ الشارع ويُفرغ الحقيقة من معناها.

صدقوني أيها السادة:

لقد وصلت إلى قناعة شخصية مؤلمة: كلما ارتفعت أصوات التضامن المفتعل، تراجع صوت الحقيقة. وكلما زاد عدد الجمعيات والهيئات “الداعمة” لغزة، ازداد ابتعادنا عن الانفعال والفعل الصادق.

إننا في زمن يُباع فيه حتى العذاب الفلسطيني في علب مزينة بالخطاب الثوري، ويُشترى عبر صناديق الانتخابات أو دفاتر شيكات الدعم الجمعوي.

إن فلسطين ليست وسيلة لإعادة تدوير الذات الحزبية. وليست مشجبا نعلّق عليه خيباتنا السياسية، أو وسيلة لتلميع صور قادة حزبيين يبحثون عن شعبية زائفة. إن فلسطين هي قضية حرية، والحرية لا تتجزأ، ولا تُؤجَّر، ولا تُشترى. وإن لم نستطع نصرتها بصدق، فلنصمت، على الأقل، احترامًا لدماء الشهداء الأبرياء.