6 مايو 2025 / 10:26

مفهوم العقلانية السياسية في فكر محمد عابد الجابري من خلال كتابه “العصبية والدولة”

نور الدين السعيدي حيون
قال جل من قائل:”وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين” (سورة الذاريات، الآية: 55)
في الذكرى 15 لرحيل المفكر المغربي الكبير محمد عابد الجابري رحمه الله يوم 3 ماي 2010، أقدم لكم الجزء 2 من قراءة متأنية موسومة بـ: مفهوم العقلانية السياسية في فكر محمد عابد الجابري من خلال كتابه “العصبية والدولة”.
******************************************************
إن معظم الدراسات الخلدونية قليلاً ما تنظر إلى الفكر الخلدوني ككل، بل إن كثيراً ما تنظر إلى آرائه في هذا الميدان، في استقلال وانفصال عن آرائه في ميادين أخرى. وأخطر من ذلك ما يفعله بعض الكتاب حيث يعمدون إلى عبارة من عبارات فصول المقدمة، ينتزعونها انتزاعاً، ويتخذون منها أساساً لتأويلات وشروح تبتعد بالفكر الخلدوني عن روح عصره، وإطاره الخاص .
إن تجزئة الفكر الخلدوني على هذا الشكل، والاستناد في استنتاجات بعيدة، مفرطة أحياناً، على مجرد وعبارة أو فقرة وردت في المقدمة، أسلوب في البحث لا يساعد البتة على فهم آراء ابن خلدون على حقيقتها، وفي وحدتها الكلية وتناسقها الجدلي.
اختار محمد عابد الجابري، منذ بداية انخراطه في الكتابة والبحث والعمل السياسي في ستينات القرن الماضي، مواجهة القارة التراثيّة، بحكم أنّه كان يدرك جيداً الثقل الذي يمارسه التراث الثقافي الإسلامي في الحاضر العربي، حيث تهيمن لغات وثقافات قادمة من أزمنة تجاوزها الزمن، الأمر الذي يؤدي إلى محاصرة إمكانية الإبداع والتجديد في الثقافة والمجتمع. ضمن هذا الإطار، استخدم الجابري بحس سياسي معلن مجموعة من مفاهيم الفلسفة الحديثة والمعاصرة، متوخياً هدفاً مركزياً، يتمثل في نقد آليات العقل العربي في التفكير والنظر، قصد إيجاد مخرج يسمح بتفكيك حصون التقليد، ويفتح أبواب التاريخ أمام الثقافة العربية، لتتمكن من الانخراط الإيجابي والتفاعل مع مختلف مكاسب التحديث والتقدم .
حرص الجابري -بحكم تكوينه الفلسفي وحسّه السياسي- على أن يدافع عن التحديث من زاوية لا تُقصي الموروث كليّة، ذلك أنه لا انفصال في نظره عن الذات في مختلف تمظهراتها إلا بالتواصل معها. وخيار التواصل لا يكون بالضرورة خيار تبعيّة وخضوع، بل قد يكون عن طريق الفحص والمراجعة والنقد، الطريق المناسب لتحقيق الانفصال المتدرج والتاريخي . لهذا، تعرض مشروع الجابري في حياته لمواقف متناقضة، تراوحت بين حدّين متباعدين، تمثل ذلك من جهة باحتفاء تيارات فكرية عديدة بالمشروع ومقدّماته، وطرائقه في النظر والعمل. في حين تعرّض من جهة أخرى، لانتقادات عديدة وسمت المشروع بالمحافظ والتوفيقي، معتبرةً أنّه يكرِّس خيارات فكرية وسياسية أقرب إلى الخيار السلفي.
لم يكن محمد عابد الجابري مفكرا عاديا، ولم يكن كاتب رأي أو مؤلفاً لمجموعة من كتب الفلسفة، بل كان في نظر الكثيرين مدرسة فكرية قائمة بذاتها، ومختلفة عن غيرها من تيارات الفكر السائدة في العالم العربي. لقد حفر الجابري اسمه في ذاكرة الحقيقة كثائر فلسفي حقيقي رفضَ بشدة كل القوالب الموروثة عن منظومة التفكير التقليدية، التي رسّخت لعقود وربما لقرون متعاقبة فكرة النقل المتواتر، وأقصت العقل من كل أدواره الحيوية في الخلق والتجديد والسؤال.
بعد رحلة طويلة امتدت لأكثر من 30 سنة، وأثمرت أكثر من 30 مؤلفا مرجعياً في الفلسفة والتراث والفكر الإسلامي، كان الجابري على موعد مع الرحيل أواخر ديسمبر 2010. غاب الجابري يومها وبقيت أسئلته المؤرقة حاضرة في فضاء النقاش العام والخاص، على حدّ سواء.
واليوم، بعد تسع سنوات مرت على هذا الرحيل الكبير، بعد تسع سنوات عاشها عالمنا العربي بظروفها العاصفة سياسياً واجتماعياً، وبمعطياتها المريرة، نتساءل بحرقة: هل ما يزال العقل العربي محتاجا إلى الإصلاح، أم أن الهدم بات شرطا مسبقا لإعادة البناء؟ وهل لا يزال الحديث عن العقل العربي ككتلة واحدة ممكنا أصلا، وسط فوضى المفاهيم، وفي ظل كل هذه الانتماءات الطائفية والعرقية التي استيقظت فجأة في قلب عالم عربي تبعثره النزعات والنزاعات؟ هل غاب العقل والنقل معا، وحضرت العاطفة بمعناها التاريخي؟ ووسط كل هذا الجزر المعرفي الحاد ببلداننا، ومع صعود موجات التطرف والانغلاق التي باتت تحاصر حتى النوايا: ترى أين اختفى تراث محمد عابد الجابري، ولم غابت عنا أفكاره الحية؟
لقد دعا الجابري كثيرا إلى إعادة قراءة التراث على نحو حيادي متبصر لا تحضر فيه العاطفة كعنصر مشوه للحقيقة، ولا يعني الحياد هنا أن ننفصل عن وجودنا وكينونتنا الاجتماعية والوجدانية في علاقتنا الجدلية مع تراث الأسلاف، كما لا تعني إعادة القراءة أن نقع في قطيعة مع التاريخ، بل لعلها فرصة لبعث صلة الوصل من جديد بيننا وبين معطيات التاريخ التي نحن جزء من سياقها المتصل، فالعقل العربي، كما يرى الجابري، عقلٌ ماضوي يحن للأصول بوعي… ويحن إليها من دون وعي.
إنَّ الدعوة لإعادة القراءة والفهم تقتضي أن تخرج مجتمعاتنا من سجن التقليد، وهو مسار يقتضي من الفكر العربي أن يغادر خانة «العقل المستقيل» التي جعلته منفصلاً عن اللحظة المعرفية، وعن سؤال الراهن وقضايا العصر والحضارة، إنها دعوة من الجابري لإعادة الإحساس بوجودنا وسط عالم متسارع التحولات… وهي في الوقت نفسه دعوة لمراجعة تلك المتون التراثية التي تسكنها الخرافة، وتجعل من قرّائها مريدين لا باحثين أحراراً عن الحقيقة. إنَّ المصالحة التي يدعو لها البعض لا ينبغي أن تكون مع التراث، لأن ذلك يعني التطبيع مع مكامن الخلل فيه، لكن المصالحة مطلوبة دائماً مع التاريخ الذي نرتبط به في كل الأحوال، وعلينا قراءة أحداثه بموضوعية تنسجم مع رغبتنا في التحرر من قيود الانغلاق والتخلف وعبادة الأساطير النصّيّة… تلك الأساطير القاتلة التي أجرمت في حق عقولنا .
وإذا كان هذا هكذا، فكيف يجوز لنا أن نعبث بفكر هذا الرجل الذي لم تنجب الثقافة المغربية، بل العربية، مثيلا له في العصر الحديث والمعاصر؟ وهل يحق لنا أن نصدر أحكاما على فكره ونحن لم نقرا كتبه كلها أو بعضها، أو ربما لم ننكب على قراءة ولو كتاب واحد بأكمله ؟ وحتى لو افترضنا أننا
قرأنا كتبه كلها أو بعضها، فهل قرأناها قراءة الدارس/الباحث المتبصر المحترس من السقوط في حكم جاهز، أم قرأناها كما لو كنا نقرأ رواية فننخرط في الصراعات القائمة بين شخوصها ونتيه في الأحداث التي تعج بها؟
إن فكر الجابري ما زال يقرأ بعيون ما قبل الجابري. والانتقادات التي وجهها هذا الأخير للقراءات العربية الحديثة والمعاصرة للتراث أو الغرب أو الواقع العربي الإسلامي مازالت أسيرة لرؤية سلفية، أي ترتكز على سلف معين، سواء كان هذا السلف ليبراليا أو ماركسيا أو دينيا … و” الفكر العربي الحديث والمعاصر هو في مجمله فكر لا تاريخي يفتقد إلى الحد الأدنى من الموضوعية “، والآليات الذهنية والبنيات اللاشعورية والأطر المرجعية التي توجه تفكيرنا – والتي كشف عنها الجابري في مشروعه الفكري بالنقد والتحليل الرصين – ما زالت قائمة ولم يتم تجاوزها. بل لا نجانب الصواب إذا ما قلنا بان فكر الجابري يتحدى الواقع العربي ومختلف مستويات التفكير فيه ، ويتجاوز معاصريه. فقد قال ومنذ سنة 1980 في مقدمة كتابه ” نحن والتراث “: إننا نعتقد بان الدعوة إلى ” تجديد الفكر العربي” أو “تحديث العقل العربي” سيظل مجرد كلام فارغ ما لم يستهدف، أولا وقبل كل شئ ، كسر بنية العقل المنحدر إلينا من عصر الانحطاط، وأول ما يجب كسره – عن طريق النقد الدقيق الصارم – هو ثباتها البنيوي … إن تجديد العقل العربي يعني، في المنظور الذي نتحدث فيه ، إحداث قطيعة ابستمولوجية تامة مع بنية العقل العربي في عصر الانحطاط وامتداداتها إلى الفكر العربي الحديث والمعاصر .
كلمة أخيرة، إني أدعو إلى أن نتعامل مع أي مفكر- وليس الجابري فقط – متحررا من كل حكم جاهز ومن كل نظرة مسبقة. وذلك حتى تستطيع أن تكون رأيا مستقلا ومبنيا على أسس متينة وبشواهده القرائية. فإذا كانت آفة الأخبار رواتها، فان آفة الأفكار نقادها. فأنت قد تتفق مع بعض المفكرين في أرائهم كلها أو بعضها، وقد ترفضها جملة وتفصيلا، وقد تتركها – إن شئت – ” للنقد القارض للفئران”، ولكن ليس قبل أن تتكرم بمعاشرتهم حتى وان كانوا أفظاظا غلاظ القلب.
المطلب الأول: دراسة وتحليل مفهومي، العصبية والدولة عند الجابري
لم يكن الجابري صاحب مشروع فكري واحد وإنما صاحب مشاريع عدة من صميم هموم الفكر العربي المعاصر، فضيلتان كبيرتان لازمتا الجابري هما: اجتهاد في توليد الأسئلة وإخلاص لفكرة القومية العربية، إذ كان يرى أنه لتحقيق ذلك، فلابد من إعمال أدوات التحليل المعرفي ومناهجه في دراسة التراث- ومما يدل على القيمة الفكرية للرجل، فقد – صدر، في خلال أسبوع واحد صدر في بيروت أكثر
من كتاب عن المفكر المغربي الكبير الراحل الدكتور محمد عابد الجابري، وفي هذا دليل على أهمية هذا المفكر وما تركه من تراث هو موضع عناية الباحثين العرب في كل مكان.
والواقع أن الجابري أسهم إسهاما عظيما في تجديد الفكر العربي المعاصر وفتح مساحات أمام التفكير في قضايا وإشكاليات عدة بعضها كان بكرا، وبعضها كان مطروقا واحتاج الأمر إلى تطوير النظر فيه، وأبرز هذه الكتب الصادرة حديثا في بيروت عن الجابري هو كتاب بعنوان: العقلانية والنهضة في مشروع محمد عابد الجابري، وهو عبارة عن أبحاث ومناقشات دارت في ندوة نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت وشارك فيها نفر من الأكاديميين المعنيين بالقضايا الفكرية والفلسفية، وهم الدكاترة (أنطوان سيف، حسن حنفي، رضوان السيد، عبدالإله بلقزيز، فيصل دراج، فريد العليبي، كمال عبداللطيف، ووجيه قانصو)، كما شارك في النقاش أكاديميون وباحثون آخرون.
وفي أبحاث ومناقشات الكتاب ما يؤكد عظمة الجابري وما أنجزه لا في ميدان واحد، بل في ميادين مختلفة. ويخرج قارئ هذا الكتاب بانطباع مفاده أن الجابري لم يكن وحسب صاحب “مشروع” وإنما صاحب مشاريع عدة لا تقتصر على جانب من الجوانب، وإنما تتسع لتشمل مناحي عديدة هي من صميم هموم الفكر العربي في هذه المرحلة، وربما في مراحل لاحقة، فقد فتح مساحات في حقل الإسلاميات ودراسات التراث وتاريخ الفكر، قديمه وحديثه، وهو ينتمي إلى جيل المجددين الكبار في هذا الميدان مثل محمد أركون وحسن حنفي والطيب تيزيني وعلي أومليل، وإن انفرد عنهم جميعًا بفكرة المشروع التي شغلته طويلا، وأخذته إلى تحرير رباعيته في نقد العقل العربي ( تكوين العقل العربي، وبنية العقل العربي، والعقل السياسي العربي والعقل الأخلاقي العربي)، وبتوظيف عُدّة اشتغال منهجية مستقاة من مجال الدراسات الابستيمولوجية، أثارت حول أعماله جدلًا في أوساط الدارسين لكنها أحدثت في الوقت عينه الصدمة المعرفية الإيجابية التي كان يحتاج إليها في هذا الميدان الدراسي حتى يستقبل ضروبا جديدة من المقاربة المنهجية ومن الأسئلة الإشكالية فيه.
لم يكن الجابري يخفي توجّسه من معطيات المستقبل، لا سيما تلك التي تتعلق بمستقبل الدولة العربية وما يتهددها من أخطار يرجع معظمها إلى أزمة الخطاب السياسي في ظل منظومة مؤسساتية تعيد اجترار نفس الأنساق التقليدية، وتغلفها بقوالب مستحدثة لا حداثية.
ناقش الجابري، في هذا الصدد، مفهوم “العصبية”، مستحضرا منظور ابن خلدون، غير أنه كان أكثر تفاؤلا إزاء قدرة الدولة في العالم العربي على التخلص من وهم العصبية الدينية كعنصر وحيد للجمع والوحدة… فالاتحاد لا تحدده العصبية فقط، بل هو ممكن أيضاً في إطار تعاقدي مدني حديث يضمن
حريات الأفراد، ويتيح للمختلفين حقهم في الشعور بوجودهم المختلف وسط الجماعة. يمكن كذلك للدولة في العالم العربي أن تقوي من وجودها بشرعية العدالة والقيم الحديثة القائمة على مبادئ الحرية والتعايش وآليات الحوار والتبادل. نستحضر كل هذه الأفكار في أدبيات الجابري، ونحن نرى اليوم جيلاً جديداً من العصبيات الفئوية تنهش أجساد قسم كبير من الدول العربية، وتسعى لإقامة دويلات داخل الدولة الواحدة. لم يتغير المنطق كثيراً، فالعصبية لا تزال هي المحرك الأساسي لمشروعات هذه الدّويلات. نرى اليوم كيف تبسط سلطة الميليشيات الطائفية سيطرتها على دول بكاملها في العالم العربي، لقد اعتقلت هذه الميلشيات مفهوم المواطنة، وأنهت عمل المؤسسات، وأعادت عدداً من بلداننا إلى مرحلة “ما قبل الدولة”، يحدثُ كل ذلك نتيجة لاستغلال هذا النوع من “العصبية” البراغماتية في سياقات سياسوية ضيقة تعتاش على الأمراض الطائفية، وتجعل من مسألة الولاء للخارج وأجنداته وجهة نظر تُحترم !
يشير محمد عابد الجابري في كتابه “إشكاليات الفكر العربي المعاصر” إلى أن: الدين يوظف سياسيا منذ قيام معاوية بن أبي سفيان ضد علي بن أبي طالب، إذ ألقى مجموعة من الخطب في المدينة والكوفة ودمشق، يسوّغ فيها مبررات استلامه للسلطة مكرسا فكرة الجبر. بمعنى أن القضاء والقدر هما اللذان سار على دربه الخلفاء من بعده دون استثناء، مكرسين هذه الفكرة ساقا الخلافة إلى بني أمية. ومن هنا التي تعتبر الدين محورا لممارسة السلطة . ومن المعيش ينقل ابن خلدون الحال الذي آلت إليه “الدولة الموحّدية” بعدما تقوّت وسادَت أيام استنادها إلى الدعوة الدينية للمهدي ابن تومرت وعبد المؤمن، حتى إنها تجلّدت على من هم أجلد منها وأصلب، لكنها لمّا تخلّت عن دعوتها الدينية هانت وسهُل الهوان عليها. فالسبب الأساسي إذاً، لمَهلكة المسلمين وتشتت حُكمهم راجع، حسب ابن خلدون، إلى كونهم لا يُقوّون عصبية الدم بالدعوة الدينية كي يتحول الكل إلى عصبية سياسية.
حسب الأستاذ محمد نبيل ملين: فإن إمامة الصلاة كانت تسمح للخليفة بممارسة صلاحياته وبإعطاء طابع ديني لوظيفته، غير أن السلطان الشريف أوكل هذه الوظيفة فيما بعد إلى كبير علماء حضرته. وقد كان السلطان يقوم على غرار أسلافه بشعائر دينية أخرى كذبح أضحية العيد بنفسه، وهي الطقوس التي لا زالت حاضرة في المغرب إلى يومنا هذا. الرهان لم يكن أساسا على الخطبة – يقصد خطبة الجمعة – بقدر ما كان يتعلق بالسيطرة على المساجد لما لها من ثقل في صناعة المواقف ونشرها .
إن الجابري أراد أن يبلور مشروع قراءة نقدية لفكر ابن خلدون، معللا ذلك بما يكفي من المنطق والوضوح، ومستعرضا مبررات طرحه لسؤاله ومدققا في التأويلات والاستنتاجات التي انتهى إليها. يبتدئ الجابري بحثه بتوضيح قصده باصطلاح الخلدونية الذي لا يعني به: تيارا فكريا محددا نشأ مع ابن خلدون واستمر إلى يومنا هذا، ولا يقصد به: فكر ابن خلدون بمجمله كما احتفظت لنا به مؤلفاته، كما لا يقصد به: مجمل الدراسات الحديثة والمعاصرة التي تناولت فكر ابن خلدون ككل أو كأجزاء “، وإنما يعني بالخلدونية مشروعا، ظلت تحمله مقدمة ابن خلدون، لعدة قرون… دون أن يجد من يواصل التفكير فيه لتطويره واغنائه وتحقيقه. وعلى هذا الأساس فان الجابري يعني بما تبقى من “الخلدونية”: العناصر التي تنتمي إلى الخلدونية… والتي ما والت تحتفظ – بشكل أو آخر- بإمكانية الحياة معنا نحن أبناء الوطن العربي الآن. وقد دلل على هذا الرأي بتحليل دقيق – وهو المتخصص في ابن خلدون – مبينا فيه تداخل الجوانب الذاتية والموضوعية في إشكالية ابن خلدون، ومبرزا التناقض الذي ذهب ضحيته المشروع الخلدوني والعوائق الابستمولوجية التي تكبله والمسكوت عنه فيه . فابن خلدون أراد أن يؤسس علما جديدا (علم العمران)، يضع نفسه خارج المنظومة الأرسطية، وفي ذات الوقت يستقي من نفس المنظومة مفاهيمه المنطقية وأرضيته الابستمولوجية. فالشيء الجديد الذي كان يحمله المشروع الخلدوني “هو طموحه إلى بناء منهج و تصور جديدين للتاريخ ” ولكن هذا الطموح النظري ظل أسير الفكر الأرسطي (بمنطقه و جهازه المفاهيمي) الذي كان يبسط سلطته المعرفية على العالم القديم (منذ بزوغ الفلسفة الأرسطية وحتى فجر النهضة الأوربية).
لقد اجتهد ابن خلدون في إيجاد مبررات لعلم العمران داخل المفاهيم الأرسطية والتصورات المرتبطة بها التي كانت مرجعا لكل منهج أو معرفة تريد أن تلتمس لنفسها مشروعية علمية. لكن الشئ الذي لم يعه هو أن علمه الجديد الذي بشر به في مقدمته كان يتطلب جهازا معرفيا لم يستطع إنشاءه هو ولا احد من معاصريه. وما دام الفكر الحديث قد حقق قطائع متواصلة مع المنظومة الأرسطية فان تطوير الفكر الخلدوني رهين بتحريره من عوائقه وإعادة بنائه على أسس جديدة.
يخلص الجابري إلى أن: ما تبقى من الخلدونية اليوم شيئان متناقضان؛ طموحها وعوائقها الابستمولوجية. وبان الخلدونية: لا يمكن أن نحققها نظريا إلا إذا ألغيناها واقعيا. وبعبارة أوضح: يجب أن نتجاوز بالتحليل والنقد الخلدونية كواقع حضاري ما زال يكبل مجتمعنا، لنحصل على الخلدونية كنظرية مستقبلية تخطط لنهضتنا. ولن يتأتى لنا هذا إلا إذا حررناها من عوائقها المشار إليها سابقا، وجعلناها ترى في حاضرنا نحن ما لم تكن تراه في حاضرها هي. انه البعد الاقتصادي في الصراعات الاجتماعية في الوطن العربي الذي يجب رصده وراء النزاعات الطائفية والتحركات العشائرية، في الماضي والحاضر. بهذا المعنى يمكننا أن نفهم قصد الجابري بعبارته: إن ما تبقى من الخلدونية هو ما يجب أن ننجزه وليس ما أنجزته، باعتبار أن إشكالية ابن خلدون ما زالت معاصرة لنا وقابلة للاندماج في اشكاليتنا التي نعيشها الآن.
من هنا انطلق فكرة الباحث في دراسته هذه حول معالم نظرية ابن خلدون في العصبية والدولة من منظور إسلامي، متوخياً أولاً وقبل كل شيء إلى تقديم آراء ابن خلدون كما هي، وكما فكر فيها هو، انطلاقاً من نظرة شمولية، ترص على أن تجد للأجزاء مكانها في الكل، حرصها على النظر إليها على ضوء مشاغله الشخصية وتجربته الاجتماعية، وعلى اعتبار أنها امتداد وتطور لمنازع الفكر العربي السياسي والاجتماعي من خاصة.
وقد كان حرص الباحث شديداً على دراسة الفكر الخلدوني في إطاره الأصلي: إطار تجربته وظروف عصره، وعلى ضوء الثقافة التي غرف منها على اعتبار الفكر الخلدوني فكر فلسفي يتجاوز صره وبمقدار ما هو تاج هذا العصر نفسه، لأن مقدمة ابن خلدون هي، بإجماع الباحثين، تراث إنساني قيم يعكس بقوة وعمق خبايا وتفاصيل أهم وأخطر حقبة من التاريخ العربي الإسلامي وليس هذا وحسب، بل هو يعكس أيضاً، ولربما بنفس الدرجة من القوة والعمق، جانباً مهماً من جوانب واقعنا العربي الراهن، هذا الواقع نتواجد فيه جنباً إلى جنب بنيات القرون الوسطى، والبنيات الجديدة التي خلقها عالم اليوم.
لقد حاول ابن خلدون أن يفلسف التاريخ الإسلامي إلى عهده، وهي محاولة فريدة حقاً. لقد كون ابن خلدون لنفسه تصوراً خاصاً به للتاريخ الإسلامي ومسيرته، وهو تصور مستمد من ظروف تجربته، ووقائع عصره والمعطيات الاجتماعية والتاريخية للمجتمعات التي عاش فيها ودرس أحوالها، ولذلك بات من الضروري على الباحث لفهم النظريات الخلدونية على حقيقتها، استجلاء الظاهرة الخلدونية بكامل أبعادها. إن تجربة ابن خلدون السياسية والاجتماعية والعلمية، ونظرياته في هذه الميادين نفسها، جانبان متكاملان يشرح أحدهما الآخر ويتممه: الظاهرة الخلدونية ممارسة اجتماعية ومعاناة نفسية، والنظريات الخلدونية تعبير عن تلك الممارسة وتفجير للطاقات التي جندتها هذه المعاناة.
يقول الجابري بأنه إذا كانت قيمة الظاهرة الخلدونية بالنسبة للبحث، ليست في استعراض وقائعها الخارجية، بل في محاولة فك رموزها، وجلاء غوامضها، فإن قيمة النظرية الخلدونية بالنسبة للمشاغل والاهتمامات الفكرية الراهنة، ليست هي الأخرى فيما يقرره من نتائج أو يصدره من أحكام، بل انها كامنة في حل الإشكالات العديدة التي تطرحها، والقضايا الشائكة التي تثيرها. لقد اتخذ ابن خلدون، كما هو معروف، من “العصبية” وهي محور البحث في هذه الدراسة، المفتاح الوحيد الذي حلّ به جميع المشاكل التي يطرحها سير أحداث التاريخ الإسلامي إلى عهده، وإذا كان المفتاح الذي يفتح جميع الأبواب مفتاحاً مزيفاً، كما يقال، فإن قيمة آراء ابن خلدون ليست في الدور، أو الأدوار، الذي يعزوه للعصبية وفاعليتها، بل انها تكمن في الإشكالات العديدة التي تطرحها نظريته في العصبية والدولة والعلاقة القائمة بينهما، هذه العلاقة التي تحدو، في نظره، شكل العمران وتجسم حركة التاريخ. لماذا تتحول العصبية في لحظة من اللحظات من مجرد رابطة سيكولوجية اجتماعية إلى قوة “للمواجهة والمطالبة” ومن ثمة تأسيس الملك والدولة؟ لماذا تضعف العصبية و”تنكسر سورتها”، بمجرد بلوغها غايتها من الملك والشروع في جني ثمراته؟ لماذا تفسد العصبية بالترف والنعيم وهي القائمة أصلاً على النسب أو ما في معناه؟ لماذا تسقط الدولة بفساد عصبيتها لتقوم عصبية جديدة بتأسيس دولة جديدة؟ ثم لماذا كانت الحضارة، كما يقول ابن خلدون، “غاية للعمران ونهاية لعمره، ومؤذنة بفساده”؟ وأخيراً لماذا كانت حركة التاريخ الإسلامي كما يصورها ابن خلدون، حركة انتقال من البداوة إلى الحضارة، حركة تسير لا على خط مستقيم، بل على شكل دورة؟ تلك هي الإشكالات الرئيسية التي تطرحها فلسفة ابن خلدون التاريخية والتي حاول الباحث إلقاء الضوء عليها وتحليلها واستجلاء أبعادها في هذه الدراسة.
من هنا تكمن خطورة الأدوات التقليدية التي أهملت الدولة العربية مسار تطويرها، وأهملت معها وظيفة التجديد. إنّ أهم ما يمكننا أن نقف عنده اليوم في أدبيات الجابري هو الحاجة الملحة للنقد، فهو السبيل الوحيد لإعادة بعث الحياة في قلب مجتمعات عربية أنهكها الجمود، والنقد هنا يشبه عملية رياضية منطقية تستند في حيثياتها إلى قاعدة اشتغال نفعيّة تقبل العناصر الإيجابية، حتى وإن كانت وليدة الماضي، وتلفظ في الوقت نفسه كل الشوائب التي حملتها أمواج النّقل، وعلقت بذاكرتنا الجماعية، بل وتحكمت في محرّك الوعي وعطلته عن العمل.
المطلب الثاني: الدولة والعصبية، والعقلانية السياسية في فكر الجابري، أية علاقة ؟
يؤكد الدكتور محمد الشرقاوي، أستاذ تسوية النزاعات الدولية في جامعة جورج ميسن في واشنطن، وكبير الباحثين في مركز الجزيرة للدراسات القطري، أنه: وبعد تحميص شتّى النظريات والمفاهيم في السوسيولوجيا الغربية عند “تالكوت بارسنز”، و”يورغ زيمل”، و”آلن تورين”، و”ماكس فيبر”، و”إيميل دوركهايم”، وغيرهم، توصلت أبحاثي إلى أن أفضل ما يقدم نسقا ديناميا أو متحركا بين البنية والفرد والمجموعة، ويساعد على تفكيك أسباب توحّد أو تفتت الذريات والقبائل والمماليك في الماضي، وانقسامات المجتمعات المعاصرة وتنامي قوة الحركات الاجتماعية وسقوط الأنظمة السياسية في الحاضر، كان ضمن الرصيد المعرفي لابن خلدون، ثم يضيف: فركزت أطروحتي على دراسة العصبية باعتبارها قوّة التضامن المتحول قديما وحديثا في مرحلة التغيير السياسي والاجتماعي. أظل وفيا لضرورة تعريف السوسيولوجيا السياسية وعلم فض الصراعات لدى الغرب، خاصة في الولايات المتحدة، على تركة ابن خلدون الذي لم تترجم مقدمته إلى الإنجليزية إلّا عام 1957 بفضل أستاذ الأدب العربي واللغات القديمة في جامعة “ييل فرانز روزنتال- Franz Rosenthal” في كتاب نشرته دار نشر “جامعة برينستون”. وصدرت ترجمة أخرى مختصرة عام 2014 بعنوان “المقدمة: مقدمة إلى التاريخ”. وحتى اليوم، يحتار الباحثون الغربيون في الترجمة الدقيقة لمفهوم العصبية، بعد أن نحتوا لها أربعة وعشرين مرادفا محتملا منها: (group feeling, esprit de corps, clan spirit, clannism, communitarism, fellow feeling, group spirit, group solidarity, agnatic
وعن كتابات الجابري، عن ابن خلدون يرى أنها “تظل مهمّة في اعتبار العصبية والدولة وعلاقة الجدلية القائمة بينهما مفتاحا إلى فهم تحوّلات التاريخ الإسلامي، وتجسد نبوغ ابن خلدون في تحليل تشكّل العمران البشري وحركية التاريخ. وأجدني أنطلق من حيث انتهى الجابري، إذ لا أعدّ مفهوم العصبية تركيبة إسلامية أو عربية فحسب، بل يختزل أيضا آليات التحوّل الاجتماعي وخاصة وظيفة التضامن، أو التلاحم كما يسميه الجابري، في أكثر من مظاهرة، وأكثر من حراك، وأكثر من ثورة في الشرق وفي الغرب. وقد تفيد العصبية أيضا في دراسة سباق القوى العظمى، ولن يغيب ابن خلدون عن ذهني إذا انغمستُ في تحليل تفكك الاتحاد الأوروبي بعد البريكست، وأزمة كورونا أو التنافس الاستراتيجي بين الصين والولايات المتحدة بتنامي عصبية اجتماعية، وحتى تكنولوجية، صينية لتجاوز الحقبة الأمريكية في زعامة العالم، أو كما أشار فريد زكرياء إلى قرن ما بعد أمريكي Post-American century. “
إن العالم العربي هو أحوج ما يكون اليوم إلى خطاب العقل الشفاف الذي لا ينتمي إلا لذاته الواعية، ولا يصبو سوى للحقيقة الصافية دون تشويه ودون خرافة… فقد قال الجابري ذلك قبل سنوات عديدة: «نحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر من كل ما هو ميّت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي .
نصادف ذكرى رحيل محمد عابد الجابري، والذي نستعيده هنا هو عمله “العقل السياسي العربي” الذي طبع للمرة الأولى عام 1990. في هذا العمل سعى الجابري إلى فهم محددات وتجليات العقل السياسي العربي في سياق تعثر الدولة الوطنية وفشل مشروع النهضة وعودة النزاعات العشائرية والطائفية والأصولية الدينية، والتي تهيمن اليوم على المشهد المشرقي العربي بشكل تام. فالنزاعات آلت إلى حروب، والحركات الأصولية انتهت إلى الدولة الإسلامية والنصرة والقاعدة، وتعثر الدولة الوطنية انتهى إلى تفككها وانهيارها. مما يبرر العودة إلى محاولة الجابري في هذا المجال.
قبل البدء بالحديث عن محددات العقل السياسي العربي لدى الجابري، فلا بأس من قول شيء عن “العقل” العربي السياسي لديه، درءاً لأي سوء فهم أو التباس ممكن عند الحديث عن “العقل” العربي. ما يعنيه الجابري بـ”العقل” هو القوالب أو المفاهيم السابقة على الفعل السياسي والتي نستخدمها لفهم العالم “السياسي” ومن ثم التصرف حياله، والتي تعطي المعنى للفعل السياسي وتبرره وتسوغه، وهي في هذا تشبه المقولات المتعالية الكانطية من حيث إنها تقدم إطاراً لتعقلنا للعالم، كما لمخيلتنا السياسية التي تصوغ أحلامنا وأهدافنا ونوازعنا وأمانينا.
ونظرا لما يفرضه علينا البحث في هذه المرحلة الجامعية، من تحديد لمجال الكتابة، والتزام بالضوابط المنهجية المعتمدة في سلك الإجازة، فإننا سنركز ها هنا على التحليل والمناقشة، التي تبناها العديد ممن اشتغلوا على فكر الجابري، وخاصة ما تعلق منه بالعقلانية السياسية في علاقتها بالدولة والعصبية ليس إلا.
ليس المقصود بالعقل هنا عقلا لا تاريخيا أو لا اجتماعياً، حيث يحيل الجابري إلى التكون التاريخي له ويعرض في مقدمة كتابه نقاشاً مستفيضاً بالإضافة إلى العديد من الملاحظات حول الأصول الاجتماعية لهذا العقل، بما يمكننا لاحقاً من تقديم تفسير مادي لهذا العقل إن شئنا، متعلق بشروط المعاش العربي. ما يسعى الجابري لدراسته هو العقل نفسه، بنيته وتكوينه وآليه علمه كما تجلت في التاريخ العربي الإسلامي.
يرى الجابري أن العقل السياسي العربي يملك ثلاثة محددات تنظم فعله السياسي، وهي العقيدة والعشيرة والغنيمة، والتي بدورها تشرح لنا الكثير مما نراه اليوم من عوامل تمزق العالم العربي، ممثلة بالنزاعات العشائرية والطائفية والأصولية الدينية.
العشيرة الغنيمة العقيدة
تحيل لدى الجابري إلى كل جماعة تنتظم على أساس العصبية في تضامنها الذاتي وتلاحمها في مواجهة الجماعات الأخرى، مما يكرس ضعف الهوية الوطنية وفكرة الجماعة الوطنية التي ننتمي إليها جميعنا. لهذا لا تقتصر العشيرة على القبيلة، بل قد تكون الطائفة أو الانتماء الجهوي مثلاً. والقصد منها هو المكسب الذي يتم تحصيله عبر القوة وليس عبر تنمية الجانب الإنتاجي للاقتصاد. في الحالة البدوية، كانت الغنيمة تأتي عبر الغزو والنهب، وهي حالة لم نغادرها في العديد من بقاع العالم العربي إلا مع بدايات القرن العشرين. والغنيمة أيضاً الخراج الذي تحصلت عليه الدولة من الفلاحين بالقسر والقمع، وتولت توزيعه لاحقاً على رجالها، بدءاُ من السلطان مروراً بالحاشية والعسكر والولاة وغيرهم من رجال الدولة أو بطريقة أفضل أهل العصبية. وفي العصر الحديث، هي الريع الذي تتولاه الدولة وتعيد توزيعه على أهلها ورجالها، وتعيد تشكيل التركيب الطبقي للمجتمع، فالثراء والفقر ليسا متعلقين تماماً بالنشاط الاقتصادي، الإنتاجي، بل بالعلاقة مع الدولة. تحتكر الدولة الريع، بدءاً من الثروات الطبيعية وانتهاء بشهادات الاستيراد والتصدير والمناقصات، وتقوم بتوزيعه. ما تعنيه الغنيمة هو أن الثروة مرتبطة بالقوة وليس بالاقتصاد، فلا تقوم على تثمير الموارد وإداراتها بالشكل الأكفأ، مما يفترض عقلانية اقتصادية تكون أساساً للعقلانية عموماً، بل مرتبطة بالسيطرة على القوة التي تتيح النهب والتحكم بمصادر الثروة. محدد أخير يقدمه الجابري، فكلمة العرب لا تجتمع إلا على الدين والنبوة، فيتجاوزون عصبياتهم التي تمزقهم وتضعفهم. تجاوز العصبيات وتنازعها لا يتم إلا عبر القوة التوحيدية للدين، وهو ما حصل يوماً مع الإسلام. اليوم تظهر الحركات الدينية لتلعب دوراً شبيهاً، ساعية إلى توحيد المجتمع في مواجهة الدولة وأهل العصبيات. لكن هذا الاتكاء على الدين يجعل من هذه الحركات ناطقة باسم الله والإسلام، جاعلةً من تفسيرها هو الإسلام عينه، وليس مجرد أحد التفاسير الممكنة. وبما أن هذه الحركات تخوض صراعاً مع/على الدولة، فإن تفسيرها للإسلام يصبح بدوره محكوماً بالسياسة. فكما أن الدولة هي الأمير، فإن التنازع مع الدولة باسم العقيدة، يُدخل الدولة والأمير إلى العقيدة، لتصبح السياسة هي الحكم الأخير في أمور العقيدة.
يستنتج من الجدول أنه:
-يمكن لهذين المحددين (العشيرة والغنيمة) سوية أن يقدما لنا صورة مثيرة عن حال السياسة لدينا، من جهة تكون الدولة أداة السلطان والجاه والطريق الفعلي للثروة، ومن جهة أخرى لا يمكن السيطرة على الدولة وحفظ هذه السيطرة إلا عبر عصبية قوية وشوكة. فتصبح السياسة تنازعاً بين عصبيات غايتها السيطرة على الدولة، واستخدامها لقمع العصبيات الأخرى المناوئة لها وتعزيز التحالفات حول العصبية الحاكمة عبر المال والثروة الخاضعين بدورهما للدولة. فلا يمكن للتغيير أن يحصل إلا عبر عصبية أخرى أقوى وأشد من العصبية الحاكمة، تطيح بها وتدمرها؛
-رصد الجابري لغياب دولة المؤسسات في التاريخ العربي. تتمحور الدولة بكليتها حول الأمير، الدولة هي الأمير والأمير هو الدولة، فلا تمييز بين ما هو عام وما هو خاص. يستعير الجابري تحليل فوكو لاستعارة الراعي والقطيع لتحليل السلطة في التراث المشرقي، حيث تتماهى السلطة بالراعي الذي يرعى قطيعه، ووجود هذا الراعي هو شرط وجود واستمرار القطيع. الراعي هو الذي يقرر ويجمع القطيع ويحفظه ويقوده إلى الكلأ والماء، والقطيع في النهاية ليس إلا ماشية. السياسة لدينا، كما تجلت في الأيديولوجيا السلطانية وفقه الطاعة، استمرار لتقليد الراعي وقطيعه؛
-تكتمل الصورة التي يقدمها الجابري للعقل السياسي العربي، دولة السلطان القائمة على العصبية والتي تتحكم بأمور الجاه والثروة (نمط إنتاج يقوم على الريع) بما يحفظ هذه العصبية ويديمها، فيغيب التمييز بين الدولة والسلطان (النظام)، فتكون الدولة بأكملها مخصصة لإدامة حكمه وحفظه، ولا يمكن مواجهة السلطان إلا بالاتكاء على عصبية أخرى؛
-في المقابل، يلعب الدين الدور التوحيدي للمعارضة في مواجهة هذه العصبية الحاكمة، من أجل تأسيس عصبية جديدة أو هوية متجاوزة للعصبية، لكن عندها تدخل السياسة في الدين، بل وتصبح هي الحكم في أمر الدين، مما يفتح الباب للتعصب والتطرف، وتحويل الدين إلى مجرد وسيلة للسياسة. هكذا تغيب دولة المؤسسات والجماعة الوطنية والتمثيلية والمواطنة والعقلانية الاقتصادية وأية عقلانية أخرى، ولا معنى عندها لمساءلة معقولية السلوك السياسي انطلاقاً من تصور مثالي عن مصلحة الدولة المشتقة من المصلحة الوطنية، فمصلحة الدولة هي مصلحة السلطان.
من بين من وقع في فخ مرادفة “العلمانية” بـ “الدين” مفكر مرموق مثل محمد عابد الجابري، وذلك في كتابه “الدين والدولة وتطبيق الشريعة”، وقد ناقش طرحه هذا جورج طرابيشي في كتابه: “هرطقات”، وقد شن طرابيشي هجوما مبررا على طرح الجابري الذي يمكن التذكير به؛ فهو يطرح “الديمقراطية” بديلا عن “العلمانية”، ويشرح رأيه قائلا: في رأيي أن من الواجب استبعاد شعار (العلمانية) من قاموس الفكر القومي العربي، وتعويضه بشعاري (الديمقراطية) و(العقلانية)، فهما اللذان يعبران تعبيرا مطابقا عن حاجات المجتمع العربي… إن مسألة (العلمانية) في العالم العربي مسألة مزيفة، بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات، ثم يضيف تعبيراً عجيباً عن “العقلانية السياسية”؛ إذ يقول: الديمقراطية تعني حفظ الحقوق؛ حقوق الأفراد، وحقوق الجماعات، والعقلانية تعني الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية، وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج .
ما ذكره الجابري عن وظيفة “العقلانية السياسية” هو ذاته وظيفة “العلمانية”، لكنه يهرب منها لسببين اثنين؛ الأول: إقناع المجتمعات بالعقلانية السياسية (التي تقوم بوظيفة العلمانية نفسها) لتحرير المعنى من الإرث الديني المعادي للقيم التي تنتجها العلمانية، والذهاب إلى مصطلح آخر يطمئن جموع المسلمين بأن العلمانية لا ضرورة لها، وإنما الأولوية للعقلانية، وذلك انطلاقاً من اعتقاد الجابري بأن العلمانية في المجتمعات العربية من نشرها هم “مسيحيو الشام” وبالتالي لا حاجة للمسلمين بمفهوم يروج له المثقفون المسيحيون. السبب الثاني: يلخّصه بقوله: عبارة (فصل الدين عن الدولة) عبارة غير مستساغة إطلاقاً في مجتمع إسلامي، لأنه لا معنى في الإسلام لإقامة التعارض بين الدين والدولة. وهنا يشترك الجابري مع الاعتراض الراديكالي على مفهوم العلمنة، ويأخذ الفهم السطحي للعلمانية باعتباره القول النهائي. يخشى الجابري من “فصل الدين عن الدولة” لاعتباره مما يخدش المفهوم السياسي الإسلامي وأدوات «تطبيق الشريعة .
لكن الفهم الذي اعتمده الجابري من أجل نقض مفهوم العلمانية في غاية النقص؛ إذ تطورت استعمالات المفهوم، وتحرر تدريجياً من الإرث المسيحي الديني، ولم يعد مجرد “فصل” سطحي بين الدين والدولة، بل تشكّلت العلمانية بوجوه جديدة ومتعددة مع نمو وتطوّر النظريات الفلسفية السياسية المتجاوزة لكلاسيكيات العقد الاجتماعي (من روسو إلى كانط) وبالتحديد مع النقلة الكبرى التي ساهم بها جون راولز في أبحاثه عن العدالة المنصفة، التي تعد زلزالاً في مفهوم العقد الاجتماعي وتطويراً لتصوّرات وظيفة الدولة، وتعد من أفصح النظريات الواقعية التي تحاول إيجاد الميزان السياسي (البعد الأخلاقي ليس جوهرياً) لضبط حالات التفاوت وتحديد مفهوم الإنصاف بين الفرد والدولة والآخر، لكن الأستاذ الجابري أخذ العلمانية كما يفهمها الناس ثم نقض ما يفهمه الناس عنها.
يتبع.