*محمد عسيلة
على مر الزمن، ومن خلال الحقب التاريخية المختلفة، لطالما تم التأكيد على السعي نحو السلام كهدف إنساني أساسي، وذلك في ظل التحديات والأزمات التي تراكمت، وتزايدت في تعقيدها مع تطور الإنسانية.
في العصر الحالي، يطرأ السؤال حول كيف يمكننا تجسيد مفهوم السلام وتحقيقه في واقع يعاني من تفشي الحروب، والنزاعات، والعنف، والفوضى؟
هذه الأسئلة ليست فقط مُلحة، ولكنها أصبحت ضرورية في كل حديث يتعلق ببناء مستقبل يتسم بالاستقرار والأمان للأجيال المقبلة. تبرز هنا أهمية استكشاف مفهوم السلام عبر الثقافات والحقب التاريخية لفهم كيف يمكن تحقيق هذا الهدف المشترك، والبحث في أساليب التحالف والتعاون بين مختلف الشعوب والدول، لنضمن للإنسانية مستقبلاً يسوده السلام والتآلف.
السلام، ليس مجرد كلمة تُلقى في التحيات ولحظات الوداع، بل هو مفهوم عميق يستحق الفهم العميق والترويج من أجل تعديل سليم ونفعي لمقاماته. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: “وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا” (النساء: 86). هذا التوجيه الإلهي يشير إلى أهمية السلام والتحية في العلاقات اليومية بين الناس.
في العالم المعاصر، يُعتبر السلام هدفًا مشتركًا بين مختلف الثقافات والشعوب، رغم الاختلافات العميقة في التفسيرات والمفاهيم والدلالات والابعاد المتعلقة به. تصور السلام في بعض الثقافات المختلفة يظهر تقاطعات وتمفصلات وتلاقي.
ففي الثقافة الأوروبية وخاصة في السياق الحديث، يرتبط مفهوم السلام غالبًا بغياب الحرب والنزاع وتحقيق الأمان والاستقرار السياسي والاقتصادي. كما يُركز كثيرًا على حقوق الإنسان والديمقراطية كعناصر أساسية لتحقيق السلام.
وفي الثقافة الشرقية والعربية يُعتبر السلام (سلام) جزءًا لا يتجزأ من التوجهات الروحية والاجتماعية، وهو مرتبط بالتوازن والعدالة والرحمة. يتم تعزيز السلام من خلال التفاهم والتعايش بين الأفراد والمجتمعات، بالإضافة إلى العلاقات الحسنة مع الآخر مهما كان مختلفا.
وفي الثقافة الأسيوية والتي تحمل تنوعا هائلا في الأفكار والمفاهيم، ولكن عموما، في كثير من الثقافات الأسيوية، يعتبر السلام ناتجًا عن التوازن والتناغم في العلاقات، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع. ويُشدد على الأهمية الروحية للسلام وكيفية تحقيقه من خلال الفهم المتبادل والاحترام المتبادل.
أما في الولايات المتحدة وبشكل عام في الثقافة الأمريكية، يُرتبط السلام غالبًا بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. السلام يُعتبر هدفًا يمكن تحقيقه من خلال تعزيز العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية والاستقرار السياسي.
يُظهر مفهوم السلام تعددا وتنوعا ثقافيا، حيث يُفسر ويُعبر عنه بطرق مختلفة وفقًا للقيم والتقاليد المحلية والتاريخ. ومع ذلك، يبقى هدف السلام وتحقيقه شيئًا مشتركًا بين جميع الثقافات والشعوب حول العالم.
على المستوى الشخصي، السلام يمثل حالة من الاتزان الداخلي والرضا الذاتي. الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور يقول: “السلام الداخلي هو أساس السلام الخارجي”. لذا، يجب على الفرد أن يتسامح مع نفسه ويقبل الآخرين بتنوعهم واختلافاتهم.
على المستوى الاجتماعي والدولي، يصبح مفهوم العدالة والمساواة جزءًا لا يتجزأ من السلام. كما قال الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ” (النحل: 90). يتجسد هذا في التعاملات بين الشعوب والدول، وفي تشجيع العلاقات المثمرة والتفاهم المتبادل.
الفيلسوف الإيطالي نيكولو مكيافيلي يشير إلى أن “لا يمكن تحقيق السلام دون قوة لفرضه”. وهنا، يظهر التحدي في الحفاظ على السلام والعدالة في ظل التحديات والصراعات المستمرة.
لتحقيق السلام، يتطلب الأمر الترويج لثقافة السلام من خلال التعليم ورفع الوعي حول أهمية التعايش السلمي. يقول الله تعالى: “وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ” (الرحمن: 9). هذه الآية تُشير إلى أهمية العدالة والمساواة في جميع جوانب الحياة، بما في ذلك ترويج السلام.
في إطار التحالف الإنساني، يبرز مفهوم التحالف والتعاون بين الشعوب والثقافات مع التركيز على الإنسان كمحور أساسي. يشير التحالف الإنساني إلى التكامل والتعاون بناءً على تقدير مشترك للإنسانية والتنوع.
بالتفاؤل، كما قال جوهان فولفغانغ فون غوته، الشاعر والفيلسوف الألماني: “لا شيء يستحق القتال من أجله أكثر من السلام”. يمكن للتحالف الإنساني أن يقدم إطارًا للتفاهم المتبادل والتعاون، ليبنى عالمًا أكثر سلامًا واستقرارًا من خلال الجسور التي يبنيها بين مختلف شعوب الأرض.
بتمعّن، نجد أنّ السلام ليس مجرد غاية، بل هو مسار ووسيلة يتم فيها تحقيق العيش المشترك والتعاون بين الأمم. السلام يحقق التواصل بين الثقافات ويقوم على تحقيق التفاهم والاحترام المتبادل بين الشعوب، وفي الحقيقة، الإنسانية تُعبر عن طموحاتها السامية عندما تسعى نحو تحقيق السلام والاستقرار.
فالفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في تأملاته حول السلام العالمي يقول: “لن يكون هناك سلام دائم ومستدام، إلا إذا نشأ من الداخل”. هذا يعني أنّ السلام يجب أن يكون منطلقًا من الضمير الفردي والجمعي، وأن يكون ناتجًا عن إرادة صادقة للتعايش السلمي والتفاهم.
كما يشير القرآن الكريم إلى أهمية العدالة والمساواة في إقامة السلام بقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ” (النساء: 135). هنا يُلقى الضوء على دور العدالة كمبدأ أساسي في ترسيخ قيم السلام والتعايش بين الإنسان وأخيه الإنسان.
من خلال النظر في الفلسفة والإيمان، نجد أن السلام يكتسب أهميته من خلال التفاهم المتبادل والعمل المشترك لتحقيق أهداف مشتركة. فالركائز التي يُبنى عليها السلام تتجاوز العلاقات الدبلوماسية والاتفاقيات، إلى تعميق فهم الإنسان لنفسه وللآخر، وتقبل التنوع والاختلاف كجزء لا يتجزأ من الواقع الإنساني.
وعليه لا يمكن أن نحقق السلام دون الالتزام بالعدالة، والاعتراف بالأخر، وفتح قنوات التواصل بين مختلف الثقافات والأمم.
ولكي تبقى الإنسانية متماسكة وموحّدة في تنوعها، ولتعيش جميع الشعوب في سلام، يجب على كل فرد وكل مجتمع أن يتخذ من السلام مسارًا للحياة ومن العدالة دربًا للتعايش، وأن نسعى جميعًا لتحقيق هذه القيم النبيلة التي تضمن بقاء الإنسان وازدهاره.
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
ــــــــــــ
*استاذ باحث في قضايا الدين والثقافة والهجرة – ألمانيا، استاذ محاضر بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية التطبيقية بكولونيا، ورئيس جمعية العائلة المغربية للثقافة والشباب
المصدر : https://dinpresse.net/?p=20628