ملاحظات وتعليقات على ما قيل في الشيخ بوخبزة من الرثاء

عبد الله الجباري
آراء ومواقف
عبد الله الجباري10 فبراير 2020آخر تحديث : الإثنين 10 فبراير 2020 - 9:11 صباحًا
ملاحظات وتعليقات على ما قيل في الشيخ بوخبزة من الرثاء

عبد الله الجباري
توفي بتطوان بحر الأسبوع المنصرم الشيخ محمد الأمين بوخبزة رحمه الله تعالى، وتفاعل مع الحدث كثير من الشباب والمهتمين على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي، وعبر المواقع الإلكترونية، ولجأ البعض إلى صناعة القريض، علّه يرثي الشيخ شعرا، دون أن يكتفي بتعداد مناقبه نثرا وحكيا.

اطلعت على ثلاث قصائد شعرية قيلت في رثاء الراحل رحمه الله، وبعد التأمل فيها، تبينت لي ملاحظات متعددة، يمكن إجمالها في الآتي:

القصيدة الأولى لتلميذه عمر الحدوشي، وهو من متمشيخي الحركة السلفية القتالية/الجهادية، نظمها بعد أن رأى الراحل “يبتسم ويتفاعل معه أثناء تغسيله”، ومن أبياتها:

لئن أبو خبزة وافاه الحمام // فقد مضى يصحبه أسنى سلام

شيخ الشيوخ العالم العلامة // ترك العلامة له علامة

فكم مشايخ له أو طلبة // له ومن مكتوب أو مكتبة

يثني عليه الحال والمقال // وهكذا فلتكن الرجال.

إلخ القصيدة، وهي ليست من الشعر، وليس الشعر منها، وعلاقتها بالشعر كعلاقة ناظمها بالوسطية والاعتدال، وهي منظومة تقريرية لا أحاسيس تُظهر، ولا مواجع تُبدي، ولا جمالية في أبياتها، ولا بلاغة في تراكيبها، وهي نثر مرصف على وزن بحر، لذا لا نتوقف عندها، ولا نلتفت إليها، و[ترك العلامة لها علامة].

القصيدة الثانية للدكتور محمد الروكي، نظمها من المدينة المنورة على صاحبها أزكى الصلاة والتسليم، وهو من علماء المغرب الذين يتفاعلون مع الموت نظما، وسبق له أن نشر قصائد في رثاء زميله الدكتور التهامي الراجي والأستاذ يوسف الكتاني رحمهما الله وغيرهما، ومن أبيات مرثيته في الراحل بوخبزة رحمه الله:

أقول ودمعي هامعٌ بين أجفاني // وقلبي به جرح ينوء بأحزاني

أرى العلماء الصالحين تعاهدوا // على رحلة محتومة عند خِلاّن

فكم عالم قد مات من بعد عالم // وكم ذرفت دمعا لذلك عينان

وها هو ذا يمشي إليهم بلهفة // بقية أسلاف ومُسنِدُ تطوان

إلخ قصيدته التي ختمها بالدعاء للراحل، وهي قصيدة لا نشم منها رائحة للبلاغة كما قال أبو نواس عن قصيدة المأمون، وأتوقف فيها عند وصفه له بـ[مسنِد تطوان]، وهي عبارة تدل على أن الدكتور الروكي لا يعرف الراحل، أو لا يعرف معنى المسنِد في اصطلاح المحدثين، أو لا يعرفهما معا.

[المسنِد] في الاصطلاح هو الذي يروي عن عدد وافر من المشايخ الذين يعتنون بالرواية والإسناد، وهو نوعان، [مسنِد] مطلق، أو [مسند] نسبي.

المسند المطلق هو المسند الذي يروي عن شيوخ الرواية من أقطار مختلفة، مثل الشيخ عبد الحي الكتاني الذي يروي عن شيوخ من المغرب الكبرى ومن مصر والحجاز وغيرها، حصّل ذلك بفعل رحلاته التي قام بها في حياته، ونظرا لاهتمامه الكبير بالإجازات، وصفه الشيخ البشير الإبراهيمي بـ”مجنون الرواية”، ومثل الشيخ محمد ياسين الفاداني المكي الذي يروي عن شيوخ من المغرب ومصر والشام والعراق والحجاز واليمن وأندونيسيا وأفغانستان وغيرها، وكان “مسند الدنيا” بحق، دون أن يقوم بالرحلة كما فعل الكتاني، لأنه كان مقيما بمكة التي تجبى إليها ثمرات كل شيء.

المسند النسبي هو الذي يروي عن عدد وافر من شيوخ بلد ما، كمسند البصرة، أو قُطر، كمسند الشام، والشيخ بوخبزة لا يروي عن أحد من شيوخ الرواية بتطوان، فكيف يستسيغ نعته بمسند تطوان؟

أما المغرب الكبير، فإنه لا يروي إلا عن شيخه أحمد بن الصديق وهو عمدته، وعن عبد الحي الكتاني وعبد الحفيظ الفاسي والطاهر ابن عاشور، ولم يمكنه الثلاثة من إجازة مكتوبة، ويروي حديث الأولية عن محمد المنوني، ومَن هذا حاله لا يسمى مسندا على الإطلاق.

وإذا تجاوزنا المغرب إلى المشرق، فإنه لا يروي إلا عن الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وهذا الأخير نفسه ليست له أسانيد، وليس من أهل الرواية ولا ممن يهتم بها، ولما أهدى بعض كتبه للشيخ بوخبزة، قال له: آخذها منك مناولة، وهي ليست من أقوى طرق التحمل في وقت الرواية، أما في عصرنا فهي كالعدم، لأنه لا فرق بين أن يناولك الشيخ كتابه المطبوع، وبين أن تشتريه من المكتبة، لأن محصلتهما واحدة.

ومما له تعلق بالشيخ الراحل، أنه زاره أحد المشارقة الذي سبق له أن توصل بإجازته المكتوبة عبر أحد الوسطاء، وأراد أن يسمع منه مباشرة، فطلب منه أمام جمع؛ وذلك منشور على اليوتيوب بالصوت والصورة؛ أن يجيزه بالحديث المسلسل، فأجابه بقوله: [أنا ما عندي من المسلسلات إلا حديث المسلسل بالأولية]، فطلب منه أن يُسمعه إياه، فأجابه الشيخ الراحل: [أنا لا أحفظ سنده، طويل هذا … وهو كما تعلمون من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم]، وذكر متن الحديث الثاني، وهو الحديث المسلسل بالمحبة دون إسناد أيضا، وبيّن أن الحديث الأول يرويه عن محمد المنوني.

من خلال هذا النص، يتبين لنا الآتي:

** الشيخ بوخبزة كان مقصودا للإجازة بحديث الأولية، ورغم ذلك لا يحفظ سنده، وهذا غير سائغ من المسنِد أو الراوي إطلاقا. وسبق أن سمعنا هذا الحديث من شيوخ، يذكرون إسنادهم من شيخهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بكل الضبط والإتقان، ولو التقى أحد بالشيخ محمد الحسن ولد الددو أو بأبي الهدى يعقوبي أو غيرهما بدون ميعاد، وطلب منهما في أي شارع أو زقاق أن يذكرا له سنديهما لحديث الأولية أو لصحيح البخاري لأملياه عليه في اللحظة، وهذا معروف عند المبتدئين.

** الشيخ بوخبزة لا يروي – باعترافه – من المسلسلات إلا حديثين اثنين، ومن هذا شأنه لا يعد مسنِدا.

** الشيخ بوخبزة لم يستطع أن يذكر من إسناد الحديث إلا راويه الصحابي، ولم يستطع أن يذكر إسناده من المصنفين إلى الصحابي على الأقل، كأن يقول: أروي هذا الحديث بالسند المتصل عن الترمذي أو أبي داود أو أحمد عن سفيان عن عمرو عن أبي قابوس عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى هذا السند لا يحفظه.

هذه الملاحظات تبين أن الدكتور الروكي لا يعرف الشيخ الراحل ومكانته الإسنادية، وأن وصفه ليس إلا مبالغة منه.

القصيدة الثالثة لتلميذ الشيخ الراحل الدكتور بدر العمراني، وهي قصيدة متوسطة، اجتهد صاحبها في تضمينها بعض الغريب مثل [أوشال – الفند]، ولنا عليها بعض الملاحظات نوجزها في الآتي:

قال الشاعر في رثاء شيخه:

أُقلّب الطرف لا ألوي على أحد // وأذرف الدمع مهتاجا من الكمد.

وعبارة [لا ألوي على أحد] متداولة بكثرة في الشعر العربي، وهي مرتبطة بالمسير والمشي أو الهروب والفرار، حيث يعبر الشاعر أنه يمشي دون التفات، ومنه قول المتنبي في إحدى غزلياته الجميلة:

فَسِرتُ نحوكِ لا ألوي على أحد // أحُثّ راحلتَيَّ: الفقر والأدبا.

والمسير غير مذكور في المرثية التي بين أيدينا.

أما عبارة [أقلب الطرف] فبقيت بدون معنى، أين يقلب الشاعر الطرف؟

وبالرجوع إلى المتن الشعري، نجد الشعراء غالبا ما يستعملون بعد هذه العبارة [في] أو [بين] ليستقيم المعنى، مثل قول المتنبي:

بالشرق والغرب أقوامٌ نحبهمُ // فطالعاهم وكونا أبلغ الرسلِ

وعرفاهم بأني في مكارمه // أقلب الطرف بين الخيل والخولِ

وقول حاتم الطائي:

ومرقبة دون السماء علوتها // أقلب الطرف في فضاء سَباسب.

وبقية البيت: [وأذرف الدمع مهتاجا من الكمد]، جمع فيه بين الهيجان والكمد، وهو جمع لا يستقيم إلا بتمحل في التوجيه، لأن [مهتاجا] من الهيجان، مثل قولهم: تيس أو ثور مهتاج، ومن معانيها: ثائر وحانق …، أما [الكمد] فالحزن الشديد المكتوم.

هنا جمع الشاعر بين الهيجان الظاهر، والكمد المكتوم، بل جعل الكمد سببا للهيجان.

بالرجوع إلى المتن الشعري نجد قول الشاعر:

إني سُررت ومما سرّني لكمُ // موت الحسود بما يلقى من الكمد

وقال أبو العلاء المعري في شرح ديوان المتنبي: “الكمد: وجْدٌ يستره الإنسان”، والستر لا يكون بالاهتياج.

ومن نماذج الاهتياج قول أحدهم:

أرِقتُ لذكره من غير نَوب // كما يهتاج مَوْشي ثقيبُ.

ومعناه أن اهتياج صدره من الحزن كاهتياج المزمار، والمزمار ذو صوت، وليس ساكنا كالكمد.

ويمكن الجمع بين الاهتياج والكمد دون أن يكون الثاني سببا للأول، كقول ذي الرمة:

يا دار مية بالخلصاء فالجرد // سقيا، وإن هجت أدنى الشوق للكمد.

وهو بمعنى أن الشوق كان ساكنا فهيجته.

ولو قال الشاعر [وأذرف الدمع مهتاجا من الفَقَد] لكان أفضل، لأن الإنسان يغضب ويهتاج أحيانا لفَقد الحبيب والقريب، ودوننا خطاب عمر بن الخطاب للصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصرفه إذ ذاك.

هذا الدمع الذي يذرفه مهتاجا، سيكوي به وجنته في البيت الثاني:

أكوي به الخدّ أوشالا لوجنته // من فرط وجْدٍ تنامى غِبّ محتَشَدِ.

والدموع لا تكوى بها الخدود، وهذه استعارة يصعب توجيهها، ولو قال [أسقي به الخد] لكان أوضح وأليق، لأن السقي ريٌّ دالّ على كثرة الدموع وانهمارها.

وكلمة [وجْد] لا تُستعمل في الرثاء والحزن على الأموات، بل في المدح والعشق والفرح ومكابدة الأشواق في الغزل وغيرها من المعاني، مثل قول طرفة:

ولم يُنسني ما قد لقيتُ، وشفَّني // من الوجد، أني غير ناسٍ لقاءَكِ.

وقول ابن نباتة:

دارٌ عرفتُ [الوجدَ] منذُ أتيتها // زمنَ الوصال فليتني لم آتها.

وقال البحتري في هيامه:

هلا بكيت وقد رأيت بكاءه // ودنفت حين سمعت شكوى المدنف

فلأجرين الدمع إذ لم تجره // ولأعرفن [الوجد] إذ لم تعرف

وأنا المعنف في الصبابة والصبى // وعليهما إن كنت غير معنف

وهذا في الشعر كثير، وبناء على الاستقراء، قال مرتضى الزبيدي في تاج العروس: “وجد به وجدا، بفتح فسكون، في الحب فقط، وإنه ليجد بفلانة وجدا شديدا، إذا كان يهواها ويحبها حبا شديدا”. أما استعمال [الوجد] في الرثاء فلا يرقى بالقصيد ولا يكسوه جمالا.

ثم قال الشاعر في مرثيته:

أحزان تترى توالت بالجوى شُجنا // ترخي ظلالا بها الأنفاس في نَكَد

يتفاعل الشاعر هنا مع الأحزان المتعددة توالت عليه، وليس مع حزن واحد متمثل في فَقْد شيخه الراحل، لكنه لم يبين لنا تلك الأحزان قبل هذا البيت، فهل هي أحزان عاشها وأحداث تحمّل معاناتها، ثم تلاها موت الشيخ؟ أم تضخيم وتهويل ليس إلا.

ثم قال الشاعر بعد أبيات:

أُمُّ اللُّهَيْم أثارت في الحشا حَزَنا // خطفا لسبط رسول الله معتمد

الله صلى على نور الهدى كرما // ما هبّ نفخٌ بلا حصر ولا عدد

[بوخبزةٍ] نجمُ تطاوين بل في الدنا // للعالمين تسامى في ندى الرَّشَد

نفاجأ بتخصيص بيت للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو البيت الثامن، وبعده أبيات أخرى، وهذا شذوذ عن سَنن الشعراء الذين يجعلون التصلية مع الحمد والثناء في مفتتح القصيدة تبركا، أو يجعلونها مسك ختام القصيدة، وفي حالات القصائد الطوال، قد يكرر الشاعر بيتا للتصلية إشعارا بالانتقال من موضوع إلى آخر، ويكون ذلك البيت لازمة متكررة.

وكل هذه الحالات غير متحققة في مرثيتنا.

وفي بيت التصلية عبارة لا نظير لها في الشعر العربي، وهي قوله: [ما هبّ نفخٌ]، وهذه ليست عبارة رقيقة، وليست عبارة شاعرية، وليست عبارة صالحة في النثر بله الشعر، ولو قال [ما لاح نجمٌ] لارتقت العبارة، ولمَا اختل النظم.

أما [بوخبزةٍ نجمُ تطاوين بل في الدنا] فسليمة، إلا أن التعبير عن المشاعر، والإشعار بقرب الشاعر من الراحل، تقتضي تجليتها بعبارات أخَر، مثل:

[شيخٌ لنا، نجم تطاوين بل في الدنا] أو:

[نجمٌ لنا، نجم تطاوين، بل في الدنا]. هنا سيستقيم المعنى، وينتقل من خاص الخاص إلى الخاص ثم إلى العام. وكل هذه التغييرات لا تخل بالنظم، وتسمو بالمعنى.

ثم قال الشاعر:

قد كان جُنّةَ طلاب الفوائد في // بذل المعارف إكراما لمنتشد

وضبط [جنة] بضم الجيم، ومعناها: الوقاية، وهل كان الراحل وقاية لطلاب الفوائد أثناء بذله للمعارف؟

لو ضبط الكلمة بفتح الجيم لكان أفصح وأولى، لأنه سيصف معارفه التي بذلها لطلابه بالجنة المتنوعة الفوائد والفرائد. ولو أدخل بعض التعديلات لاستقام ضم الجيم، كأن يبين أنه كان يقي الطلبة من جشع أصحاب المخطوطات، أو شبه ذلك.

وتضمن البيت كلمة [منتشد]، وتضمنت القصيدة كلمتي [منسرد]، و[مفتئد]، في البيتين:

يحيي موات رقاق بالبلى خرقت // يبدي نضارتها في زي منسرد

الأرض ضاقت بلا سلوى ولا أثر // أدنو إليه فيشفي حر مفتئد

ما هي أفعالها؟ هل هي: انتشد، انسرد، افتأد؟ وهل سبق استعمال هذه الكلمات في الشعر والنثر؟

ثم قال في قصيدته:

لا زال صوت صداه يزدهي بفضا // ء الكون إشراق حق مُشهدا صمدي

الصواب: ما زال. وليس: لا زال. وهذا خطأ شائع، وقد يستساغ تجوزا من غير الأدباء.

ثم الجمع بين [الصوت] و[الإشراق] لا يستقيم، والإشراق يكون بالصورة، كإشراقة الوجه مثلا، لأن الإشراق في الأصل لا يتحقق إلا بالصورة والمنظر، كإشراق الصبح أو إشراق النور أو إشراق البرق أو إشراق الشمس، ولا يذكر الشعراء [الإشراق] مع الأصوات، كأن يصِفوا أصوات الطيور بأنها إشراقة الصباح، وهذا من ركيك المعاني التي لا يقع فيها فصيحُ الشعر. ونتأمل قول ابن نباتة:

نسبٌ من الأنصار زان سماءه … من ولده حرس من الأحراس

المشرقين إذا ادلهمت حالة … إشراق ضوء الصبح في الإغلاس

قال الشاعر في رثائه:

الفقه يذكره، والخط ميسمه // بين الورى بمثالٍ جدّ منفرد.

لا نقول: [جد منفرد]، لأن [جد] تُستعمل في حالة الاشتراك لإدراك التمايز أو المفاضلة بين المشتركين، أو للفرز بينهما عن طريق المبالغة، أو لبيان الاجتهاد في ذلك الأمر، كقولنا: “جِدّ بعيد” أو “بعيد جدا”، لأنه قد يكون عندنا بعيدان، أحدهما بُعده أشد من الآخر، ومنه قول قطري بن الفجاءة:

لعمرك إني يوم ألطم وجهها // على نائبات الدهر جدّ لئيم.

وهو سائغ لوجود اللئيم، ووجود من هو أكثر لؤما منه [جد لئيم].

وقول البحتري:

كالبدر أفرط في العلو وضوؤه // للعصبة السارين جد قريب

وهو استعمال جائز لوجود القريب، ووجود من هو أشد قربا منه [جد قريب].

أما [جد منفرد] فلا تستقيم، لأن المنفرد والمتفرد والفرد واحد لا ثاني له، فلا نقول: فلان منفرد، وفلان أكثر تفردا منه.

وقال الشاعر في رثاء شيخه:

أخلاق مَكرُمة زانت شمائلَه // ما شذ عنها ولا ارتدت إلى الفند.

هذا بيت مستغرب، لأن الأخلاق لا تزين الشمائل، والشمائل هي الأخلاق، قد تزين الأخلاق غيرَها أو تزيده حسنا وزينة، كقول البوصيري رحمه الله:

أكرِم بخَلق نبي زانه خُلق.

أما قوله: [ما شذ عنها ولا ارتدت إلى الفند] فغلو مذموم، ومجانبة للواقع المعروف عن الشيخ رحمه الله تعالى، فإنه كان يشذ عن مكارم الأخلاق كغيره من الناس أو أكثر، لذا كان يميل إلى [الفند]، والفند هو القول القبيح، والفحش والخطأ في الرأي، وكل أصحاب الراحل يعرفون كيف كان ينبز خصومه وهم من العلماء الكبار، وذلك مسجل في نثره ونظمه، ورُفعت عليه دعوى قضائية حول فنده المضَمّن في كتبه، وحكمت المحكمة لصالح المشتكي. فكيف نقول: [ولا ارتدت إلى الفند]؟.

من أراد أن يثني على الرجل ويمدح خصاله وينوه بها فله ذلك، ولكن الكذب حرام، ولنتذكر مقولة “شيخ الإسلام عزيز علينا، والحق أعز علينا منه”.

هذه مسامرة أو محاورة لقصيدة الأستاذ بدر العمراني الذي رزئ بفقد شيخه المقرب، ومنها ملاحظات تمس الشكل، والشكل في الشعر جوهرٌ أيضا، لأن الشعر بدون جماليات وإبداع، ليس شعرا، والشعر بدون تخصيب الكلام وتوليد المعاني ليس شعرا، والشعر سحر يأخذ بالألباب، وإن استوى مع النثر كان رفضه أولى، قال بنبراهيم شاعر الحمراء:

وكم شاعرٍ قد جاءني بقريضه // فأمعنت فيه ثم قلت له: تبّا.

وقال قبل هذا البيت:

وما الشعر إلا ذَوْبُ قلب تصوغه // لتسكبه في قلب سامعه سَكبا

وما الشعر إلا وحيُ سحرٍ بل إنه // على السحر في أخذ النفوس لقد أربى.

والشعر العربي وإن كان في الهجاء أو الرثاء، فإننا نلمس فيه الجمال والإبداع وسموق المعنى، وما مراثي الخنساء منا ببعيد، وللمعاصرين مشاركات بديعة، كقول شاعر الحمراء في رثاء جميل صدقي الزهاوي العراقي:

توسّدْتَ قلبي ثم نِمْتَ ولم تمُت // فما مات من صار الفؤادُ له تُرْبا.

هذه المعاني تكاد تكون غائبة في القصائد الثلاث المذكورة، وهو ما نلفت الانتباه إليه قصد تلافيه من قِبل المتعبدين في محراب القصيدة المحترقين بلهيبها، بهدف التجويد والسموق، وأتقاسم مع القراء في ختام هذه المسامرة أبياتا منتقاة من قصيدة جميلة بديعة، رثى بها الشيخ عبد السلام جسوس شيخه محمد بن عبد القادر الفاسي رحمهما الله، ولنتأمل جماليتها وما تضمنته من المحسنات البديعية.

سهمُ المنية في الأكباد مرماه // أشكو إليكم أُهَيل الوُدّ بَلواه

فالخِلُّ يبدي إلى الأحباب لوعته // هم يعطفون له إن بثّ شكواه

لأجله بضعة المختار حين قضى // بَكَت، وقالت: إلى جبريل أنعاه

أنعى إليكم أُهَيل العلم قاطبةً // مصيبةً نقضت للصبر مبناه

خَطبٌ ألمَّ بهذا الغرب أوهَنَه // فخْرُ الأئمة فيه الموت أفناه

قد هال عقليَ والأعضاء قسّمها // هلاّ كفاه الذي قد كان أمضاه

الجسمَ أرهقه، والطرف أرقده // والصبر فرّقه، والدمع أجراه

والنومَ شرّده، والشمل بدده // والقلب قيده، والخدّ أدماه

جلّت مناقبه، عزت مراتبه // جمّت مواهبه، كالشمس مرآه

كم قد جلا غيهبا عن وجه معضلة // كم مشكلٍ مشكلٍ للفهم أبداه

الجوهر الغض قد صاغ منطقه // والزهر ما رقمت في الطرس يمناه

إن جئت مجلسه السامي رأيت به // بدرا تحفّ به منّا ثرياه

لم يثنه عن طِلاب العلم ممتحَن // كلا، ولا لحَظَته الدهرَ عيناه

له شمائل لا تحصى محاسنها // منها استعير لنفح الطيب رياه

ما حار في مشكل حَبر ومَر به // إلا وأجلى له سيفا فأجلاه

فلو رأى سَبكه السبكي في درسه // أنساه ما كان في الأصول أنشاه

يا من غدا في الجنان اليومَ مسكنه // وكان وسط جنان القلب مثواه

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه // فيه العفاف وفيه الجود والجاه

لأنثرن عقود الدمع ما خطرت // في القلب خطرته أو عنّ ذكراه

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اكتب ملاحظة صغيرة عن التعليقات المنشورة على موقعك (يمكنك إخفاء هذه الملاحظة من إعدادات التعليقات)

التعليقات 4 تعليقات

  • محب العلماءمحب العلماء

    الملايين تترحم على الفقيد وترى مآثره ومحاسنه وأنت منشغل بتتبع العورات والعورات والإساءة للأحياء والأموات.
    الناس مقامات، والتوفيق عزيز.

  • الحسنيالحسني

    لا حرمك الله الذوق والأدب والمروءة، كتابة ظاهرها النقد الأدبي، ولكنك أظهرت دافعك في الطعن بالفقيد بأنه كان شاذا عن مكارم الاخلاق! فيا لها مكارم أخلاق منك أن تطعن في عالِمٍ قد انتقل حديثا إلى رحمة الله، ولا تذكر محاسنه الطافحة.، هناك فارق بين النحل وغيره، وكل إناء بالذي فيه ينضح.
    سيدي محمد التليدي نقل عن أبيه العلامة سيدي عبد الله أنه اتصل قبل موته بأسبوع باكيا ليتصالح مع الشيخ الفقيد، فليتك تتعلم من الكبار، وتدرك أن سلامة الشعور أولى من سلامة الشعر!

  • عابر سبيلعابر سبيل

    من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرَا أو ليصمت.
    عطلت نفسك ووقتك بدل كتابة شيء فيه خير للناس بكتابة سطور تنفح بلتعريض والتعالم البغيض، أين المروءة والأخلاق في احترام الأموات من العلماء، بدل أن ترثيه أنت وهو ابن بلدك تأتي وتتقعر في الهمز واللمز، أنصحك بأن تقين وزن الشعور والمروؤة عندك قبل وزن الشعر.
    استغفر الله وصحح موقفك واشتغل بما ينفعك، فإني أشفق عليك كثرة وقيعتك في أهل العلم والفضل، وتسخير قلمك في تسويد ما يضر ولا ينفع، فللناس عقول وأعين، ولن تضر بمثل هذا إلا نفسك ومن تنتمي لهم. والسلام.

  • محمد بنعبداللهمحمد بنعبدالله

    من يكتب مثل كتابنك من الحط والغمز بالأموات، والغص بما رأته الدنيا لهم من القبول، ولا يرى إلا المساوئ، هو شخص مريض نفسيا، ومن مدرسة سوداوية مريضة.
    رحم الله فقيد المغرب وعالمها العلامة محمد بخبزة.