عزالعرب لحكيم بناني
ليس من عادتي أن أعقِّبَ على آراءِ رجالِ السّياسةِ، لأنني لا أدري هل هي آراء تجاملُ الرأي العامَّ الذي أوصلهم إلى السلطة أم هي آراء ذات قيمةٍ علميّةٍ بين المتخصّصين في المجالِ. على كلِّ حالٍ، يظلُّ رجلُ السّياسةِ خاضعا لسلطةِ الهيئة الناخبة ويستطيع أن يفعلَ أيَّ شيءٍ لاستمالةِ أصواتِ النّاخبين؛ إلى درجةِ أنّه قد يجدُ ما يُبرِّرُ الكذبَ أو ما يُبَرِّرُ إخفاءَ معلومات أساسيّةٍ عنهم أو النطقَ بأنصافِ الحقائقِ إذا ما اعتقد أنَّ جهلَ الهيئة الناخبة أو الأمّية أو الأحكام المسبقة السلبية المتجذرة فيها تبرِّرُ هذا الصنف من السلوكِ. وعليه، من الأفضلِ لنا أن نتريَثَ في التفاعل مع قضايا الإرهاب التي تقضُّ مضاجع الجالية الإسلامية في أوروبا وتُعزِّزُ الشعور بخطر الإرهاب الذي يخلق مناخا مكفهراً من أجواء الرعب وعدم الشعور بالأمان في الحياة العامة، بعد الجريمة النكراء والحادث المأساوي المريع الذي أودى بحياة الأستاذ سامويل باتي ظلماً وعدواناً.
نحن نعلم جيدا أنَّ اللائكية laicité منظومة قانونية فرنسية خاصّة بها ونكاد لا نجد لها مثيلاً في العالم ما عدا في دستور مصطفى كمال أتاتورك في تركيا ; ومختلفة عن العلمانية sécularisme المنتشرة في باقي ربوع الدول الغربية. واللائكية نظامٌ لا يسمح للدولة بتمويل الكنيسة و لا بتمويل البحث والدراسات العليا في القضايا العقدية لمختلف الديانات، ما عدا في ستراسبورغ التي لم تكن خاضعة للسيادة الفرنسية سنة 1905 حينما سُنَّ قانون اللائكية. ما هي النتيجة؟
النتيجة هي أنَّ الدّولة و لا المُواطنَ العادي يعلمان أيَّ شيءٍ عن المسيحية ولا اليهودية ولا عن الديانات الشرقية ولا عن الإسلام. وقد أثَّرَ هذا الجهل على قدرة المتعلم الفرنسي على فهم التاريخ والروايات الأدبية التي استعملت في القرن 18 و 19 بمصطلحات ومفاهيم دينية لا يدرك القارئُ المعاصر معناها اليوم وقد لا يفهم الرّواية لذات السَّبب. ومن بين علامات الجهل نجد الخلط بين الإسلاميّين والإسلام وبين السلفية والتطرف. يؤدّي هذا الخلط إلى وصم الجالية المسلمة بأحكامٍ جاهزةٍ مبنيةٍ على الشكل الخارجي، وقسمات الوجه والآراء المعلنة.
كيف نواجه الخلطَ، ما دام أنه يودّي إلى التمييز المناهض للحقوق الأساسية في المساواة في الحظوظ والأعباء؟
هناك أوَّلاً خط دفاعي عفوي ضد التمييز: عندما يحسُّ المهاجرُ بهذه الوصمة التي تتحول إلى وصمة عار stigmatisation ، آنذاك يدافعُ المهاجرُ المتعلمُ، ولو كان ملحداً أو لا أدرياً أو لامبالياً أو مندمجاً داخل المجتمع، عن حقِّ المهاجرِ المسلم في عدمِ التعرُّضِ للأحكام الجاهزةِ وللحقِّ في عدمِ التَّمييزِ. يصبح الملحد متديناً واللاأدريُّ مؤمناً إذا ما اكتشفَ وجودَ مواطنين يتعرَّضون للتمييز بسبب الجهلِ والأحكامِ المسبقةِ. فنحن نعلم أن الآخرَ هو الذي يُحدِّدُ هويتي. وتتغيرُ هويتي بحسب الهوية التي يتبناها المهاجم. وهكذا يتحول الأمازيغي إلى عربي والعربي إلى أمازيغي والمتدين إلى لا أدري إذا ما كانت الهوية المقابلة تنذرُ يظلم لا يُغتَفَرُ.
ثانياً، يمكننا حماية المسلمين كذلك من خلال التنبيه إلى خطر الإرهاب الذي يستعمل وسائل شيطانية لاستدراج الضحايا المغفلين من بينهم. فحينما أضع نفسي مكان المهاجرين الأجانب في فرنسا الذين يواجهون التَّمييزَ، أعتقد أنَّهم غيرُ محَصَّنين ضدَّ التطرُّفِ والإرهابِ. ونحن نعلمُ أنّنا لا نستطيعُ أن نضع مواصفاتٍ دقيقةٍ للإرهابي المحتمل لأنه قد يخضع لغسيل المخ دون علم أحد. وكما أنَّ قرينة البراءة حقٌّ محفوظٌ لكلِّ النّاس، كذلكَ لا نستطيع أن نعرف شخصيةَ الإرهابي الذي يشكّل خطراً وشيكاً على المجتمع. قد يكون ذئبا مقيما بيننا. وهذا ما يتطلب انتباه الأسرة والمدارس والمجتمع عامة إلى آليات الاستقطاب في المساجد والجمعيات الثقافية وغيرها.
ثالثا، ويمكن حمايتهم بفضل التربية والتعليم، وهذا هو الأهم برأيي وهنا المشكلة القانونية- السياسية التي لا حلَّ لها.
فقد عملت الدول التي تتبنى العلمانيةَ بدل اللائكية على تنظيم الجاليات المسلمة في هيئاتٍ تمثيليّةٍ كمُخاطَبٍ وحيدٍ للدولة، كما هو الحال في الجمهوريّةِ النّمساوية، وساعدت على إدماج التعليم الديني المتنور في الجامعات من أجل تكوين المرشدات والخطباء وأساتذة التعليم الديني في المدارس. تعاملت هذه الدّول بكامل الجدّيةِ مع الشأن الديني وتحكّمت فيه بطرق تربوية وأكاديمية وبمهنيّةٍ عاليةٍ.
المشكلة في الدول اللائكية هي أنّها تستفيد من القيم الإنسانية العليا التي تميز النظامِ اللائكي؛ ولكنها لا تتجرَّأُ على الاعتراف بحدود هذا النظام؛ يعتبر هذا النظامُ أنَّ الأملَ يظلُّ معقوداً على مسلمين فرنسا كي يبتكروا إسلاماً فرنسيّاً أو كنيسةً إسلاميّةً كما توجد كنيسة مسيحيّةٌ وتنظيم كنسيٌّ يهوديٌّ.
هل تنجح فرنسا في هذا التّحدّي؟ هذا شأن فرنسيٌّ خالصٌ.
فرنسا واعيةٌ بحجم المشكلِ وتعتقد أنَّ النجاح الذي حققته مع المسيحية قد تحقّقه يوماً ما مع الإسلامِ، من أجل تكييفه مع الخصوصيّةِ الفرنسيّةِ. ولكن بما أنَّ هذا المبتغى قد لا يتحقَّقُ على المدى القريب بحكم تبعية التنظيمات الدينية الفرنسية للدول الأصلية للجاليات المسلمة وبحكم تعدُّدِ المذاهب الفقهية واللغات، فإنَّ الحلَّ المؤقت الذي اختارته الدولة اللائكية من قبل هو تنظيم الشأن الديني بطريقة غير مباشرة أو بالوكالة من خلال الاستفادة من الدُّول الإسلامية التي ينحدر منها المهاجرون. يُبرزُ هذا الحلُّ ضبابيةً كبيرةً في التعامل مع اللائكية.
يدعو رجال السياسة المهاجرين في هذه الدول إلى تنظيم الشأن الديني، بينما يلجئون إلى تنظيمه بطريقة مستترة بفضل إشراك الدول الإسلامية التي تملك خبرةً واسعةً في ذلك؛ ترفض السياسة العمومية لهذه الدول اعتماد الإحصائيات الإثنية وجمع معلومات حول الأقليات الثقافية بدعوى أنَّ كلَّ المواطنين متساوون أمام القانون؛ والحقيقةَ أنَّ التنبؤ بالمجرمين المحتملين لا يحتاج دائماً إلى إحصائيات لأنَّ الاسم الشخصي وقسمات الوجه وطبيعة العمل المأجور ومحل السكن والدخل عناصر كافية لتعزيزِ التمييز والخلط بين المواطن أياً كان أصله والمجرم أو الإرهابي المحتملِ.
لا نملك بالفعل إلا أن نُدينَ الأعمال الإجرامية التي يذهب المواطنون الأبرياءُ ضحيتها، ولكننا لا نكتفي بالتنديدِ، لأن مسؤوليتنا أكبر من ذلك وهي أن نحاربه بالتربية والتعليم واتباع سياسة واضحة في تنظيم الشأن الديني من طرف الدولة. ونحن نعلم أنَّ نشأة الأحزابِ الدينية كانت مرتبطةً على الدوام بالحاجةِ إلى تنظيم الشأن الديني والعودة إلى الإسلام الصحيح والحكم بما أنزل الله، في صورةٍ مقاربةٍ من التنظيمِ الكنسي في العصر الوسيط. لا يختلف تنظيم الأحزاب الدينية آنذاك عن التنظيم الكنسي؛ فالمضمون واحد ولو أنَّه لا أحد يتجرأ على الإشارةِ إلى “الكنيسة الإسلامية”.
وبما أنه لا يجوز لنا أن نطلق اسم “الكنيسة” على تنظيم الشأن الديني الإسلامي، فضل الدعاة إنشاءَ الأحزاب السياسية والجماعات الدينية، عسى أن تقوم بهذه المهمة. ولو تُرِكَ تنظيمُ الشأن الديني للمواطنين وشأنهم، كما هو حال الدول الأوروبية فإنهم سيتفرقون إلى إحزابٍ وشيعٍ ومصالح محلية وأجنبية، وسيستفيد الإرهاب باسم الدين مستفيدٍ من الفوضى التنظيمية التي تعاني منها أعرق الدول الديمقراطية في المجال الديني.
المصدر: صفحة الكاتب على فيسبوك
المصدر : https://dinpresse.net/?p=11486