أحمد الهاشم
لم أكتف بالاطلاع على نص المادة اللي ترجتمها بصفحة قنطرة بل تابعت حتى ندوات اونفري ومحاضراته ولقاءاته على اليوتيوب- وشكرا لهذه المنصة الرائعة- بصدد هذا الموضوع (بعضها مترجم إلى الانكليزية لمن يود الاطلاع، ولكن لم أجد أيا منها مترجما للعربية للأسف).
ميشيل اونفري طراز مختلف من الإنتجلنسيا الفرنسية ابن مزارع واشتغل عاملا، ويبدو بعيدا عن الطراز الباريسي. يقول إنه ليس يساريا ولا يمينيا بل هو مع من يقول الحق والصواب ويفعله، كانت تلك حكمة والده المزارع. وقد استحدث لنفسه صفة الليبرتير أي ليس اليبرالي او الليبرتان المنفلت، ولكن المتحرر من الانتماءات الجاهزة. علاقتي بفرويد يجسدها دفتران صغيران رافقاني في محطات السفر كلها ومازلت محتفظا بهما، كنت انسخ بعض فقرات ما أقرا من الكتب وادونها فيهما، فقد كنت أظن أن الكتاب المستعار حين أعيده لصاحبه لن احصل عليه ثانية. ولفرويد الحصة الاكبر. لم تسحرني عوالمه الذهنية فقط وإنما أسلوب كتابته المعبر الأخاذ حتى انه حصل حسبما اعرف على جائزة غوته للأدب. وشكرا لاصدقاء الصبا والشباب الذين فتحوا لي ابواب مكتباتهم. لم أأخذ بالمقولة المنسوبة لعمنا الجاحظ “غبي من أعار كتابا وأغبى منه من أرجعه أو أعاده”، شيء من هذا القبيل. وشكرا للمكتبة العامة التي كانت جارة بيتنا في مدنيتنا الصغيرة. ويا للأسى حين رأيت جارتنا المكتبة وقد عصفت بها رياح السياسة إذ انقرضت أو تحولت إلى مقر حزبي ثم مقر إلى إحدى الهيئات، ولا أدري آخر أطوار تحولاتها ورحلت معها ذكريات لا تنسى، وما لا أنساه اطلاقا مدير المكتبة الأستاذ الكوردي علي بابان، بعد الثمانينات رجع الى محافظته، كان خير مرشد ومعلم لصبي كان يحاول اقتحام عالم الكتب.
لا ننسى أساتذتنا المترجمين، وأولهم بالتاكيد جورج طرابيشي في ترجماته لفرويد وغيرها. يطيب لي أحيانا بزمن PDF، أن أقارن النص الفرنسي لفرويد -لأن طربيشي ترجم من الفرنسية وليس الالمانية- ونص الترجمة لدى طرابيشي لأعرف كي صاغ هذا الماهر نصا عربيا خالصا رغم أن مصطلحات فرويد كانت مستحدثة حتى في لغته الأصل الألمانية. طوبوغرافيا جديدة للنفس البشرية من اللاوعي الى الهو إلى الأنا والأنا الأعلى واليبيدو.. إلخ. لكن طرابيشي لم يترجم تفسير الأحلام لأنه رأى أن ترجمة مصطفى صفوان لهذا الكتاب وافية كافية، وهي حقا تحفة في الترجمة، وترجم ظاهرتيات الروح لهيجل بعنوان “علم ظهور العقل”، وأيضا أستاذنا المصري عبد المنعم الحفني.
من أهم المحاور لمن يحب الخلاصات، واود الاشارة ان المقال مكتوب بلغة مكثفة وكنائية وذات احالات وتضمينات كثيرة حاولت تبسيطها قدر الامكان، وصاحب المقال نيكولا ليفيسك كاتب وأكاديمي ومحلل نفسي أيضا.
بخصوص الاتهامات لفرويد الواردة في هذا الكتاب، نذكر منها: ليس فرويد سوى ناهب للمفاهيم الفلسفية. فرويد كانسان كائن نرجسي يحسب نفسه في مصاف داروين وكوبرنيكوس. اكتشافه المزعوم للتحليل النفسي هو في الواقع مجرد “ابتكار” لا يجدي سوى بتحليل نفسي لشخصية فرويد نفسه.
جوهر مشروع أونفري هو محاولة لإعادة إدراج التحليل النفسي في التاريخ وهو محق في وضع كتاب “تفسير الأحلام” في خانة أحد الأبناء لكتاب نيتشه “هو ذا الإنسان”، وكتاب “الاعترافات” لجان جاك روسو ، وكتاب “خواطر” لمونتين، و”اعترافات” للقديس أوغسطين.
يلاحظ أونفري، مثل أي ميتافيزيقي صالح، أن فرويد يضفي صفة جوهرية وغير تاريخية على الجنسانية والموت في النفس البشرية، وكل منهما أصبح لبيدو ونوازع وتمثيلات ومؤثرات عاطفية، بمصادر بيولوجية و/ أو أنطولوجية مزعومة. كل شيء على ما يُرام حتى الآن.
من الخطأ أن يجعل أونفري من نفسه الأخلاقي الذي يحكم على النفس الفرويدية، كما لو أن فرويد كان تحركه جميع أنواع “الشياطين” – هذه هي الصورة السخيفة على صفحة غلاف كتاب أونفري، والتي تظهر فرويد في الجحيم – كانت في حد ذاتها كافية لتشويه سمعة الرجل ومنجزه بأكمله.
، كما يقول فرويد – ترتبط طبيعتنا البشرية بعلاقتنا مع هذه الظلال. هذا هو الفرق بين أخلاق لاهوتية غيبية (لديها مشروع إخراج الظلال في حد ذاتها وجميع أولئك الذين يجسدونها من الخارج) والأخلاق الجديدة التي هي جزء من إرث نيتشه وفرويد اللذين يدعوانا للعيش مع الأشباح. في هذه القضية الأخلاقية، يحمل أونفري أحيانا دور الأب الاستبدادي الوصي على الحدود المقدسة القديمة الخيّرة (الحد السوي والمرضي، على سبيل المثال)، وأحيانا دور التحرري الذي يدعي الحق في تجاوز جميع المحرمات.
. اونفري مصيب في تشخيص المرض، ولكنه ليس مصيبا في علاج المريض. فشل أونفري في اغتنام الفرصة لدفع التحليل النفسي إلى أقصى أسئلة نيتشه. (على سبيل المثال، ألا يقودها البعد الحتمي للسيرة الذاتية للنظرية، بدلا من الجحيم، إلى الأدب والفنون والممارسات التي يكون فيها الاستبطان والتنقيب شيئا واحدا؟) لأن الحل بالتأكيد ليس شن حرب على النزعة الذاتية ومطالبة المفكرين بأن يكونوا مواطنين مثاليين للمعيار الأخلاقي!
نص المقال:
ميشيل أونفري و”أفول صنم” فرويد وتلفيقه
لم يثر أي كتاب آخر للفيلسوف الفرنسي ميشيل اونفري، نظير ما أثاره كتابه “أفول صنم، تلفيق فرويد ” أو أكاذيب فرويد أو فريته. من الواضح أن العنوان يستحضر كتاب نيتشه “أفول الأصنام” وليس ذلك بغريب على اونفري الذي يصف نفسه بأنه يساري نيتشوي ويستعيد مقولة نيتشه إن كل فلسفة ما هي إلا سيرة ذاتية لصاحبها. يشن اونفري هجوما على “الفكر” الفرويدي. يكيل لصاحب التحليل النفسي التهم، ونقول التهم لأننا هنا حقًا إزاء محاكمة، يقدم فيها أونفري نفسه قاضياً وصاحب دعوى وهي تهم مستفزة: ليس فرويد سوى ناهب للمفاهيم الفلسفية (مصدرها لدى شوبنهاور ونيتشه أو حتى لايبنتز). ليس فرويد الذي يَعِدُّ نفسه عالِمًا، سوى فيلسوف (وهو ما كان يحسبه فرويد إهانة). فرويد كانسان كائن نرجسي يحسب نفسه في مصاف داروين وكوبرنيكوس. اكتشافه المزعوم للتحليل النفسي هو في الواقع مجرد “ابتكار” لا يجدي سوى بتحليل نفسي لشخصية فرويد نفسه، فالتحليل النفسي، بحسب اونفري “هو تخصص حقيقي وصالح مادام يتعلق بفرويد نفسه فقط ولا يتعلق بأي شخص آخر”. اعترضت دوائر التحليل النفسي ومشافيه وأطبائه على الكتاب: لقد أسهمنا في شفاء العديد من الحالات العصابية. لم نقتصر في متابعتنا على ردود الفعل على الكتاب على المكتوب فحسب وإنما تابعنا أيضا المحاضرات والسجالات واللقاءات المنقولة صورة وصوت بخصوص الكتاب. كان رد اونفري الدائم: أنا لم افتئت على فرويد، وإنما قالت ما سبق أن قاله بعظمة لسانه في مراسلاته وكتبه.
نيكولا ليَفيَسك*
يذكُّرنا ميشيل أونفري، بعد نيتشه، أن كل فلسفة هي سيرة ذاتية لصاحبها، واعترافات مُقنَّعة لمؤلفها. غير انّه يفتتح كتابه بمقدمة عن سيرته الذاتية، وهي مسألة تتعلق بإظهار ترسيخ فكره في تاريخ فردي وجماعي على سواء، كما تتعلق برحلة عبر القراءات التي تتضاعف دائما من خلال رحلة شخصية بالنسبة لكل واحد منّا. إن الصلات بين الحياة والنَّص هي منذ زمن طويل موضع نقاش محتدم في العديد من التخصصات. وقد فسّر التحليل النفسي (وغالباً بطريقة فظّة) تلك الصلات بين المؤلف والنص والفنان وإبداعه. يقترح أونفري عكس تلك الصلة جملةً وتفصيلاً، وتفسير المُفسِّر والاهتمام بالروابط بين لاوعي فرويد ومنجزه إي التحليل النفسي. وحتى الآن كل شيء على ما يُرام.
نعثر هنا على فرويد متردد ومتلمس سبيله بحيرة، ومتذمر عصبي المزاج وطموح مُتكبر يعذبه الشعور بالذنب والاستيهامات المزعجة. ومازال من المستحسن أن نتذكر أن العظماء هم صغار، وأن التحليل النفسي تم اختراعه عن طريق المصادفة وبخيلاء. يحلل اونفري فرويد ويميز عقدة أوديب التي تسكن مُنظِّرها، هذا الاستيهام الخاص بقتل الأب والذي يتخلل نصوص فرويد وحياته، ولم يمر من دون عواقب. إن كبرياء فرويد هو ما يمنحه القوة لاستيلاد التحليل النفسي، ويصبح أبا له، وما يجعله أبا عصابيا، غير قادر على التعرف على نفسه كابن له آباء (فلسفيون)، ويندرج في تراث ومجتمع فكريين، ويتعذر عليه بالتالي ان يسمح بقتله على الطريقة الاوديبية على يد أبنائه وبناته أي المحللين النفسيين الذين جاءوا بعده والذين سيتعذر عليهم أن يستحيلوا إلى آباء وأمهات بدورهم. اقترب لاكان من ذلك، من خلال الالتفاف الذكي على العودة إلى فرويد، بيد أن من الواضح اليوم أن شيئا ما يحول دون ازدهار توريث التحليل النفسي، كما يحول دون إنتاج محللين جدد أكثر إبداعا في علاقتهم بالإرث.
من خلال قطع فرويد للنسب الثقافي السابق عليه عبر إثبات نفسه كأب جاء من العدم مستسلما للاستيهام العلمي للمخترع الذي يتلقى استلهامات التحليل النفسي من منبع لا تخالطه شائبة، ومن العيادة الوحيدة أو من تفاحة سقطت على رأسه بطريقة نيوتن- قطع فرويد إمكانية ولادة نسل حقيقي، نسل من بنات وأبناء أحرار في الابتكار والتحول. حتى لو كتب العديد من المحللين النفسيين نصوصا رائقة ومتمكنة لا تقدر بثمن، وحتى لو كان بعضهم أكثر حرية من الآخرين، فإن أونفري ليس مخطئا عندما يتحدث على وجه العموم عن “أدب التلاميذ”. كل شيء على ما يُرام حتى الآن.
أدت غطرسة فرويد إلى الحفاظ على “أسطورة الاختراع العبقري والانفرادي للتحليل النفسي، في حين أن فرويد كان مجرد قارئ بارع”. يعترف فرويد بمصادره العلمية، ولكنه ينكر مصادره الفلسفية ولا يذكرها إلا على مضض، وفقا لبعض الاقتباسات المنثورة في نصوصه، هنا وهناك. يستشهد اونفري بالرسائل التي يذكر فيها فرويد شغفه النظري الأول الذي سيتحول إلى نفور عند ولادة التحليل النفسي: “عندما كنت شابا، لم يكن لدي رغبة أخرى سوى الرغبة في المعرفة الفلسفية”؛ “أرعى في أعماق نفسي الأمل في بلوغ هدفي الأول عبر السبيل نفسه: الفلسفة. » يرى أونفري ذلك الصراع الذي يرتسم لدى فرويد مع الرغبة في الفلسفة وهو صراع يتجسد على شكل رغبة في موت الفلسفة – رغبة في قتل الاهل ورغبة أوديبية لقتل الفلسفة التي تجسد لفرويد الدَين الذي يجب محوه، والأب الذي يجب قتله، والرغبة المخزية في التعتيم.
يكتب اونفري :”ينكر التحليل النفسي الفلسفة، لكنه في حد ذاته فلسفة”. من المفارقات أن التخصص أي التحليل النفسي الذي كشف للإنسان عن الآثار المذهلة ولا يرقى إليها الشك للتاريخ الشخصي، نقول إن ذلك التخصص سيتأثر بشر معروف في ما يتصل بالتاريخ الجماعي: وهم الولادة من رحَم نفسك، كما محو أي مصدر ليس من عندياتك، وأي تأثير وأي دَين عليك تسديده (فلسفي، على وجه الخصوص). جوهر مشروع أونفري هو محاولة لإعادة إدراج التحليل النفسي في التاريخ وهو محق في وضع كتاب “تفسير الأحلام” في خانة احد الأبناء لكتاب نيتشه “هو ذا الإنسان”، وكتاب “الاعترافات” لجان جاك روسو ، وكتاب “خواطر” لمونتين، و”اعترافات” للقديس أوغسطين.
لقد أوردت عبارة إنكار التاريخ وليس، مثل أونفري ، إنكار الفلسفة ، لأن ثمة فلسفات اسهمت بالفعل في قتل الفلسفة “بضربات مطرقة”، على وجه الخصوص(- المقصود هنا نيتشه-م) ، كما أسهمت في أفول صنم ميتافيزيقيا ترنسنتندالية استندت كليانية مفاهيمها تحديدا إلى إنكار التاريخ. أود أن أتذكر هذه الجملة لماركس وإنجلز التي تنزع القناع عن “التصور الذي بموجبه يحول المرء العلاقات بين الإنتاج والملكية إلى قوانين أبدية للطبيعة والعقل” ، وهو تصور ليس بعيدا عن نوع من التحليل النفسي للميتافيزيقا يشير أيضا إلى الضرورات التي استجابت لها ولادة “العلوم الإنسانية” ؛ يدافع أونفري كثيرا عن والده التراث الفلسفي، ويبدو أنه يريد العودة إليه قبل ارتكاب إبادة الأبوين ولكنه ضروري، ولكن يمكننا أيضا أن نلاحظ معه أن هذه العلوم الإنسانية المزعومة (بما في ذلك التحليل النفسي) قد قطعت مع الماضي الفلسفي مع الكثير من الإنكار، ويظهر اليوم مجموعة حزينة من المعرفة المتخصصة واليتيمة. من سخرية القدر أن يجري قمع ماضينا، بيد أنه يعود ليلعب معنا لعبة من يتكلم من جوفه اليوم باسم “تقدم المعارف” و”البحث” الذي تكرره مفاهيم ميتافيزيقية بالية تتقنع بمصطلحات جديدة.
على هذا النحو، يمكن للمرء بالفعل أن ينتقد الفكر الفرويدي في جانبه الميتافيزيقي المحض، أي في رفضه النمطي للتاريخ والسياسة ، وهو أيضا رفض استدخال الموت إلى الفكر، فالمفاهيم الفرويدية غالبا ما تميل نحو وقت لا يمضي ولاوعي خالد يخزن كل شيء ولا يفقد شيئا، خالد مثل تلك الأساطير البدائية التي تنتقل بطريقة سحرية عبر الوراثة، وخالد مثل لقى الحفريات تحت الأرض التي لم تطلها يد التغيير بمرور الزمن والمحمية من التآكل والأكسدة. ليس ثمة الا ذلك لدى في فرويد، ولكن دونك ذلك: فلسفة تقليدية، على غرار نظيراتها، أي ثنائية وجدل. يلاحظ أونفري، مثل أي ميتافيزيقي صالح، أن فرويد يضفي صفة جوهرية وغير تاريخية على الجنسانية والموت في النفس البشرية، وكل منهما أصبح لبيدو ونوازع وتمثيلات ومؤثرات عاطفية، بمصادر بيولوجية و/ أو أنطولوجية مزعومة. كل شيء على ما يُرام حتى الآن.
لكن أونفري هو أيضا ضحية لما يدينه، من دون أن يدرك أنه يكرر أيضا ثنائية في فكره. من ناحية، من المثير للاهتمام أن نراه يفضح “النزعة المادية” الفرويدية المفترضة من اجل أن يكشف فيها عن نزعة مثالية مُقنّعة، ولكن من ناحية أخرى، وبدلا من التشكيك في أي جدلية كلاسيكية تخص الجسد والروح، اي تمييز بين المادية والمثالية، فإنه يقود ذلك التمييز مرة أخرى إلى مادية جديدة ليست سوى وهم جديد. “الجسد” في منطق أونفري يتملص بهدوء من تاريخ الجسد، ويغدو مستقلا وجوهرا ثابتاً، أي خارج الزمن.
نفهم لماذا يستسيغ اونفري المروجين لكيمياء الدماغ، ولماذا يدعو أحيانا إلى مناهضة اللاهوت بحثا عن جنسانية ما، وعلم وجسد لا تشوبه أي نزعة مثالية – ليست سوى لاهوت معاكس، وبحث عن نقاء يلتزم بتدمير الجانب المهمل والمحتقر للجدل بينهما. سواء كانت الروح تقتل الجسد أو الجسد يقتل الروح، فإن الإنسان هو الذي يموت في كل مرة. انطلاقا من هنا لا تسير الأمور على ما يرام إلا قليلا.
يقطع فرويد التحليل النفسي عن مصادره الثقافية والتاريخية المؤثرة، ولن يكون من المستغرب أن نجد في التحليل النفسي في أعقاب فرويد، حتى اليوم، تلك الرغبة في عدم التغيير، وفي مقاومة تحولات التاريخ الفكري والسياسي. إن التحليل النفسي في سبيله إلى أن يستحيل إلى ذلك الكائن الأثري الجميل، صنو المتحف، كائن معروض خلف زجاج ووسط فراغ، محمي من تقلبات الدنيا والضوء في خانة مقتنيات مرموقة: سيكون بعد ذلك كما يرتجي البعض ان يكون على اشد ما يكون الرجاء: ابديا غير قابل للصدأ، غير قابل للتغيير … ميت لفرط أمنياته في تلافي الموت.
إذا كان هذا هو مصير التحليل النفسي في رغبات فرويد اللاواعية ، فهناك أيضا فرويد آخر لديه رغبات أخرى، والتحليل النفسي هو أيضا النضال ضد كل مصير وكل قدر وكل زمن جامد. يجب ألا ننسى هذا الصراع الذي سكن فرويد وتعدديته وتناقضاته، ويميل أونفري إلى إدانة أي ضعف أو أي استيهام لدى فرويد من دون استئناف. يتعذر لوم أحد على طبيعة ما يعذب روحه. من الخطأ أن يجعل أونفري من نفسه الأخلاقي الذي يحكم على النفس الفرويدية، كما لو أن فرويد كان تحركه جميع أنواع “الشياطين” – هذه هي الصورة السخيفة على صفحة غلاف كتاب أونفري، والتي تظهر فرويد في الجحيم – كانت في حد ذاتها كافية لتشويه سمعة الرجل ومنجزه بأكمله.
بالطبع، ونحن ندرس حياة فرويد، نكتشف الوحوش، لكن هذا هو نصيب جميع أولئك الذين دفعوا تحليلهم النفسي بعيدا؛ بالطبع، كانت ثمة أوهام النرجسية وخشية رُهابية أو خواف من الموت يجتاح فرويد في أعماق نفسه وقوة دفع الفاتح – الابن المفضل لأمه، أو تتآكله الرغبات الجنسية تجاه أخت زوجته مينا، ثم ماذا؟ بالطبع، هناك مناخ سفاح محارم في حياة فرويد وفي عمله وفي دوائر التحليل النفسي (لكن أونفري لم يتمكن مرة واحدة من تخيل فرويد كطفل ربما شهد أو وقع ضحية لمناخ المحارم هذا- وربما كان يسعى إلى العدالة من خلال اختراع هذا التحليل النفسي الذي يدين ويحلل آثار انتهاكات آباء الأسرة وذويه. هنا، الأمور لا تسير على ما يرام للغاية.
كتب نيتشه يوماً: “إنسانيتي هي انتصار دائم على ذاتي”، لا تحدد طبيعتنا البشرية بما إذا كان لدينا وحوش في دواخلنا أم لا، وجانب مظلم – لدينا جميعا جانب مظلم ما، كما يقول فرويد – ترتبط طبيعتنا البشرية بعلاقتنا مع هذه الظلال. هذا هو الفرق بين أخلاق لاهوتية غيبية (لديها مشروع إخراج الظلال في حد ذاتها وجميع أولئك الذين يجسدونها من الخارج) والأخلاق الجديدة التي هي جزء من إرث نيتشه وفرويد اللذين يدعوانا للعيش مع الأشباح. في هذه القضية الأخلاقية، يحمل أونفري أحيانا دور الأب الاستبدادي الوصي على الحدود المقدسة القديمة الخيّرة (الحد السوي والمرضي، على سبيل المثال)، وأحيانا دور التحرري الذي يدعي الحق في تجاوز جميع المحرمات (المتحمس للعقاب الذي سيأتي لاحقاً).
لا يفلح أونفري على وجه التحديد في التفكير مع نيتشه “في ما وراء الخير والشر” فسواء ما وراء أو هنا، لا توجد جنة أو جحيم يصطنعان صفة الموضوعية. بعد نيتشه وفرويد، لم يعد هناك انشطار، ولا جانب مظلم، على وجه التحديد: كتب نيتشه قبل فرويد: “قوى الطبيعة البشرية الأعلى والأدنى، ما هو أكثر رقة وأخف وزنا وأكثر فظاعة، كل ذلك ينبع من مصدر واحد”. لا توجد هنا أية عدمية أو نسبية. إذا أقدم أناس على ارتكاب الناس أفعالا قاسية فظيعة، فليس ذلك لأن لديهم مصدرًا آخر وطبيعة أخرى، ولكن لأنهم لم يتمكنوا من الحفاظ على تماسك ظلالهم وأضوائهم معًا تلك التي انفصلت عن ستارة على خشبة مسرح آخر ولا تتبادل الحديث مع بعضها البعض، وتقوم بتحضير جيشها. يعرف أونفري ذلك ومع ذلك، فهو الذي يستحضر في مكان آخر جديلة يتعذر فك خيوطها ما بين النزعة الديونسيوسية والابولونية، وهو الذي كان للحظة على الأقل، بعيدًا عن الخير والشر مع زرادشت: “تحرر بصدد مسألة الإرادة الحرة التي يعرف أنها كذلك وهم، اذ يفهم زارادشت أنه لا يوجد حل آخر سوى تقبّل هذه المأساة ومحبتها”. يخبرنا التحليل النفسي كيف يمكن لشخص ما أن يفهم شيئًا ما، وبعد ذلك ، وبفعل دوافع لاواعية، يقول العكس تمامًا. لقد فعلناها جميعًا في مناقشة محتدمة ومتغطرسة.
من الصحيح أن فرويد ربما كان قادرا على ان يعكف أكثر على نفسه، بدلا من لعب دور فيلسوف الكوني، وانثروبولوجي الأصول، وعالم القوانين الطبيعية، وبطريرك المؤسسة التحليلية. صحيح أن المحللين النفسيين لم يحتسبوا بما فيه الكفاية من بصمة عصاب فرويد على مستقبل التحليل النفسي. اونفري مصيب في تشخيص المرض، ولكنه ليس مصيبا في علاج المريض. ويعتقد أنه يتسبب في فضيحة بقوله إن “الفرويدية هي خيال أدبي” و”تلفيق” و”كذبة”. بالطبع إنه خيال ادبي! وأن هذه الدنيا هي قصة خرافية! لقد تم التخلص من تلك الثنائيات من قبيل الحقيقة/ الكذب، والتاريخ/والحكاية، والواقع/الخيال! إنه أمر لا يمكن حسمه، إنه وضعنا البشري، وما فوق بشري: “لا يوجد حل آخر سوى تقبّل هذه المأساة، ومحبتها”. هكذا تكلم زرادشت.
فشل أونفري في اغتنام الفرصة لدفع التحليل النفسي إلى أقصى أسئلة نيتشه. (على سبيل المثال، ألا يقودها البعد الحتمي للسيرة الذاتية للنظرية، بدلا من الجحيم، إلى الأدب والفنون والممارسات التي يكون فيها الاستبطان والتنقيب شيئا واحدا؟) لأن الحل بالتأكيد ليس شن حرب على النزعة الذاتية ومطالبة المفكرين بأن يكونوا مواطنين مثاليين للمعيار الأخلاقي! إذا لم نعد نستطيع بعد التحليل النفسي أن نشك في وجود علاقة بين الحياة والنص وأن ثمة دائما علاقة بينهما، فلن نتمكن بعد الآن من الاستمرار في اختزالها في علاقة مباشرة أو علاقة عقلانية أو علاقة أخلاقية.
إن الأخلاق الجديدة (التي ليس لها اسم آخر بعد) تتطلب منا عملا ضد أنفسنا ومعها، كي تتناسج معا، بطريقة غير متوقعة في كل مرة، خيوط حياتنا العاطفية وإبداعاتنا الرمزية، ويومياتنا وأفكارنا، وحساسيتنا ومفاهيمنا. نحتاج إلى بينيلوب جديدة تنسج هذه الخيوط بطريقة تشبكها معا، كل يوم إلى ما لا نهاية، لأن ذلك ما يجب القيام به دائما، وإعادة القيام به. مثل طبيعتنا البشرية.
*نيكولا ليفيسك محلل نفسي كندي من إقليم الكيبيك الفرنسي، وكاتب وناشر.
نقلا عن:
Lévesque, N. (2011). Review of [Retour à Nietzsche (vers le futur) / Le
crépuscule d’une idole. L’affabulation freudienne, de Michel Onfray, Grasset,
« Essais français », 624 p.] Spirale, (236), 70–72.
******************************************************
رابط صفحة الكاتب على فيسبوك: https://web.facebook.com/ahmedp20