أكد مرصد الأزهر لمكافحة التطرف فى تقرير له أن الأعياد تعد جانبًا مضيئًا من الجوانب التي تتجلى فيها مظاهر وسطية الإسلام واعتداله؛ فالإسلام ليس دينا جامدًا يُبغِض الفرح والسرور، بل إنه يحض على الترفيه المباح ويحث عليه طالما أنه لا يَقعُد بالمرء عن تأدية فروضه الدينية، ولا يخرج به عن حدود المروءة ومكارم الأخلاق. وربما كان صحابة الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد فهموا في بداية الأمر أن ثمة تعارضًا بين الترفيه المباح ومبادئ الإسلام، لكن المصطفى عليه الصلاة والسلام لم يترك فرصة إلا وبيّن فيها أن الترفيه جزء أصيل من الإسلام لأنه يُحفّز المسلم على القيام بفرائضه الدينية، ويساعد على تلبية حاجات النفس والروح.
إذا أردنا أن نوضح ذلك، يمكننا الاستشهاد بالكثير من الأدلة الشرعية، والتي نكتفي منها هنا بحديثين فقط وردا في مناسبة الأعياد الإسلامية، فقد رُوى أن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: “قدمَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ المدينةَ ولَهم يومانِ يلعبونَ فيهما فقالَ ما هذانِ اليومانِ قالوا كنَّا نلعبُ فيهما في الجاهليَّةِ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إنَّ اللَّهَ قد أبدلَكم بِهما خيرًا منهما يومَ الأضحى ويومَ الفطرِ”، أخرجه أبو داود، كما رُوي أن أبا هريرة (رضي الله عنه) قال: “دخلَ عُمرُ والحبشةُ يلعَبونَ في المسجِدِ، فزجرَهُم عمرُ رضيَ اللَّهُ عنهُ، فقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ: دَعهُم يا عمرُ، فإنَّما هُم بنو أرفده”. أخرجه النسائي.
في هذين الحديثين الشريفين، نرى أن الإسلام حرص على تشريع أعياد للمسلمين لمقاصد كثيرة منها: خلق هوية خاصة للمسلمين بحيث يكون لهم أعيادهم الخاصة التي لا يتبعون فيها غيرهم، ثم إنها أعياد يحتفل فيها المسلمين بتمام نعمة الله عليهم بتأدية ركنين أساسيين من أركان الإسلام وهما الصيام والحج، كما أنها مناسبات اجتماعية تساعد في تحقيق التواصل بين المسلمين جميعا، وبين الأقارب بصفة خاصة، لما في ذلك من منافع تتمثل في إنهاء الخصومات، وإزالة الأحقاد، ومتابعة الناس أحوال بعضهم البعض من أجل مواساة المكلوم، وإعطاء المحروم، والعطف على اليتيم.
ويرشدنا الحديث الثاني المذكور أعلاه إلى أن الإسلام يسمح باللهو المباح إذ منع الرسول (صلى الله عليه وسلم) سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) من زجر أهل الحبشة للعبهم، بل إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) دعاهم لمواصلة ألعابهم، رغم أنهم كانوا يلعبون في المسجد، ومعلوم مدى قدسية المسجد ومكانته في الإسلام.
في مقابل هذه النظرة الوسطية الشاملة واسعة الأفق، نرى جماعات التطرف والإرهاب التي تدعي زورًا وبهتانًا أنها تمثل الإسلام تقلب هذه الموازين رأسًا على عقب؛ حيث تحول هذه الأعياد من مواطن للفرح والسرور بفضل الله ونعمته إلى مواطن لترويع الآمنين، وبث الرعب في قلوب المسالمين، ودعوات للقتل والتفجير والإرهاب.
لقد دأب تنظيم دعش الإرهابي على حث أتباعه والمتعاطفين معه إلى شن هجمات والقيام بتفجيرات في الأعياد واستغلال تجمعات الناس في الأعياد حيث مواطن السرور، لبث الرعب في قلوبهم. هذه الدعوات تتواصل عامًا بعد عام منذ إعلان التنظيم الإرهابي قيام دولته المزعومة في العراق عام 2014، وقد ساعده على تنفيذ وعوده تبنيه إستراتيجية “الذئاب المنفردة”، حيث يستغل من خلالها أتباعه أو المتعاطفين معه حول العالم في تنفيذ هذه الهجمات، حتى وإن لم يكونوا على اتصال مباشر، حيث يحرص على توفير كتيبات عن صنع المتفجرات وأدوات القتال من مواد بسيطة وأوليّة، وكيفية إحداث أكبر تأثير من خلال استهداف التجمعات الكبرى في المناسبات والأعياد.
ولا تفرق هذه الجماعات بين أعياد المسلمين وأعياد غير المسلمين، فتجدهم يحثوا أتباعهم على شن الهجمات والقيام بالتفجيرات خلال أعياد الكريسماس أو رأس السنة الميلادية أيضًا.
وقد دأب مرصد الأزهر لمكافحة التطرف على التحذير من مثل هذه الدعوات، ففي شهر ديسمبر 2021، حذر المرصد من منشورات لتنظيم داعش الإرهابي هدِّد خلالها باستهداف المواطنين أثناء احتفالات أعياد الميلاد ورأس السنة في الدول الغربية، وفي بيان له، قال المرصد: «في منشور جديد للتنظيم الإرهابي، ظهر رجل مُلثَّم يحمل سكينًا في إحدى يديه، في حين يحمل في يده الأخرى رأس سانتا كلوز الذي يرمز إلى أعياد الميلاد ورأس السنة عند الغربيين؛ ما يمثِّل تهديدًا صارخًا مع انتشار الاحتفالات بأعياد الميلاد في أنحاء متفرقة حول العالم».
وهكذا أنه كلما حاولنا استقصاء موقف الإسلام الصحيح من أية قضية أو موقف تتبناه هذه الجماعات الإرهابية والمتطرفة، نجد أن هذه الجماعات أبعد ما تكون عن تطبيق روح الإسلام ومبادئه، بل يمكننا القول بكل ثقة، دون أن نعدو الحقيقة، أن تلك الجماعات تعمد إلى قلب تعاليم الإسلام إلى عكس مقصودها، وتُعرض عن مقاصد الإسلام الحقة إلى أغراض خبيثة وماكرة لا تهدف منها سوى تحقيق مآربها المتمثلة في شغل العالم بها وبما تفعله من ترويع للآمنين بعد أن تم القضاء على معظم وجودها الجغرافي، لكن لا تزال المعركة مستمرة في القضاء على أفكارها التي تسربت إلى بعض العقول غير المتزنة، وهي معركة وجودية تستلزم تضافر جهود العالم أجمع ونرجو ألا تطول.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=17510