مقدمات أساسية لفكر ناضج من أجل بناء المناعة الفكرية لدى الشباب المسلم المعاصر

ذ محمد جناي
آراء ومواقف
ذ محمد جناي18 يناير 2021آخر تحديث : الإثنين 18 يناير 2021 - 12:20 مساءً
مقدمات أساسية لفكر ناضج من أجل بناء المناعة الفكرية لدى الشباب المسلم المعاصر

ذ. محمد جناي
زود الله -تعالى-أجسامنا بجهاز للمناعة ، يساعدها على المحافظة على آلية عملها ، وعلى صيانتها من الوافدات الأجنبية التي يمكن لها أن تضرٌَ بها، وتقضي على سلامتها، وجهاز المناعة لدى الإنسان قوي إلى حد مدهش ونحن على المستوى الفكري في حاجة إلى جهاز مناعة مماثل من أجل حماية فكر الأمة من التدمير ، ومن أجل إبقائه في حالة من النشاط المكافئ للتحديات التي تواجهنا، والإسلام هو الرسالة الأخيرة التي تتلقاها البشرية من الله -جل شأنه- ولهذا فهي رسالة عامة وشاملة ،فيها مايحتاجه صلاح الناس مهما اتسعت أمداء الزمان والمكان ، ومهما تنوعت الظروف والأوضاع والأحوال،ونقصد بالمناعة الفكرية هي وجودُ مستوىً عالٍ من التحصين الذاتي لدى الفرد المسلم أمام الأفكار المخالفة لدينه وتتجلى أهميتها فيمايلي:

أولاً: خطورة الموجة التشكيكية المعاصرة
و مما يدل على أهمية المناعة الفكرية في هذا الوقت خاصة، أن هناك موجة تشكيكية معاصرة موجهة ضد الإسلام، مما يستدعي أن يكون لدى الفرد المسلم مناعة فكرية قادرة على الوقاية من هذه الموجة، و تتمثل خطورة هذه الموجة في عدد من الصور؛ منها:

* أنها موجة تشكك في أصل الإسلام؛ أي ليست موجهة مثلاً إلى مسائل خلافية ما بين العلماء، وإنما هي موجهة ضد أصل الإسلام، فتجد أنها تشكك في وجود الله -سبحانه وتعالى- وتشكك في صحة القرآن الكريم، وتشكك في شخص ونزاهة وصدق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من الأصول الشرعية؛ مثل السُّنة النبوية، والحدود الشرعية، وما إلى ذلك.

* أنها موجهة ضد الشباب، والشباب هم عماد هذه الأمة، وفي المستقبل سيكونون هم أصحاب القرار، لذلك هذه الموجة تستدعي اهتمامًا بالغًا، وتستدعي تكوينًا للمناعةِ الفكرية.

* أنها تحمل شعاراتٍ جذابةٍ وذات بريقٍ تجذب إليها الشخص الذي يمكن أن يُشد إلى مثل هذه الشعارات؛ مثل الحرية، تحرير العقل، تحكيم العلم، أو اتباع العلم الطبيعي وما إلى ذلك، وهذه العبارات هي عبارات مجملة تحتاج إلى تفصيل، فنأخذ ما فيها من الحق، ونرد ما فيها من الباطل، لكن المشكلة أن هناك معاني من الباطل تمرر تحت هذه الشعارات البراقة، فتجد الشخص يقول لك: حرر عقلك، ولا تكن عبدًا، أو أسيرًا لأحدٍ من الناس، هذا المعنى جيد، ومعنى عام، ما الذي تريد إيصاله تحت كلمة “حرر عقلك”؟
فيقول لك مثلاً: الدين هذا، هو دين اتباع، مجرد اتباع، وليس دينًا يتفق مع العقل، إذًا هو توصل إلى معنًى باطل، وهو إبعاد هذا الدين الإسلامي تحت عبارةٍ جاذبة، وهي: حرر عقلك.

* أنهاموجة هدمية فوضوية، لا بنائية، والهدم دائمًا أسهل من البناء، فتجد أنها مليئة بالتشكيكات، والتساؤلات، وأشياء مبعثرة، ومفرقة، وأشياء فوضوية، لماذا يأمر الإسلام بهذا الأمر؟ ولماذا هذا الحد؟ ولماذا هذه الشعيرة؟ ما المقابل؟ ما الشيء الآخر؟ ما الشيء البديل؟ لا يوجد.

ثانيًا: الاحتكاك بالثقافات الأخرى
إننا نعيش في مرحلةٍ فيها احتكاك بالثقافات الأخرى، سواء أكان هذا الاحتكاك عن طريق النت وشبكات التواصل، وألعاب الكمبيوتر التي فيها احتكاك بأناس غير مسلمين، أو عن طريق السفر إلى بلاد الخارج والدراسة هناك، وهذا كما نعلم الآن موجودٌ بكثرة، فبسب وجود الاحتكاك بالثقافات الأجنبية، والثقافات غير المسلمة، نحتاج أن يكون لدينا مناعة فكرية، فكما أن الشخص الذي يسافر إلى بعض البلاد مثلاً التي فيها وباء معين يحتاج أن يحصن بمناعةٍ صحية، حتى يكون قادرًا على التعرض إلى البلاد الأخرى، فأيضًا من أهمية المناعة الفكرية ضرورة التحصين الذاتي.

ثالثًا: إدراك ما يمتلكه الإنسان المسلم
نحن نمتلك شيئًا عزيزًا، نمتلك الإيمان بالله، نمتلك الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن، هذا شيء عزيز،و حين تعزز المناعة الفكرية عند الإنسان، ندرك قيمة هذا الأمر؛ لأن كثيرًا من المسلمين لا يدركون قيمة ما يملكون، هناك كثير من البشر حائرون، ونحن لا ندرك حيرتهم، وإنما هم يدركون حين يسلمون، أو حين يخرجون من هذا التِّيه، يدركون قيمة هذا الإسلام، كما أدرك الصحابة قيمة الإسلام، حين دخلوا فيه بعد أن كانوا يعبدون اللات والعزى، إذًا من فوائد تعزيز المناعة الفكرية، أن ندرك قيمة ما نملك.

ومن صور العناية الشرعية بالمناعة الفكرية:

الصورة الأولى: ذكر دلائل الحق
أنه قد جاء في الشرع ذكر دلائل الحق، كي لا يكون الفرد المسلم مؤمنًا إيمانًا تقليديًّا فقط، أو إيمانًا مبنيًّا على التقليد، والسؤال: ما وجه الارتباط بين ذكر دلائل الحق وبين تعزيز المناعة الفكرية؟ وجه الارتباط بين ذكر دلائل الحق، وبين وجود المناعة الفكرية، أنَّ الإنسان حين يعتقد بشيءٍ وهو يعرف دلائله، وهو يعرف لماذا يعتقد هذا الشيء، ولماذا يؤمن به، فإنه يكون على يقين راسخ بصحة هذا الاعتقاد، وبالتالي تكون المناعة الفكرية عنده قوية، بخلاف من لا يأخذ إيمانه وعقيدته بهذه الطريقة، فقد يكون سالمًا من الإشكالات إذا لم يتعرض لشيء، أو يواجهه شيء، وقد يكون معرضًا، أو إيمانه مهددًا، إذا تعرض لإشكالات،إذن من صور العناية الشرعية بالمناعة الفكرية، أنَّ في القرآن والسنة ذكرًا لدلائل الحق؛ لكي يكون الإنسان موقنًا.

الصورة الثانية: تعزيز الاكتفاء الذاتي في جوانب المعرفة
نجد أن الله -سبحانه وتعالى- قد أنزل في كتابه الكريم في سورة المائدة، قول: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة:3]، أدرك بعض غير المسلمين قيمة هذه الآية، فقال أحد اليهود لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: لقد أُنزلت عليكم يا معشر المسلمين آية، لو نزلت علينا نحن اليهود، أو معشر اليهود، لجعلنا ذلك اليوم عيدًا: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾[المائدة 3]؛ آية عظيمة تعزز عندنا الاكتفاء الذاتي المعرفي،هذا الإسلام رضيه الله لنا دينًا، وأتم علينا النعمة بهذا الإسلام؛ هذا مما يعزز جانب المناعة الفكرية عند المسلم.

نجد كذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام يحث على سنته، ويحث على تبليغها، ويدعو بنُضرة الوجه لمن حفظها، وبلغها، مما يدل على القيمة المعرفية لهذه السنة النبوية، وأيضًا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض النصوص الشرعية الصحيحة، أن مدار الهدى على الأخذ بكتاب الله -سبحانه وتعالى- ومدار الضلالة على الإعراض عنه، وأوصى بكتاب الله، وقال: من أخذه كان على هُدًى، ومن تركه كان على ضلالة، فعليكم بكتاب الله، هذا كله يجعل الإنسان المسلم يأخذ نوعًا من التشبع المعرفي من خلال المصادر الشرعية، وهذا يعزز المناعة الفكرية عنده.

الصورة الثالثة: الحذر من الشبهات
وهنا سأتحدث عن النصوص الشرعية، وأتحدث عن مواقف بعض كبار الإسلام من هذه القضية، أولاً عندنا قول الله -سبحانه وتعالى-: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ [آل عمران:7]، في صحيح البخاري قال الرسول -عليه الصلاة والسلام- لعائشة -رضي الله عنها-: ((فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ منه فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ(( [البخاري:4547]؛ أي: ذكرهم في الآية، ((فَاحْذَرُوهُمْ((، هذا تحذيرٌ نبويٌ صحيح في البخاري، وهذا من صور العناية الشرعية بقضية المناعة، حين ترى الذي يثير الشبهات، ترى الرسول صلى الله عليه وسلم حذرك من أن تستمع إليه، أو تميل إليه، فهذا من صور تعزيز المناعة.

وأيضًا نجد أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عندهم هذا الأمر، ففي صحيح البخاري أيضًا عن ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: ((يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، كيفَ تَسْأَلُونَ أهْلَ الكِتَابِ، وكِتَابُكُمُ الذي أُنْزِلَ علَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أحْدَثُ الأخْبَارِ باللَّهِ، تَقْرَؤُونَهُ لَمْ يُشَبْ، وقدْ حَدَّثَكُمُ اللَّهُ أنَّ أهْلَ الكِتَابِ بَدَّلُوا ما كَتَبَ اللَّهُ وغَيَّرُوا بأَيْدِيهِمُ الكِتَابَ…)) [البخاري:2685]، هذا من صور تعزيز المناعة، يعني أنتم لديكم مصدر مهم عن الله -سبحانه وتعالى- وهو أحدث الأخبار عن الله، لم يُشب؛ أي: لم يختلط بغيره، فكيف تبحثون عن غير هذا المصدر من جهة المعرفة الدينية المتعلقة بالله سبحانه وتعالى؟

أيضًا عندنا عدد من المواقف عن السلف الصالح -رضي الله تعالى عنهم- هم كانوا في وقت فيه عدد من الطوائف المبتدعة؛ التشكيك في القدر بدعة، الخوارج بدعة، تأويل الصفات، تأخرت قليلاً لكن في آخر وقت الصحابة كان هناك بدعة القدر، وبدعة الخوارج، ثم في وقت التابعين، وفي وقت تابعيهم، ظهرت بعض الفرق الأخرى؛ فنجد أن جماعةً من السلف كانوا يحذرون من الاستماع لأهل الباطل، والذهبي الإمام -رحمه الله- حين ذكر طرفًا من أخبارهم في ذلك قال: “وعَامَّةُ السلفِ على هذا التحذيرِ، يرَونَ أن القلوبَ ضعيفةٌ، والشبه خطافةٌ”، وهذه عبارةٌ رصينةٌ من الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى- ومما يظهر ذلك عند جماعةٍ من السلف الصالح -رضي الله تعالى عنهم- أنهم حين ترجمت كتب الفلسفة في وقت المأمون في القرن الثاني للهجرة، كانوا ذموا هذا الأمر، و ذموا هذه الترجمة، ورأوا أن تأثيرها سيكون سلبيًّا على الصفاء الإسلامي، الصفاء المعرفي الإسلامي. وبالفعل في واقع التراث الشرعي الإسلامي، حصلت هناك تأثراتٌ سلبية من جراء هذه الترجمة، وهذا -تحذيرهم من ذلك- كله من باب المحافظة، والرعاية للمناعةِ الفكرية

و من مظاهر قوة المناعة نذكر منها أربعة عناصر أساسية:

العنصر الأول: مصادر المعرفة والتلقي واضحة
مما يدل على قوة مناعة المرء الفكرية: أن تكون مصادر المعرفة ومصادر التلقي واضحةً لديه غير ملتبسة، ويعرف حدود كل مصدر من مصادر المعرفة، ومن مصادر التلقي، كيف ذلك؟ مثلاً يأتي شخص تثار عنده إشكالية في قضية المنهج العلمي التجريبي، بأنه هو المصدر الوحيد للمعرفة، فقد يسمع الإنسان ملحدًا يقول: إن الشيء الذي لا نخضِعُه للتجربة في المعمل لا يفيد معرفةً. المسلم إذا لم تكن عنده حدودٌ واضحة لمصادر المعرفة وقيمةِ كل مصدر من مصادر المعرفة، قد يلتبس عليه الأمر، ولكن حين تكون مصادر المعرفة واضحة لديه، فإنه لا يتأثر بمثل هذا الكلام، نعم المعمل يفيدنا كمصدر من مصادر المعرفة، ولكن له حدود، فهو لا يجيبنا عن: لماذا خُلِق هذا الكون؟ وما الغاية من خلقه؟ وما الهدف من وجود البشر في هذه الحياة؟ هذه الأسئلة لا يمكن أن تدخل في المعمل التجريبي، وإنما المعمل التجريبي يعطينا شيئًا من المعرفة.

وأيضًا الخبر الصادق يعطينا جزءًا من المعرفة، والعقل يعطينا جزءًا من المعرفة، فهناك تعددٌ لمصادرِ المعرفة، وتكامل فيما بينها في دائرة الإسلام؛ فمن مظاهر قوة المناعة الفكرية أن تكون مصادر المعرفة واضحة لديه، وفي نفس الوقت مصادر التلقي الشرعية واضحة لديه، أعرف أن القرآن مصدر وأن السنة مصدر، وأن الإجماع مصدر، وهو مبني على القرآن والسنة، فإذا تعرضت لإشكالٍ يشكك في هذه المصادر تكون لدي مناعةٌ مسبقة بمعرفة ما يثبت لنا صحة هذه المصادر وحدودِ كل مصدر منها.

القرآن والسنة مصادر مطلقة، لكن هناك مصادر أخرى قد تؤدي إلى معلومات شرعية، ولكن بحدٍّ معين؛ مثلاً أهل العلم الشرعي هم مصدر من مصادر التلقي، ولكن بحدود، وليسوا مصدرًا مطلقًا، فنحن لا نقول بعصمتهم، وإنما نقول: إننا نستفيد منهم في أمور متعلقة بديننا، ولكن بحدود، بما لا يتعارض مع الكتاب والسنة، وهناك تفصيلات أخرى ليس هذا مجالها.

العنصر الثاني: ضبط الأصول والكليات والتعامل مع الجزئيات في ضوئها
من مظاهر القوة الفكرية: أن يكون الشخص المسلم ضابطًا لمعرفته بالأصول والكليات، وأنه يستطيع أن يتعامل مع الجزئيات في ضوء الكليات، كيف؟ يكون عندي قاعدة معرفية أساسية في مختلف الأبواب الشرعية، فأستطيع أن أتعامل مع الجزئية التي قد تشكل عليَّ في ضوء هذه الكلية؛ مثلاً: الحكمة الإلهية، أنا أؤمن أن الله -سبحانه وتعالى- حكيم، وثقتي بحكمة الله -سبحانه وتعالى- مبنية على عدد من الأدلة، بعد ذلك إذا جاء مَن يشكك في شيءٍ من الأفعال، أو شيءٍ من المظاهر التي نراها في الحياة، مما لا نفهم حكمته مع هذه الحياة، أو مع هذه الأصول، مع ما نعرف من حكمة الله -سبحانه وتعالى- فإنني أستطيع أن أضع هذا الإشكال في حجمه الصحيح، لماذا؟ لأن عندي أصولاً كليةً في باب أن الحكمة من أفعال الله، فأتعاملُ مع هذا الجزئي في ضوء هذا الكلي.

والخلاصة أن من مظاهر قوة المناعة الفكرية، أن تكون لدي أصول وكليات، أتعامل مع الجزئيات على ضوء هذه الأصول والكليات؛ مثلاً أدلة وجود الله عندي فيها أصولٌ واضحة، بعد ذلك إذا جاء دليل جزئي قد لا أفهم التعامل معه، فإني أعرضه على هذه الكليات، فمن مظاهر القوة وجود القواعد والأصول، والتعامل مع الجزئيات على ضوئها.

العنصر الثالث: القناعة بغنى المصادر الإسلامية
ومن مظاهر القوة في المناعة الفكرية: القناعة بغناء المصادر الإسلامية في الإرشاد إلى ما تحتاجه البشرية؛ من أمور السؤال عن الحكمة من الوجود، وعن الغاية، من المعارف الأساسية التي يحتاجها الإنسان ضرورةً في حياته؛ كي يكون مصيره بعد الموت مرضيًّا له، يؤدي به الى جنة الخلد وإلى رضوان الله سبحانه وتعالى.

إذا كانت لدي الثقة والقناعة بغناء المصدر الإسلامي فأنا قوي في المناعة الفكرية، إذا كان الإنسان ينظر إلى التراث الإسلامي أو إلى المصادر الشرعية على أنها ركام من المرويات أو على أنها شيءٌ من الأخبار التي لا تؤدي إلى الغناء المعرفي، وإلى التماسك المنهجي؛ فهذا من مظاهر الضعف، وليس من مظاهر القوة.

العنصر الرابع: عدم الانقياد وراء التقدم العلمي
من مظاهر القوة لدى الإنسان المسلم في المناعة الفكرية: أنه لا ينقاد إلى الثقافات الأخرى لمجرد التقدم العلمي، فالإنسان المسلم الأولويات الكبرى عنده مرتبة، يستطيع أن يضع التقدم المادي في خانة، ويستطيع أن يضع الجانب التعبدي لله -سبحانه وتعالى- في خانةٍ أكبر منها وأهم؛ فهو يعرف لماذا خُلق الإنسان، فإذا أدى بعض الأدوار الأخرى، فهذا شيء جيد وحسن، إذا كان هذا الأمر حسنًا، ولكن له خانة معينة، فأنا لا أنجذب وأنبهر بمجرد التقدم العلمي، وإنما الذي يجذبني ويبهرني هو تحقيق الإنسان لمراد الله -سبحانه وتعالى- من خلقه.

طبعا ليس معنى ذلك أن العلم التجريبي يعارض ما خُلِق الإنسان لأجله، وإنما المراد أن مجرد العلم التجريبي وحده ليس بالأمر الكافي في الانجذاب، والانبهار، فإن الإنسان قد يتقدم علميًّا، ولكنه يفشل فيما هو أهم من ذلك، والدليل: أن الأنبياء حين بُعثوا إلى أقوامهم كان بعض أولئك الأقوام على تقدم علمي كبير، وكانت رسالة الأنبياء لهم أن اخرجوا من الظلمات إلى النور.

ومن مظاهر ضعف المناعة نذكر أربعة عناصر أساسية:

العنصر الأول: الفوضى الفكرية والمنهجية
مما يجعلنا ندرك أن المناعة الفكرية لشخص ما ضعيفة، عندما يكون هذا الشخص يعاني من الفوضى الفكرية، والمنهجية؛ أي: إنه ليس عنده قواعد يرتب بها معرفته، ليست عنده حدودٌ لمصادر المعرفة، ليس عنده إدراكٌ لمصادر التلقي الشرعية وحدودها، أو أدلتها، وأن هناك مصادر شرعية مطلقة، لا يدخلها الخلل، ولا يمكن أن يدخلها الريب، وهناك مصادر عامة للمعرفة يمكن أن يدخلها النقص والخلل.

فالذي يعاني من الفوضى الفكرية والمنهجية، فإن هذا من دلائل ومن مظاهر ضعف المناعة، بمعنى أنه قد توجه إليه معلومة يشكك بها في الإسلام فيشك، لماذا؟ لأنه لا يستطيع أن يضع هذه المعلومة في موضعها الذي تستحقه، والذي يليق بها.

العنصر الثاني: انتكاس هرم الأولويات
المظهر الثاني من مظاهر ضعف المناعة الفكرية انتكاس هرم الأولويات، وله ارتباط بالمظهر الأول،ما الأولويات الكبرى في حياة الإنسان؟

الذين لا تكون الأولويات عندهم مرتبة، طبعًا ليس المقصود الأولويات في الحياة اليومية، وفي ترتيب خطة الحياة من ناحية التعامل أو من ناحية الأهداف والمشاريع، بل الحديث هنا عن الأولويات الكبرى؛ مثلاً قضية التوحيد، وقضية المعرفة الإنسانية العامة، وقضية العلم التجريبي، وقضية العقل، إلى آخره من الأولويات الكبرى كالحرية، والإنسانية. هذه الأشياء يجب أن ترتب ترتيبًا صحيحًا بما يوافق مراد الله -سبحانه وتعالى- وقد بين الله -سبحانه وتعالى- لنا الأولويات في القرآن، وجاءت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أقصد نصًّا معينًا يرتبها، وإنما الذي ينظر إلى القرآن والسنة يدرك قيمة أو ترتيب كل شيء من هذه الأشياء، إذًا الأولويات مرتبة بشكل الهرم،وأول الوظيفة التي خُلق لأجلها، وهي عبادة الله سبحانه وتعالى، هذا الرقم واحد في الهرم، بعد ذلك تأتي الأمور الأخرى بحسب ترتيبها، فالذي لا تكون الأولويات عنده مرتبة بهذه الطريقة، فإنه قد يتأثر بأي شيء آخر يخالف الإسلام.

العنصر الثالث: القابلية للاهتزاز
من مظاهر الضعف عند الإنسان المسلم أن يكون قابلاً للشك، قابلاً للاهتزاز لأدنى ريحٍ تهب عليه، فليس عنده من التماسك الإيماني، ومن التماسك المنهجي والمعرفي، ومن الحس النقدي، ما يجعله يتعامل مع التحديات الفكرية، فهو كالريشة في مهب الريح، إن هبت الريح يمينًا قذفته يمينًا، وإن هبت الريح شمالاً قذفته شمالاً، تجده مرة في موجة إلحادية، ومرة في موجة مغالية في جانب آخر.

فالإنسان الذي لا يكون متماسكًا معرفيًّا، الذي لا يكون عنده من الأصول والكليات والقواعد والدلائل ما تكون هي الدافع وهي المنطلق لحياته، فإنَّ هذا من مظاهر الضعف، ولذلك تجد بعض الأشخاص يتعرضون لشبهة ضعيفة جدًّا تسقطهم، هذه الشبهة لا تستدعي السقوط، فكيف إذا تعرض لشبهة أكبر من ذلك؟ فلماذا سقط؟ سقط لأنه ليس عنده من الأصول المنهجية، والمعرفية، والإيمانية ما تجعله متماسكًا أمام التحديات الفكرية.

العنصر الرابع: التقليل من شأن العلوم الإنسانية
كذلك التقليل من شأن وقيمة التراث الإسلامي، وأعني بالتراث الإسلامي العلومَ الشرعية والعلوم الإسلامية،تجد بعض الناس يقلل من قيمة هذه الجوانب في هذه العلوم الشرعية، ولا يرى أنها تعطي معرفة للإنسان، ويقلل من شأنها أمام المعارف الدنيوية، وهذا خطأ كبير، وهو من مظاهر ضعف المناعة.

نعم المعارف الدنيوية لها قيمتها ولها شأنها، ولكن المعارف الدينية، والمعارف الإسلامية شأنها أعظم من ذلك، فلا بد أن أكون مفتخرًا بهذا التراث عندنا، وفي نفس الوقت أعطي المعارف الأخرى حقها، أما إذا اختل الأمر فإن هذا من مظاهر ضعف المناعة الفكرية.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.