مكانة المسجد في الإسلام وشمول وظائفه لمصالح الدنيا والآخرة

ذ محمد جناي
تقارير
ذ محمد جناي9 يناير 2021آخر تحديث : السبت 9 يناير 2021 - 9:02 صباحًا
مكانة المسجد في الإسلام وشمول وظائفه لمصالح الدنيا والآخرة

ذ. محمد جناي*
المساجد أجمل ما تقع عليه عين الإنسان في عالم الإسلام ، فسواء أكنت في قرية صغيرة خافية في بطن الريف أومستكنة خلف كثبان الرمال في الصحراء أو راقدة في لحف جبل، أو كنت في عاصمة كبيرة مترامية الأرجاء متدفقة الحركة عامرة بالعمائر السامقة، فإن المساجد بمآذنها الدقيقة المنسرحة الذاهبة في الجو مشيرة إلى السماء وقبابها الأنيقة ، تضيف إلى المنظر عنصرا من الجلال والجمال الروحي لا يتأتى له بدونها، فهي تزيل الوحشة عن تواضع مباني القرية وصغرها وتنفي الجمود عن غرور مباني العواصم، وتضفي على مقطع الأفق في القرية والمدينة توازنا يروع النفس ولمسة من جمال روحي هادئ رقيق.

فالمساجد هي أحب البقاع إلى الله، وهي بيوته التي يُعبَد فيها ويُوحَّد، فقد قال تعالى: “{ فِے بُيُوتٍ اَذِنَ اَ۬للَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اَ۪سْمُهُۥ يُسَبِّحُ لَهُۥ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالَاصَالِ رِجَالٞ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَٰرَةٞ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اِ۬للَّهِ وَإِقَامِ اِ۬لصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ اِ۬لزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوْماٗ تَتَقَلَّبُ فِيهِ اِ۬لْقُلُوبُ وَالَابْصَٰرُ} (36) ،قال ابن كثير في قوله تعالى: {اَذِنَ اَ۬للَّهُ أَن تُرْفَعَ} ؛ أي: أمَر الله تعالى بتعاهُدِها وتطهيرِها مِن الدنس واللغو، والأقوال والأفعال التي لا تليق فيها، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَحَبُّ البِلادِ إِلى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ البِلادِ إِلى اللهِ أَسْوَاقُهَا).

والمسجد هو مركز ترابط الجماعة الإسلامية (القرية أو الحي ) وهيكلها المادي الملموس، فلا تكتمل الجماعة إلا بمسجد يربط بين أفرادها بعضهم ببعض، يتلاقون فيه للصلاة وتبادل الرأي، ويقصدونه للوقوف على أخبار جماعتهم ، فالمسجد على هذا ضرورة دينية وضرورة سياسية وضرورة اجتماعية بالنسبة لكل مسلم على حدة وبالنسبة لجماعة المسلمين جملة، وهو الشيء الوحيد الذي تملكه الجماعة مشتركة، ويحكي أبو بكر بن العربي في رحلته أن المركب الذي كان ينقله مع أبيه من الأندلس إلى الإسكندرية عصفت به الريح وغرق قرب شاطئ طرابلس ،ولن الله يسر لهم النجاة إلى الشاطئ وهما في أسوأ حالة، فأخذهما الناس إلى الجامع، وكان الموضع منزلا لبعض بطون قبيلة كعب بن سليم ،وفي الجامع أسرع الناس إليهما بشيء من الكسوة ،ثم اتجهوا بهما إلى شيخ القبيلة فلقيا من إكرامه شيئا كثيرا، أي أن الجامع كان أيضا ملجأ للغريب الذي نزلت به محنة.

وعندما نتأمل الخطة الأساسية التي يقوم عليها بناء المساجد نتبين أنها تمتاز عن غيرها من أنماط دور العبادة بأصالة لا نظير لها، فدور العبادة في الدنيا كلها منشآت ضخمة ذات جدران عالية وقاعات داخلية تضاء بالشموع والقناديل، وتحيط بها أجراء من الغموض، بل السحر، توقع في النفوس أثرا عميقا ولكنه مصنوع متكلف، ويقوم على خدمتها وقيادة طقوس العبادة فيها كهان ورجال دين لهم هيئات خاصة وملابس مصممة على نحو يراد منه أن يوقع في النفس أبلغ الأثر وهم يستعينون في الصلوات بالبخور والأضواء الخافتة والأناشيد والموسيقا والكلام الغريب المبهم وكل مايضغط قلب المصلي ويعصره ويجعله خاضعا للكهان ورجال الدين، تستوي في ذلك كنائس المسيحية على اختلاف مذاهبها وبيع اليهودية ،ومعابد البوذية بشتى فروعها ومعابد الديانات القديمة جميعا، وأما مساجد الإسلام فليس فيها من ذلك شيء، إنما هي مساحات من الأرض صغيرة أو كبيرة، تنظف وتسوى وتطهر ويعين فيها اتجاه القبلة وتخصص للصلاة.

ومن المؤكد أن رسالة المسجد في الإسلام تتركز في الدرجة الأولى على التربية الروحية، لما لصلاة الجماعة ،وقراءة القرآن الكريم من ثواب عظيم وأجر جزيل ، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا، وذلك إذا أحسن الوضوء،ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة ،لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة ،وحطت عنه بها خطيئة ،فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه ما لم يحدث ، تقول :اللهم اغفر له اللهم أرحمه ولا يزال في صلاة ما أنتظر الصلاة.”، ولهذا كانت العناية بالمساجد – عمارة، وتشييدا، وبناء، وصلاة، وذكرا لله عز وجل أمارةً على الإيمان، وسبيلاً إلى الهداية؛ يقول الله تعالى: ” إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ اَ۬للَّهِ مَنَ اٰمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ اِ۬لَاخِرِ وَأَقَامَ اَ۬لصَّلَوٰةَ وَءَاتَي اَ۬لزَّكَوٰةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اَ۬للَّهَ فَعَس۪يٰٓ أُوْلَٰٓئِكَ أَنْ يَّكُونُواْ مِنَ اَ۬لْمُهْتَدِينَۖ “.(سورة التوبة الآية 18).

إن الحديث عن رسالة المسجد ودوره في ريادة المجتمع وثقافة الأمة من الموضوعات المهمة في وقتنا الحاضر خاصة وأننا نواجه غزوا ثقافيا واجتماعيا أحدث خللا في الواقع الاجتماعي، لايمكن معالجته إلا إذا رجعنا إلى أصالتنا الدينية وثقافتنا الإسلامية، وتظهر أهمية المسجد من خلال معرفة النشأة الأولى. المساجد ودورها التاريخي المتميز ، موازنة مع دوره في الوقت الحاضر، وقدرته على حل المشكلات الاجتماعية، فضلا عن دوره في تحقيق الاندماج والتكامل والترابط الاجتماعي بين كافة أفراد المجتمع، في ظل وجود إيديولوجيات غازية للمجتمع المغربي ، لذا من الضروري أن يبرز دور المجتمع في الحفاظ على القيم والتعاليم الدينية، فضلا عن الحفاظ على المجتمع الإسلامي من التأثر بالحضارات الغربية، التي لا تتفق مع القيم الإسلامية، ذلك إن المساجد تعد من المؤسسات الاجتماعية التي تسهم بصورة مباشرة في تعزيز وحدة المجتمع وتضامنه، ويتم ذلك من خلال مايقدمه المسجد ومايبثه من روح المسؤولية الجماعية وترسيخه للقيم الإسلامية الفاضلة، ومحاربته للقيم السلبية في المجتمع.

المساجد كانت خير مراكز للتربية في العصور الإسلامية السالفة، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم خير نموذج لذلك، فأصبح هذا المسجد مصدر إشعاع ومنبع نور للبشرية كلها، وتخرَّج فيه علماء أعلام وقادة كبار حملوا راية الإسلام، ونشروا هذا الدين المتين في ربوع العالم كله، ومن ثم بدأت حلقات الدرس والإفادة في جميع المساجد في البلاد الإسلامية، حيث لم يكن هناك مدارس منظمة يقصدها الطلاب، والعلماء كانوا يختارون مكانًا في مسجد ويلقون الدروس للمتلقين، ويشهد التاريخ بما كان لمساجد بغداد والقاهرة والقيروان وقرطبة ودمشق والموصل والحواضر الإسلامية الأخرى من دَور عظيم في النهضة الإسلامية الواسعة، فيكتب الدكتور عبدالرحمن السيد في كتابه “مدرسة البصرة النحوية” في هذا الصدد: “لم تكن هناك بطبيعة الحال مدارس منظمة أو معاهد مهيَّأة يلتقي فيها المعلمون والمتعلمون على النحو الذي نراه في عصرنا الحاضر، وإنما كانت الدراسة ملائمة لهذه الحقبة من تاريخ البشرية، متمشية مع حاجات الناس في ذلك العصر المتقدم، فكان من جملة ما يسعى إليه الدارسون لأخذ العلم والأدب واللغة المساجدُ، فكانت حلقات الدراسة تُعقَد فيها”.

وفي ضوء هذا كله أقبل المسلمون ـ رجالاً ونساء، حكومات وأفراداً ـ على بناء المساجد ووقفها، وإنك لا تجد مدينة أو قرية فيها مسلمون، إلا ويسارعون في بناء المساجد أولاً، وقد رصد المسلمون لهذه المساجد الأموال الكثيرة، لتنفق على احتياجاتها المتعددة: على أئمتها، وخطبائها، ووعاظها، وموظفيها، ولوازمها من فرش وإضاءة وترميم ورعاية…

وكان الهدف من تلك الجهود المبذولة إعداد المسجد ليقوم بوظيفته التنموية الشاملة في المجتمع الإسلامي، لأن المسجد في المقام الأول ليس مكاناً للعبادة فحسب، بل إن له إلى جانب ذلك دوراً بالغ الأهمية في التنشئة الثقافية والفكرية والعلمية، إضافة إلى كونه مصدر إشعاع تربوي واجتماعي واقتصادي وعملي، وهذا الدور للمسجد يتعاضد مع دور الأسرة والمدرسة والمؤسسات الأخرى التي تسهم في بناء المجتمع وتنميته.

ختاما: إن هدف الإسلام من بناء المسجد ، أن يكون مركز إشعاع فكري وروحي وحضاري في المجتمع الإسلامي، ومنطلق خير ودعوة يتم عن طريقه ترسيخ العقيدة الدينية وتعميق القيم الروحية والتوافق والاندماج بين كافة أفراد المجتمع ، وجعل المجتمع قائما على أسس التعاون والتكافل الاجتماعي، مما يؤدي إلى شي ع أواصر الأخوة والمحبة بين المسلمين في المجتمع الواحد من جهة وبقاء العالم الإسلامي من جهة أخرى، وإزالة مابينهم من فوارق الحياة الاجتماعية، مما يجعل المجتمع الإسلامي يكتسب صفة التماسك والوحدة النابعة من مبادئ الدين الإسلامي الحنيف وبدون تؤول وحدة المسلمين إلى شتات وسرعان ماتفرقهم الأهواء.

وبهذا أصبح المسجد النواة الرئيسية للمدن والقرى المغربية ،فقد تعددت الوظائف التي يقدمها المسجد لسكان المدن والقرى معا، فهو المركز الديني والمكان الملائم لاجتماع سكانها، فضلا عن دوره في محاربة الأمية ومعرفة أصول الدين، مما جعله مركز اتصال الجماعة الإسلامية مما يشكل عامل جذب للأفراد وتثبيت عقائدهم وتوسيع نطاق الدين الإسلامي، إذ أصبح المسجد يعبر عن سيادة الإسلام ورمزه لأنه مركز للدعوة الإسلامية.
ـــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
* خريج جامعة القرويين ، كلية أصول الدين بتطوان.
(1): المساجد ، تأليف د. حسين مؤنس ،منشورات سلسلة عالم المعرفة العدد 37.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.